حسين درمشاكي - المرأة التي تزوجت الجني.. قصة قصيرة

لم يصدق سكان القرية نبأ إختطاف شريفة من قبل الجني الذي تزوجها عنوة.. راح الناس يفصلون ويفبركون.. يذرعون ويشبرون رواياتهم على ذائقتهم.. تارة يقولون أنها لاذت بالفرار مع خطيبها وابن عمها ” محمد ” الذي كان حدد موعداً لزفافهما.. وتارة يؤكدون أن “شريفة” سافرت لخالها لتتسر على فعلتها الشنيعة؛ لم حملت سفاحاً من خطيبها.. لم يحرك والدها ساكناً .. لاذ بالصمت.. أدار ظهره للناس… حتى أنه لم يظهر إنفعالاً لأقاويلهم .. تحمل ألسنتهم التي ما فتئت تلوكه وابنته.. وذات يوم وبينما هو مستلقٍ على ظهره يرتل آيات بينات من الذكر الحكيم ، جاءته الزنجية” أم الخير” وملامحها تكشف عن جيوش قلقاً عميقاً،وحزناً دفيناً..دار بينهما السلام.. سألته بتردد:
- سيدي الشيخ: - بم أخدمك؟
لم يشأ أن يقطع تجويده للقرآن الكريم.. سكتت “أم الخير”.. سكنت واقفة حتى أكمل سيدها القراءة قالت له:-( وهو يهم بوضع المصحف الشريف على وسادة غاية في الجمال مصنوعة من الجلد الخالص ومحشوة ببقايا أعشاب جففت بعد تنقيتها من الشوائب الشوكية..) كنت أسالك سيدي بم أخدمك؟ هز رأسه بالنفي علامة عدم رغبته في تناول أي شيء وهو يحرك حبات مسبحته التي أهداءها له أحد الحجاج القادمين من مكة..قالت و فرائضها ترتجف خوفاً من ردة فعله:
- سيدي الشيخ: - ألن تكشف للناس سر اختفاء إبنتك..
قاطعها قائلاً:
- اصمتى عليك اللعنة.. إذهبي وتدبري شئونك .. ودعي الناس في حالهم.. أنا لست في حاجة إلى كشف سر اختفاء إبنتي لأنني أعرف أين هي..
قالت:
- طمني أيها الشيخ الجليل..
قال :
- ستعلمين كل شيء في أوانه..
ويشاء القدر أن يحضر في اليوم الثاني خطيب شريفة على رأس وفد عظيم الشأن من مشايخ القبيلة جالباً معه كل ما تحتاجه حفلة عرس في أسرة راقية عريقة الشأن..حطت الجمال والخيل والحمير مختلف المقتنيات.. راح العبيد ينزلون كل شيء أمام خيمة الشيخ الجليل الذي غادر لتوه الخيمة إلى المسجد.. تهافت الرجال مستقبلين الضيف الكريم.. ومعهم حشرت “ أم الخير” أنفها
وهي التي لا تفوتها شاردة أو واردة ، كبيرة أو صغيرة إلا و تدخلت فيها.. رآها “ محمد” ، خطيب شريفة.. ألقى عليها تحية السلام.. سألها عن حال وأحوال شريفة.. ردت بلهجة ركيكة متقطعة يكتنفها الغموض.ه..ه..ه.. عاد وسألها:
- ما بك؟
أجابت وعيناها تفيضان دمعاً سال غزيراً:
- والله يا سيدي لا أعرف ماذا أقول لك ؟
قال:
- بالله خبريني يا “ أم الخير” ماذا جرى لـ”شريفة” ؟
قالت:
- مذ غادرت الديار ذاك المساء ، لم نر “شريفة” ولا نعلم عنها شيئاً.
إنهار الرجل.. لم تسعفه قوته البدنية ( كان قوي البنية مفتول العضلات، ذو قامة متوسطة الطول رائعة الإكتمال..) في منع نفسه من السقوط أرضاً.. تهاوى كالصنم.. هرولت “ أم الخير” وبعض الخدم الذين قاموا بإسعافه بدائياً.. برشه بالماء.. أدخلوه إلى عمق خيمة الضيوف.. أسندوا ظهره إلى أحد الأعمدة الرئيسة في الخيمة.. مضت بضع دقائق قبل أن يعود إلى وعيه.. وشرع يردد الشهادتين.. وفي تلك الأثناء أقبل الشيخ الجليل .. دخل إليهم وعرف إن “أم الخير” ذات اللسان السليط أخبرت “ محمداً” بكل شيء، متجاوزة بذلك تعليماته بعدم التحدث لأياً كان في أمر ” شريفة”.. وقف لحظات حرجة قبل أن يقول:
- الحمد لله على سلامتك يا بني.. كيف حالك؟ لم أطلت الغياب؟
نظر “ محمداً” إلى الشيخ الجليل.. عرفه يخفي آلاماً ترزح وتجثم على صدره كالجبل.
قال:
- بحق الله ماذا تخفي يا عماه؟..
أجاب الشيخ الجليل بكل هدوء وتواضع وكبرياء..
- خيراً إن شاء الله ياولدي..
– أصحيح يا عماه إن شريفة مفقودة ؟ أعني .. أعني هل ماتت؟ أين هي؟
– “ شريفة” بخير يا بني.. إنها في بيت زوجها..
– ومتى تزوجت؟ ومن هو زوجها؟ وكيف حصل ذلك؟
– على رسلك يابني.. ” شريفة” إختطفها جني وتزوجها..
– أتمزح معي يا عماه؟
– حاشا لله يا ولدي..إني أقول الحق..
– وأي حق هذا الذي تتحدث عنه يا عماه؟ أي حق في زواج إبنة عمي من جني؟
– إنها مشيئة الله.. وهذا ما حصل..
– وأين تقيم وجنيها هذا اللعين؟
– لا تظلمه يا بني..إنه مسلم..
– دعني يا عماه من هذا الكلام الذي لا يقبله العقل..
– إنسى أمر شريفة يا ولدي والتفت إلى مشاغلك..
– ولكن كيف تزوجها؟
– وهل إخبرني الجني لأخبرك؟ هل طلب يدها مني ؟ أنا كل ما أعرفه إنه اخطتفها و تزوجها عنوة ذات مساء و هي عائدة من خيمة “ أم الخير”.. وكل ما استطعت فعله هو الحصول على وعد من الجني بعدم المساس بكرامتها أو إهانتها..وعدم تعرضها للأذى .. أجل إنتزعت منه وعداً بذلك..
– دلني عليه يا عماه وسوف آخذ بثأري منه..
– يا بني هؤلاء القوم ليسوا لقمة سائغة..
وليسوا من عالمنا.. إنهم شياطين.. ولهم عالمهم الغامض.. لا يستطع أحد الوصول إليهم.. وإبنة عمك “ شريفة” سيقت إلى منفاها قسراً.. وهي الآن في بيت زوجها.. وعلى فكرة يا بني نسيت أن أقول لك إن زوجها من عالم الجني المسلم..
– وكيف ذلك يا عماه؟
– مثلما في عالم الإنس هناك مسلمين وكفار
ونصارى وما شابه ذلك، للجن أيضاً مذاهب وديانات وكلاً يسبح لله.
– ضاقت سريرة “محمد”.. جن جنونه..ركب رأسه.. إنفعل.. راح يسب الشياطين ويلعن عالم الجن.. ودع عمه بعد أن أمر بتوزيع كل ما جلبه معه على الخدم وفقراء القبيلة.. وبمعرفة “أم الخير” تم توزيع كل شيء بالتساوي..وتمر الأيام .يقترب الشيخ الجليل شيئا فشيئا من مرحلة الشيخوخة.. لم يعد يقوي حتى على الصلاة وقوفاً.. ولا خبر عن “شريفة”..وبعد ما يربو على عشرين عاماً، راح الناس يمحون بفعل الزمن شريفة من ذاكرتهم.. وتشاء قدرة الله في تلك الأيام الآنية أن يهطل مطراً غزيراً على القرية.. إنشرحت له صدور القوم، لم سيجلبه عليهم من خير وفير.. للقضاء على الجدب الذي ألم بالقرية منذ سنوات.. ومن حسن حظ الشيخ الجليل ذلك العام وهو على فراش المرض أن تحضر إبنته “شريفة” ومعها إبنها الصغير ( حيث رزقت بولدين وبنت من زوجها الجني).. تعالت الزغاريد.. شقت عنان السماء..أُقيمت الأفراح والأطراح والمهرجانات ترحيباً بالغائبة “شريفة”.. الكل رقص فرحاً بعودتها.. جمع والدها حفظة القرآن وأمرهم بتجويده ليل نهار .. وحدها “أم الخير” لم تأبه للأفراح.. راحت تسأل سيدتها عن سر إختفائها.. وزواجها من الجني.. وكيف احتملت كل هذه المدة وهي في عالم الجن؟؟ وبكل هدوء ترد عليها “ شريفة” قائلة:
- إنها إرادة الخالق.. و لسنا مخيرين في رفضها من عدمه.. تزوجت الجني يوم إختفائي .. مباشرة.. لقد أقام لي عرساً كبيراً كان يرحمه الله يحبني كثيراً وأنجبت منه ثلاثة أولاد..
حضر سكان القرى المجاورة لنجع الشيخ الجليل مباركين عودة إبنته سالمة بعد غياب دام طويلاً.. لم يغب أحد.. وحده “ محمد” إبن عم “ شريفة” الذي كان في يوم من الأيام خطيبها، آثر البقاء.. ولم يكلف نفسه عناء حضور الأفراح التي أقيمت.. أسبوع ومهرجان الفرح متواصل ليل نهار.. نُحرت الجمال وذُبحت الخرفان والجديان والعجول..بتردد يغلفه الخجل سألت “ شريفة” عن “ محمد” وكيف إنه لم يحضر.. لم تشأ “أم الخير” أن تعكر صفو مزاجها في غمرة أجواء الفرح السائدة.. قالت لها:
- إنه مسافر وحتماً سيحضر حالما يعود ويعلم بعودتك.. هذا المساء
وبينما كان الرعاة يسوقون الإبل إلى مربطها، إعترضها الجني الصغير و استل سيفه من غمده وشرع ينهال به على أحد الأمهار يقطعه به إربآ إربآ حتى أرداه قتيلاً.. لكن لم ينبس أحد ببنت شفة.. وتتوالى الأحداث.. والقرية في فرحها الدائم وعرسها الكبير..
وذات صباح وأم الخير تهم تمخض اللبن وتسكبه في إناء كبير لتقديم الإفطار للضيوف الكرام، فوجئت بالجني إبن “ شريفة” يركل الإناء بقدمه ويدلق اللبن.. وبقي الضيوف بدون إفطار.. وقتها قالت له “ أم الخير”:
- يا إلهي.. أنت فعلاً جني شيطان.. منحوس.. أعوذ بالله منك.. أأنت مخبول؟ لم فعلت هذا؟ قتلت الجمل قبل أيام وها أنت اليوم تسكب اللبن أرضاً..
وقبل أن يتفاقم الموقف تدخل الشيخ الجليل الذي كان يراقبهما عن كثب وهو يداعب حبات مسبحته..
- إسمع يا بني:- نحن هنا لنا عاداتنا وأعرافنا وتقاليدنا ومعتقداتنا التي يعتبر التعدي عليها تجاوزاً للخطوط الحمر .. فإما أن تبقى هنا محترماً آخذاً بتعاليمنا ومحافظاً عليها وإما أن ترحل وتعود إلى حيث عالمك المجهول الغامض..
بكل احترام وثقة في النفس يرد عليه الجني قائلاً:
- لا عليك يا جدي.. سأحقق رغبتك.. ولكن قبل أي شيء ألا تريد أن تعلم لم فعلت ما أقدمت عليه؟ إصغي إلي وسوف تحكم بعد سماعي:
- أنا يا جدي قتلت الجمل ذلك اليوم لأنه كان يحمل على كل وبرة من وبره الكثيف الهائل شيطاناً ولو دخل إلى مربط الإبل لماتت كلها.. وسبب دلقي للبن هو إني رأيت ليلة البارحة عجوزاً جنية شمطاء وهي تشرب منه وتبصق ريقها في شكوة اللبن.. ولو لم أدلقه لمات كل من يحتسي منه جرعة.. وما ارتكبت هذه الحماقات إلا خوفاً عليكم وحفاظاً عليكم من الشياطين.. ولكن ولأنكم بادلتموني الحسنة بالسيئة فإنني راحل لا محالة..
قاطعه جده قائلاً:
- اصمت يا بيني.. نحن لسنا خسيسين لنبادل الحسنة بالسيئة.. فزن ألفاظك واحترم منطقك.. ولو كنا كذالك، لم استقبلناك بيننا..
الجني مقاطعاً:
- أمي.. تعالي إلي..
ترتعد خوفاً و هلعاً جاءت “ شريفة” وراحت تسأله:
- ماذا هناك؟
إسمعي يا أمي:
- إن هذا المكان لم يعد يسعني .. لذا قررت الرحيل والعودة إلى عالمي المعتاد.. عالم الجن..
- لماذا يا ولدي تقول هذا.. إن لم يسعك المكان وضعتك في بؤبؤ عيني..
- لا يا أمي أرجوك إسمعيني .. إذا أردت رؤيتي وأخوي، عليك الحضور كل يوم خميس مساءا إلى شجرة الأتل تلك.. وسوف نتقابل..
وغاب.. واختفي كلمح البصر وكأنه تبخر.. واستمرت والدته تقابله وأخويه حتى إنقضى أجلها..
وبموتها انقطعت صلة الشيخ الجليل بعالم الجن.. ولم يبق من شواهد إرتباطه به إلا سبع بقرات صفراء اللون حلوبة هي كل ما تبقى من مهر “ شريفة” الذي دفعه لها الجني عندما تزوجها..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى