هيام مصطفى قبلان - ذاكرة العسل المرّ

ذاكرة العسل المرّ يلتفّ الحزن حول عنق البحر ..يطوّق الرّمال وهمس الموج ، ساكنة هي مدينة الحلم، البواخر وشواطىء الصيادين ، شباكهم المثقوبة منذ فجر صارخ ،لم يقذف البحر أحشاءه لا بسمكة ولا بمحارة. كل شيء يتخدّر ، صخور تخبّىء سرّا ،نقشا ، وذكريات.المقاهي التي كانت تضج بالمتنزهين أقفلت أبوابها ،، ملح ضبابيّ يغتال طبقات من الاسمنت الملطّخة بألوان متلاحمة فقدت طراوتها ، نهشتها أظافر الغرباء وقلوب لا تعرف الرّحمة . جلس متأملا الأفق البعيد ،، خيط رفيع يفصل بين عالمين ،، وهي حافية تسير على الماء تخرج من صدفة الوقت لتزيل ترسّبات خريفه المتقاعس ..! كأنّه يراها للمرة الأولى بشريطها الورديّ ،،لم تتغيّر غير من خصلات بيضاء اندسّت بين أثلام شعرها المحشوّ ، المضفور بجديلة عقصتها عند أسفل رأسها الصغير ، كعائدة من رحلة مستعصية ، كالنّطفة الأولى ...!


جلسا على مقعد خشبيّ ، يجترّ عطب شهوة لرائحة لحم محروق، لم يستطع البحر أن يطفىء بعضا من قساوة الحرّ الشديد الذي أعلن عصيانه . هوجاء كانت عاصفة الحرب المدمّرة فوق زحام الرّكام ، مدينة النور تطلق زفراتها الأخيرة، وتنعق الغربان في سماء مضرّجة بلون الأرجوان . لامس أصابعها بيدين مرتجفتين ، ووجهها المتآكل صفرة سلّم نفسه لظلال عينيه الصاهلتين من خمر المنافي ...


- أليست هي الصّدفة يا" كارمن" ؟

- الصّدفة أنك تعود اليّ يا " ستيفانوس"

- لم نلتق بزمن الحبّ ، ها نحن نتباكى بحثا عن فتات ..


تنهّد ستيفانوس ، هو الذي فقد في الحرب عينه اليسرى برصاصة اخترقت جدار منزله فأدمت ريحان القلب !


ألقت برأسها على كتفه ،، سرحت الى البعيد كانت تبصر بعينه الأخرى ما وراء البحر ، عينه طالما لاحقتها بنظرات الشوق ، فراشة الحقل بفستانها المزركش ، بلهفة الشباب المتفتّح ، برائحة التفاح على خديها تتبخّر أنفاسها فوق راحتيه يشهق:


- أراك طفلة تدرج في الحقول ، شقية لا تعرف النوم ، فراشة الضوء ، غزالة تسابق الريح والسنابل .

- وهل ترك لنا الزمن في جرار العمر غير الدمع ؟

- لا دموع بعد اليوم يا حبيبتي ،، الليل حارس البحر لا تخشي عليه من القنّاصة ، انتهت الحرب ...

- ولم ينته الحزن ، قد نشلحه على جدار حديقة تنبت من ضلعه زهرة ، قد يورق في نيسان ويرتدي زرقة البحر وربيع الغيث ، يسافر بنا الى حيث كان الوقت يزحف مستجديا عيون السّماء أن ترفق بنا ولا تنسانا ..


يصمت الموج الاّ من التحام روحين فوق الرّدم ، بين ادراك المسافة والعناق يترك " ستيفانوس" لخياله أن يجاور غرف قلبها ويفرغ في كأس مناه خمرة روحها ، يرتشفها كعصير ليمونة ،، يفيق من سحابة دخان ثكلى ، من بقايا صور لشوارع تحتسي الدّم وأوراق مبلّلة بالموت الليليّ! بجانب المقعد عصفور يبحث بين الرمال ،، يغافل حركة الشمس وهي تميل نحو المغيب ،، يوقظ الموج من صمته ،،،تململت " كارمن ":


- انظر ستيفانوس للعصفور المرتعش ، هل ينشد ضالته في هذا المكان ،، من بذرة سقطت سهوا تحت خبب الرمل ؟

- بل يبحث عن ثقب يدفن فيه رقصته الأخيرة ! يتمرّغ بماء تسرّب الى ريشه المنكمش ، نعال تتراكض لتقبض على جناحيه ، بين شهقتين يلتقط " ستيفانوس" بقايا حلمه ، يطفو على وجه الماء خيال لجسد يعبق برائحة الكرز الممزوج بعسل مرّ ...!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى