لبنى عون - أمسية متأخرة في المستقبل* ..! قصة قصيرة

في أمسية متأخرة في المستقبل أخذت تعيد شريط ذكريات سنواتها الأفلة الحافلة بالكثير الكثير. أخذت قلمها وأيقضت قلبها ووعيها وأمرت اناملها أن تتحدث نيابة عنها فماذا سطرت وعما عبرت.؟! في تلك الليلة التي ستصادف ذكرى عيد ميلادها عصفت على بضع أوراق مايلي: *1* ولى النهار شاردا بمرايا ضوءه، وهجم الليل جارا أسدال اسوداده وراءه وانقضت الساعات تترى وهي متأبطة سهرة استثنائية حتى شارفت ساعة متأخرة من ليلة ستكونها في المستقبل. تصغيين في هذه اللحظات إلى عام انصرم ، ومقطع موسيقي هادئٍ للقيصر. الآن في هذه الأثناء تتممين السابعة والعشرين وتسجل هذه الساعة الأولى من يوم التاسع من حزيران دخولك العام الثامن والعشرين من رحلتك فوق مواكب الزمن. هذه الساعة تقرع داخلك كأنها ناقوس ممتزج بالغبطة والخوف معا. الغبطة من أنك كأنثى هأنتذا قد انتصرت على ذاتك الضعيفة وتجاوزت عقبات كأداء كادت تعصف بك دون هوادة. والخوف من القادم في أرض لا تعرف معاني ضوء الشمس والقمر ولا أسرار دوران الأيام والشهور والسنوات. ارض دوما تتجه نحو الخلف تبحث عن العيش في ماضي الحياة. *2* نوبة سعال تأتي من الصالة ... يبدو أنها كحة الجدة العتيقة الغالية. تجلس على الكرسي خلف الطاولة المقابلة لباب حجرتها الصغيرة... قنديل الطاقة الشمسية متدل على طاولتها فقط وبقية الغرفة شبه مظلمة. تتطلع في عدد من أشياءها التذكارية التي اقتنتها بنفسها أو أُهديت أليها في مناسبات مختلفة خاصة في فترة طفولتها أو سنوات صباها المبكرة. قيمة تلك الهدايا لا تكمن في قيمتها المادية وإنما في قيمتها التي تحتفظ بها الذاكرة دونما تتأثر بعوامل التعرية الناجمة عن تقادم السنوات. فكل هدية أو قطعة تحكي من الذي أهداها لها ابيها أو أحد اقاربها... ومتى أهديت لها ومن أين أُتيَ بها..؟. شريط الذكريات يمر سريعا أمامها كأنما السنوات تمر مثل مرور السحاب. وكأن الأيام ومضات من العين لم يعد لها وجود سوى بقايا صور شبه محروقة في الذاكرة. *3* أجمل بقايا تلك الصور التي تقاوم الاحتراق بالذاكرة هي تلك التي ارتسمت داخل تلك الشقة المطلة على شارعي هائل و الرقاص. قبل سنوات عشر وتحديدا في العام 2007 لم تكن تعلم أنها ستحتفل بأخر عيد ميلاد لها وأن قبلته في ذلك العيد ستكون آخر قبلة منه في عيد ميلادها. كانت فرحة وهي ترى بريق ابتسامته تعلو محياه بينما كانا يتبادلان القبلات وقضمات من تلك التورتة... وتلك الجملة التي اعتادت أن تسمعها من فمه فتطرب لها وكأنها قطعة موسيقية. كان هو اول شخص يذكره ويصيح لي ويقول لي كل سنة وانت قرودتي. كان يحتفل معها مهما كانت ظروفه المختلفة و انشغالاته العملية. كان آخر عيد ميلاد تحتفل به وهي ترى وجهه المشع بنظارة الحب والقلق المستكين خلف تفاصيل كيمياء وجهه. تجر نهدة وهي تتذكر كيف أنها في العام التالي 2008 استقبلت ذكرى يوم ميلادها بصمت وديع. نعم انها لا تطلق على ذلك اليوم من ذكرى ميلادها من ذلك العام بعيد ميلادها. فلم يكن قد انقضى على رحيله سوى خمسة وستين يوما ... يومها فضلت أن تحتفي بذكرى يوم ميلادها هناك جوار قبره الذي يرقد داخله بكل الوقار. ما أسوأ الشعور باليتم خاصة عند فتاة على وشك أن تجتاز أخطر وأصعب سنواتها المصيرية وهي إكمال دراستها الثانوية دونما شعور باليتم. لا ريب أن ذلك الشعور اليوم وهي تدلف بوابة السنة الثامنة والعشرين صار أقل إيلاماً وأقل غبناً وأقل خوفاً بل ربما قد تحول لما يمكن أن يوصف به من أنه شعور بالفقد. إن شعور الفقد الذي تفتح به صفحة الثامنة والعشرين غير شعور اليتم الذي كانته وهي تفتح صفحة السنة الثامنة عشرة من عمرها. الشعور بالفقد هو ما يتكرر لديها لاسيّما في المناسبات الحزينة أو الفرائحية. فقط هي نعمة النسيان التي تداوينا من آلام الافتقاد لمن لولاهم ما كنا هنا. حقاً نعمة النسيان التي لولاها ما استطاع الإنسان أي إنسان أن يتحمل الأحزان لعام كامل. لولا النسيان لكان عمر الإنسان ينتهي بمجرد أن يدخل دائرة الاحزان وتهاجمه بأشباحها المرعبة. قيمة نعمة النسيان أنها تجعل الفرد يستعيد رباطة جأشه فيثب واقفاً ويستأنف حياته كرة ثانية. *4* كثيرة هي الطموحات ... الأحلام التي نتوق لتحقيقها كطموحات مشروعة مقدور علينا تحقيقها لكنها تتأجل رغما عنا ... تتأجل بسبب الواقع الذي جُبِلنا على أن نعيشه. ينتابنا كثيراً الخوف من ذلك التأجيل مع تقادم سنوات عمرنا بيد أنه لا يجب علينا أن نرضخ للواقع وتحدياته. على هذه الأفكار الأخيرة... اللاستسلام للواقع فكرت وقدرت وقررت أن تكونه هذا العام الجديد من عمرها. مواجهة الواقع ... بمعنى الإنتصار على خيباته وعوائقه وعقباته. من يرى أن الفرص غير متاحة لأن يعيش الواقع قويا ويستعد للقادم مهما كان تعيسا ومجهولا فهو جاهل وغبي وأحمق. بالنسبة لها إن أفضل طريقة لاستغلال الوقت في ظروف كالتي تغرق بها حياة الناس هي القراءة. نعم ستقرأ الكثير ... مفتاح الحل هي المعرفة. مفتاح إدراك العقل لواقعه هي المعرفة والمعرفة لا تتحقق دونما قراءة. ثمة روايات وكتب يجب أن تلتهمها كما تلتهم الارضة صفحات الكتب والمجلدات لكن ستلتهمها بعيونها وعقلها ووعيها. ذلك ما ستكون عليه في عامها الثامن والعشرين. .......... * كتبت هذه القصة قبل وقت ليس بقصير عن ليلة في المستقبل هي ليلة عيد ميلاد شخصية القصة.
الأكثر زيارة
  • Like
التفاعلات: محمد الجرادي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى