عبدالقادر وساط - رسالتان من ابن قُتَيبة إلى أحمد بوزفور

من ابن قُتَيبة الدِّينَوْري، الأديب النحوي اللغوي
إلى الأديب القاص الألمعي أحمد بوزفور

السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد،
فقد بلغني أنك جاريتَ جلساءَك في الكلام، حين عابوا عليّ بعضَ ما جاء في كتابي "الشعر و الشعراء" من حديث عن الشعر الجيد، الذي حَسُنَ لفظه وجادَ معناه. كما عابوا عليّ موقفي من الصراع القائم بين القديم والمُحْدَث، معَ أنني تَوفيقيّ، أجمع أو أحاول أن أجمع بين القديم والحديث... فأنا في هذا الباب لا أختلف كثيرا عن أبي العباس المبرد، ولا عن أبي عثمان الجاحظ.
وبلغني أيضا أنكم لا تكادون تَذكرون في مجالسكم الأدبية من مصنفاتي سوى كتاب "الشعر والشعراء"، مع أني ألفتُ كتبا أخرى عديدة، منها (معاني الشعر) و(عيون الشعر) و(عيون الأخبار) و(أدب الكاتب). وهذا العلامة ابن خلدون - المولود بعد وفاتي بأربعة قرون - يقول عني في مقدمته: "وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، هي: أدب الكاتب لابن قُتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والنوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبعٌ لها وفروع عنها..."
على أني لم أقتصر في تصانيفي على الأدب، فقد كنتُ عالما لغويا ونحوياً كذلك، أجمع بين المذهبين البصري والكوفي، وأوفقُ بينهما، ما استطعتُ إلى ذلك سبيلا.
ورغم اشتغالي بالقضاء في الدِّينَوْر- وهو ما جعل الناس يسمونني الدينوري- ورغم كثرة مصنفاتي في علوم القرآن والحديث، فلم أكن أتوانى عن المجادلات الكلامية - وما كان أكثرها في زمني!- مما جعل بعض الناس يتهمونني بالزندقة ويطالبون بقتلي. ولكن الله سبحانه وتعالى كتبَ لي أن أموت على فراشي. وكانت وفاتي في أواخر القرن الهجري الثالث، وأنا في الثالثة والستين من العمر. وقد متّ جراء "تسمم غذائي"، كما يقول أطباءُ زمنكم، إذْ أكلتُ هريسة فأصابتني حرارة، ثم صحتُ صيحة شديدة، ثم أغْمِيَ عليّ إلى الظهر، واضطربتُ ساعة ثم هدأتُ، فما زلتُ أتشهد إلى أن أدركَتْني الوفاة عند السَّحَر، رحمنا الله جميعا وغفر لنا.

*****

● رسالة إلى ابن قتيبة من أحمد بوزفور

شيخنا الجليل أبا محمد
أعز الله أمرك وخلد في الصالحات ذكرك، وبعد
أخشى ياسيدي أن يكون كاذبٌ مُغْرض قد أوغر صدرك عليَّ وعلى جلسائي وأصدقائي، فلستُ أعْلمهم - والله شهيد- إلا عارفين بفضلك، مقدرين لمكانك في العلم.
ونحن نسميك في منتدياتنا (جاحظ أهل السنة)، والجاحظ شيخك على ما بينكما من اختلاف المذهب والروح.
كما أننا نسميك المَرْوَزيّ، لأنك تنحدر من "مَرْو".
وأهل مَرْو معروفون بحدة المزاج ومشهورون بالبخل. فقد روى الجاحظ أنهم من أبخل الناس، وذكرَ أنَّ بخلهم ينتقل حتى إلى دواجنهم، فترى الديك في كل أنحاء الدنيا ينبش عن الحبة حتى يستخرجها، فيقدمها للدجاجة، إلا دِيَكَة َمرو، فإنها تستأثر بالحَبّ لنفسها ولا تطعم منه الدجاجات. ويرجح الجاحظ أن البخل في الماء الذي يشربونه. ونحن كثيرا ما نتساءل- من باب المزاح - إن كان قد انتقل إليك شيء من طباع مرو هذه.
أما عن كتابك "الشعر والشعراء" فلستُ أكتمك أن بعض جلسائي يأخذون عليك التناقض الواقع فيه. فأنت في مقدمة هذا الكتاب لا تفضل عصرا على عصر، بل ترى أن العلم والشعر والبلاغة مقسومة بين عباد الله في كل دهر، مما يوحي بأنك ستنصف المحدثين من القدماء وتُحْدث قطيعة مع النقد العربي القديم، الذي كان يرى الفضل كله للقدماء، فلما انتهيتَ من الجانب النظري في المقدمة، وبدأتَ التطبيق العملي في الكتاب، رددْتَ الفضل كله أو جله للقدماء، وأخذتَ تتتبع معاني المحدثين وتردها إلى من سبقهم ثم من سبق الذي سبقهم.
كما يأخذ عليك هؤلاء الجلساء إيثارك للمعنى على اللفظ، واعتمادك عليه في ذوق الشعر وتقديمه، مثل قولك في مقدمة كتاب الشعر: "وضَرْبٌ من الشعر حَسُنَ لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:
ولما قضينا منْ منىً كل حاجة
ومسَّحَ بالأركان منْ هو ماسحُ
وشُدت على حدب المهارى رحالنا
ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطحُ
و لا اختلاف بين جلسائي - أعز الله شيخنا- في أنَّ الشعر يَكونُ في بناء العبارة وفي غرابة الصورة وتماسك الشكل... وقُدْوتهم في ذلك إمامٌ جاء من بعدك، اسمه عبد القاهر الجرجاني، ألّفَ فيما ألفَ كتابا عن القرآن عنوانه (دلائل الإعجاز)، يقول في تضاعيفه: "ونَجدُ في الاستعارة العامي المبتذل، كقولنا: رأيت أسدا ووردت بحرا ولقيت بدرا، والخاصي النادر، الذي لا تجده إلا في كلام الفحول، كقول الشاعر:(وسالت بأعناق المطي الأباطح). ويرى هؤلاء الجلساء، تأسيسا على هذا، أن الشعر- كلَّ الشعر- في قوله (سالت )، في البيت المذكور، خلافا لرأيك، فما قول شيخنا الجليل، أنار الله به؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى