خديجة وحيد - اشتعـال الظل

ـ هل استيقظت؟

سأل الظل صاحبه الغارق في الحلم الحلم.

ـ كلا. لم أفعل بعد. مازلت أحلم.

ـ سأنتظر طويلا إذن. كعادتي. متى تستيقظ هذه المرة؟

ـ لماذا دوما تستعجلني؟ دعني أختم الحلم. على الأقل كي لا يتعقب شرودي ويطارده برشاشات كوابيسه. أنت تدرك حق الإدراك ما سوف يحدث لو تم له ذلك. دعني أختم الحلم وأشيعه ثم آتي إليك.

بقي الظل وصاحبه كعادتهما متسمرين في حملقتهما.

الظل، من جهته، قابع فوق نهدي موجة مشاغبة تهدهد جغرافية حدوده حينا. وأحيانا كثيرة، تسعى من جهتها لأن تغرقه في خفية عن صاحبه الغارق في حلم لا متناه.

كلما استبطأ الظل صاحبه واستصرخه أجابه:

ـ انتظر حتى يغادرني الحلم، فآتي إليك.

لكنه في حربه الضروس مع الموجة الشرسة لا يملك إلا أن يستعجل صاحبه:

ـ ألا استيقظت! في غفلتك التي طالت، سوف تبتلعني الموجة وتسحق وجهي وأنت غافل عني. وسوف تبتلعك حتما بعدي. فاحذر أن تتجاهلني. فأنا أنت. وأنت مني.

تذمر صاحب الظل من ظله وصرخ فيه من أعماق حلمه:

ـ لماذا دوما تستعجلني؟ مازال لحلمي بقية! إني على موعد مع جزر المتاهات لتغسلني وتطهر ذاكرتي، ثم ألتقي لاحقا بحروف حلزونية الظل –مثلك يا ظلي- لترسم وجهي/وجهك. وتكتب ذاكرتي/ذاكرتك. وتوشمني بعناوين جديدة.

حملق الظل في صاحبه وضغط بكل قواه على جوانبه حانقا متأججا:

ـ أنا أرفض تغيير الذاكرة والوجه.

أرفض أن تسيجني بحروف حلزونية الانتماء.

أرفض أن يسرقك الحلم في غفوة عني وتنام. وأنا هنا، أراهن على صوتك الذي لا يأتي. مازلت أراهن. أصارع الموجة الجحيمية بأظافري المقلمة وتعاويذي المهترئة وبعضا من ذكرياتي المشتعلة. فأنا لازلت أملك ذاكرة، وهي كل ما تبقى لي.

أصارع بحزمة من حجر، كلما سقطت فوق وجه الماء أحدثت غليانا واشتعالا يذيب جلد البحر ويسلخ طلاسمه الممسوخة ويفتت أضلاعه المخرومة بأبواق جوفاء مبحوحة الهدير.

أرفض تغيير الذاكرة

أرفض وجها غير وجهي وعشا غير عشي واشتعالا بغير حطبي.

أرفض أن تحولني إلى أشلاء مملحة ومعلبة تزين بها المتاحف ودور العرض العتيقة وتفتتح بها المهرجانات التأبينية.

أرفض أن تقمطني بصمتك الشائك.

أرفض أن تشذبني من جذوري وترسمني في مخططات بديلة.

أرفض النعش الذي هيأت لي.

أرفض الخرس الذي صوبته نحو صوتي.

أرفض أن أكون سواي.

أرفض أن أتمدد فوق يدي الزمن، مومياء للآتين.

أرفض أن تعجن دمي رفات المرافئ والضعاف وكل العناوين المنفية.

فاستيقظ! انهض من حلمك الخرافي.

لا تسقني لنخاسة الخرائط والأوطان.

الظل يتربص بالموجة التي، بدورها، تتربص به.

تتسلل إليه حينا، من أعماق البدر لتجذبه نحوها كي تتقاذف دعائمه، كي يتفسخ، كي ينتشر عبر موانئ الأرض، كي يذوب وينتهي.

أحيانا أخرى، تتكالب عليه الموجة مع الرياح والزوابع والصواعق المحرقة، فتتعملق وتنقض عليه من السماء لتمزقه فتاتا للأسماك الجائعة.

الظل بدوره يستعد بخطوطه الواهية وتضاريسه الشفافة ودروعه البلورية للمواجهة. لا يملك إلا صبره وحذره. كلما أرادت امتصاصه من أعماق البحر ينط إلى أعلى. مرة يلتحق بالنجوم ويحتمي بوميضها العلوي. ومرة يختفي خلف خيوط الشمس. وأخرى يرابض خلف قلعة ذاكرته الموصدة متشبثا بسقفها العالي. كلما انقضت عليه الموجه المتعملقة واشتهت لحمه وزمنه يقتلع من بركان الذاكرة حجرا يرشق به عيني الموجة الناسفة ليفقأهما، فتتخبط في سقوطها ويبتلعها البحر وحدها. يصرخ في صاحبه:

ـ ألا استيقظت؟

ألا نهضت؟ سوف تبتلعني –في غفوتك- الموجة وتسحق وجهي وأنت هنا/هناك، غافل عني. حتما سوف تبتلعك بعدي في زمن حتما سوف ياتي.

تنكمش الموجة على نفسها قليلا. أتعبها التربص.

يتنفس الظل ملء حقوله. يتمدد قليلا. يسرق لنفسه لحظة ارتياح، متربصا، حذرا.

ينظر لصاحبه الفاغر فاه والغارق في وديان جارفة من الأحلام السرابية، تتراقص أهذابه وترفرف:

ـ ترى، بماذا يحلم صاحبي؟ في أي إقليم هو متوغل الآن؟ أأوقظه ثانية أم أدعه يحلم؟

ليت لي قدرتك على الحلم. على الأقل كنت أتخلص من جحيمي الآني.

آه... كم هو رحيم الحلم! ليته يسبيني أنا أيضا. ربما صرت أفضل حظ من الآن.

جحيمي الآني هو ألا أحلم، ألا تتكحل عيناي برفرفة أهذابي.

ألا يستنشق زمني سوى اليقظة والحذر والتربص والصبر المرير؟

أليس لي أن أرتشف –مثل الآخرين- من جرعة الأمان والانتماء؟

ليتني مثلهم: أنام وأحلم وتدغدغ غفوتي منمنمات المسلات الفرعونية وكل هواءات الزهر واحتراقات الوله، فأحلق، فراشة أم خفاشا! لا يهم.

لكن، ليس لي وقت للحلم. ليس لي. الأمر مصيري.

سوف أسأل صاحبي. كلا! لن أفعل. لقد نهرني قبلئذ. لماذا أفعل إذن؟ لماذا أحشرني فيما لا يعني وجودي؟ أنا لست من النخبة. لست سوى ظل فهل لي الحق في أن أحلم؟

ليتني أحلم مثلك يا صاحبي.

أية سعادة تغمرك؟ أو ربما هو ألم ينغرز في مجامعك.

يجب أن أعرف.

لم يتمالك الظل نفسه فسأل صاحبه:

ـ بماذا تحلم الآن؟

خيم الصمت قليلا، قبل أن تتناهى لسمعه تنهيدة عميقة. قال صاحبه:

ـ ليتك تدخل حلمي، تستنشق هواءاته البابلية المعطرة بحدائق العلو ومسك الأندلس. إني أحلم بأدغال الأمازون. أتدري! أظن أن كل البشر يولدون هناك ثم يوزعون بالتقسيط المجاني على البقع البليدة. أسلافي هناك نائمون في حلمي ومن هناك نبعوا. أنت أيضا جئت من قلب الأدغال حيث نسجت حدودك وقارتك المسيجة باسمي.

أنا الآن أحلم بأمي وهي تلدني. أتملص قليلا داخل الرحم. أشاغب. أنزوي في الركن كي أدون مذكراتي الجنينية قبل أن أولد. فأحكي عن إخوتي الذين لم يأتوا. لم يمنحوا تأشيرة الهجرة خارج الرحم. لم يقتطعوا تذكرة الخروج. أحكي عن خيوط الشمس التي كانت تدغدغ قدمي وتجس نبض بداياتي. أحكي عن... آه. صراخ أمي يشفع لي كي أقرر الخروج. فأخرج.

وتلامس يدي غصنا متدليا من شجرة الزيتون. ويدي الأخرى تتشبث بسعفة نخلة من نخل الربع الخالي. أتمسك بهما بقوة كي أنجذب نحو خارج الرحم وأغطس في عالم الآخرين. كم كان صعبا اختراق هوائهم لصدري البدائي.

أنا الآن أولد. إني حقا أولد. فأعترم ثدي أول شجرة تتلقفني. فتراني أرضع حليبها مرة وأخرى ثدي أمي.

سأل الظل صاحبه:

ـ لكن أنا، متى جئت؟ كيف التقيت بي؟ أنا لا أذكر إلا يوم قطفتني من شجرة أمي وارتديتني. تجرجرني خلفك أينما انزلقت. تسفك تضاريسي وتلوكها كلما جعت ثم تعيد تأثيث موانئ بما يحلو لك من شارات الترحيب والوداع، لافتتات الانتماء والانسلاخ.

قال صاحبه وهو يضحك مقهقها:

ـ أنت يا ظلي لا تتقن غير الوجع. كل الحضارات البهية لا تكفيك لكي ترسم لك ثغرا ممددا لعلك تبتسم. دوما تزعجني وتتذمر في وجهي. تصرخ في حلمي. فكلما فعلت تفزعه، فتتقزم قاراته وينكمش. كلما ازداد صراخك يطوي أضلاعه، يقتلع أوتاد خيمته ينجرع ما تبقى من عصير الذاكرة ويستعد للرحيل.

صمت قليلا. تغيرت نبرة صوته. سوى من رقدته وهو مغمض العينين. بدا كأنه يخاطب نفسه، كأنه يدشن صرخته هو أيضا:

ـ أنت أيضا نبعت من هناك، بالأدغال البدائية. لقد نبت بجانبي. فبعد أن طلعت أنا من الرحم زحفت نحو أول اشتهاء فاشتهيتك. أغمضت عيني وحلمت بحدودك. اقتطفتك من الحلم وارتديتك. كلما انزلقت –كما قلت- أجرجرك خلفي. لكنك أيضا تزاحمني في دهاليز الذاكرة تارة وفي أحلامي تارة أخرى. فدع دهاليزي واغف عني.

صرخ الظل في صاحبه وهو مصر على إيقاظه ومصادرة طاحونة أحلامه الهوائية:

ـ لن أتركك لأقواسك القزحية التي تعتصر زمنك بكل الألوان. زمنك هو زمني. فإما أن تستيقظ أو أذوب.

الأمر مصيري.

زمن ذوباني هو الشارة الأولى لطوفان سوف يهل ويبتلع دهاليزك، جزر متاهاتك. ذاكرتك المتطهرة. حروفك الحلزونية. وجهك الملمع باستمرار. وشوم عناوينك البديلة. طاحونة أحلامك الخرافية واللامتناهية. كل الخرائط والأوطان التي رتقت بلعاب المتشردين في سوق نخاسة الأوطان. لعلني أرضى، لعلك ترتاح، ولعل الصمت يرتدي طفولته فيسيجني.

لكن الطوفان لن يهدأ. سوف يبتلع كل هواءاتك البابلية المعطرة بحدائق العلو ومسك الأندلس. أدغال الأمازون. مذكراتك الجنينية. أخوتك الذين لم يأتوا. خيوط الشمس المداعبة لشرودك. أشجار الزيتون المباركة. نخيل الواحات العطشى. صدرك البدائي، حليب أمك. انزلاقاتك. تضاريسك الجوعى. حضاراتك البهية. قارات حلمك الشائب. أضلاعه. أوتاد خيمته. عصير الذاكرة. اشتهاءاتك. تذكرة الرحيل.

سوف يبتلع الطوفان حتى رحم أمك، فلن تولد بعد الآن ولا في أي زمن آت.

رحمها سيصبح قبرك. رحمها: جوعك. رحمها: حلم مشقوق الأضلع والدعائم.

رحمها: آخر وأد للصحراء الشائبة والوحات المهترئة.

فإما أن تستيقظ أو أذوب.

الأمر مصيري بيننا.

لا خيار لي: سوف أفجرك كي أخلصك من نواس العناكب وغياهيب الكوابيس الموردة. سوف أنسج من أهلة الأسلاف وسنابل الواحات فضاء للمرور من الحلم للحلم. سوف أطرق كل بوابات جسدك المغيب كي ألدني فيك.

فإما أن أكون أنا أو لن تكون أنت.

إما إن تستيقظ وتهاجر الحلم لأصير كيانا معنونا ومسمى ومكنى أو تغرق أنت في حلم لا ينتهي فتصير ظلا مثلي يصارع الموج والعباب الكاسر.

فكن لكي أكون.

ساعدني لأغدو كيانا معنونا ومسمى ومكنى.

كن لأكون.

كن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى