مرزاق بقطاش - جلدة البندير.. قصة قصيرة

جغرافية هذا الوجه عرفتها, درستها, تعمّقت فيها منذ مدة طويلة, وإن شئتم التحديد, فأنا متخصص فيها منذ أواخر عام 1963, ولم لا تكون للوجه جغرافية, وتكون لهذه الجغرافية تضاريس ومعالم وحدود وتخوم؟ قبل ذلك, سمعت الشيء الكثير عن هذا الوجه, إلا أنني عجزت عن التوليف بين عناصره المختلفة, لم أستطع وضع أي صورة عنه, كان له وجود, ولم تكن له صورة في مخيلتي ولا في عالم الواقع الذي أتحرك فيه, لكن, جاء اليوم الذي هبط فيه هذا الشيء الغيبي من سمائه, وصار وجهاً حقيقياً وجغرافية ذات معالم ثابتة لا تتحول إلا بفعل الرجات والاهتزازات الباطنية, لكم كرهت حينئذ جغرافية هذا الوجه بعد أن تعيّن علي أن أدرسها دراسة مستفيضة.

صورة بالأبيض والأسود, صورة جانبية في مجلة فرنسية ترصد أخبار العالم الثالث, عالم المسحوقين والانقلابات السياسية والينابيع البترولية السخية الرخيصة, عين غائرة في محجرها كأنما هي عين مريض يفتك به داء خبيث, عظمة الخد بارزة, غير أن الخوذة العسكرية فوق الرأس زادت هذه الصورة الجانبية صرامة وقساوة, في نظرة صاحبها ما يوحي بأنها مصوّبة إلى الأمداء الصحراوية, أو إلى منطقة جبلية توزعت العساكر في جنباتها, يا سبحان الله, هو وجه يستحيل أن يكون نبعاً للخير والاطمئنان!

ويمضي بك الزمن, يا هذا, ومعلوماتك عن هذه الجغرافية العجيبة تتنامى وتبعثك في الوقت نفسه على القرف من بعض النماذج البشرية, بل إن كراهيتك لصاحب هذا الوجه تتحوّل إلى نقمة عندما تقرأ في إحدى الصحف أنه وراء خطف زعيم سياسي وتغييبه إلى الأبد, وتود حينئذ أن تتخلص من المعلومات التي حشوت بها دماغك عن هذا العلم الجغرافي الجديد, ولكن هيهات, ثم هيهات!

وها قد جاء يوم قُدّر لك فيه أن تلتقي لحماً ودمّاً صاحب هذا الوجه, هذه الجغرافية البشعة, مسافة مترين بينك وبينه ليس إلا, جاء في مهمة رسمية كما يقول أهل السياسة, تساءلت يومها: هل يستطيع صاحب مثل هذا الوجه أن يحمل الرسائل ويتحدث إلى أهل اللباقة والديبلوماسية؟ لم تنصت إلى ما قاله للصحفيين, وعجزت بطبيعة الحال عن تسجيل حديثه ذاك على الورق, رحت تنظر إلى وجهه المختفي وراء نظارات شديدة السواد, أردت أن تقرأ ما تضطرب به عيناه, فقد بلغك أن تينك العينين شبيهتان بقطعتي زجاج, أو هما مثل عيني سمكة طرحهما أحد الصيادين تحت لفح الشمس, وحاولت عبثاً أن تجد وصفاً دقيقاً لذلك الجزء الخفي من الجغرافية العجيبة, الوجه وجه إنسان لفحته نار شواء, لم تستطع معرفة ما إذا كانت اللحية قادرة على أن تنبت في أطرافه أم لا, البذلة ذات زرقة بترولية, مخططة بالأبيض, لكأنما تعمّد بذلك أن يخفي التناقض الذي تنطوي عليه جغرافية وجهه.

أنهى تصريحه في قاعة التشريفات بالمطار, وجاءت سيارة رسمية سوداء فأقلته, إلى أين يا ترى؟ إلى حيث يوجد أهل الحذلقة السياسية, وتطوّرت علاقتي بهذا العلم الجغرافي الجديد الذي نبت في وجداني وعقلي مثل طحلب, وهيأت نفسي رغماً عني لكي أرسم صوراً وأنسج ألف حكاية وحكاية.

وفي العشية, وأنا في داري أستمع إلى مقطع موسيقي فيه الكثير من جعجعة البندير وصفير الناي, عادت جغرافية ذلك الوجه متسلطة قاهرة حتى انني تساءلت عن العلاقة بينها وبين ذلك المقطع الموسيقي, أدرت الأسطوانة مرة ثانية, لأن شيئاً ما تحرك بداخلي وأثبت لي أن تلك الموسيقى مرتبطة حقاً وصدقاً بجغرافية ذلك الوجه, هي علاقة جدلية لا مفر منها.

الخدان المحروقان هما أول جانب عاد إليّ من ذلك العلم الجغرافي الجديد الذي صرت خبيراً فيه, خدّان كوتهما نار خفيفة حتى صارت الجلدة برّاقة لمّاعة, جلدة هي أشبه ما تكون بجلدة بندير, وفجأة, ومن حيث لا أدري ولا أحب, وجدت نفسي وسط عرس في منطقة صخرية, لم أعرف كيف أفسّر سبب هذه النقلة التي حدثت في وجداني, ووقع في روعي أنني ما عدت أتحكم في ذاتي, بندير وناي ونساء يرقصن في ليلة صافية, فناجين الشاي تدور, رائحة لحم مشوي تداعب الأنوف والأفواه, نداءات ترتفع من الحاضرين على سبيل حث النساء على الإيغال بعيداً في دنيا الرقص, وهاهي الأوراق المالية تتساقط على حلبة الرقص المغبرة, وهاهم الرجال يرشُقون النسوة بتلك الأوراق المالية.

وأطل صاحب الوجه المحروق, حلّ ضيفاً على العرس, جاء على متن جواد أدهم ملتفعاً ببرنوس ناصع البياض يصحبه عدد من أعوانه وأصحابه, من هيئته وشموخه, بدا عليه أنه زعيم قبيلة من القبائل, شيء ما في داخلي تحرّك مرة ثانية ليقول لي إن هذا الوجه وجه شرير, وسرعان ما اشتعلت النار في الخيام, وانطلقت البنادق.

ويتوقف كل شيء في دماغي, بل تتجمد أعصابي وترفض الاحتراق عبثاً, ما عادت أي صورة من الصور تظهر أمامي, ودهمني القلق, ووجدتني أدير الاسطوانة مرة ثالثة طمعاً مني في الوصول إلى نهاية الحكاية الجهنمية التي تطحلبت في وجداني دون إرادة مني, كيف انتهى العرس؟ وما هو عدد الذين لقوا حتوفهم؟ أخرجت من مكتبتي مجلة قديمة اقتنيتها منذ عدة سنوات, كانت بها صورة صاحب الوجه المحروق, العين غائرة وعظمة الخد بارزة كالعادة, والخوذة العسكرية هي هي. أوّاه, الشر متأصل في هذا الوجه, يستحيل عليّ أن أنظر إليه نظرة أخرى, الغريب في الأمر هو أن اللون الصفيحي المحروق لبعض الحجارة المتكلسة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا الوجه, هل للشر لون صفيحي, يا ترى؟ ولم لا يكون صفيحياً بالفعل؟

وأنا ما بين النوم واليقظة في فراشي, استعدت جغرافية ذلك الوجه جزءاً جزءاً, أردت وضع حد لكل التهويمات, خشيت أن يتحوّل الوجه إلى هاجس حقيقي يتبعني إلى آخر يوم في حياتي, قلت: ينبغي عليك, يا هذا, أن تصفّي حسابك معه.

قمت من فراشي وبي رغبة عارمة في تحطيم تلك الاسطوانة, وقع في تصوّري آنئذ أن الموسيقى المحفورة عليها كفيلة بأن تبعث أمامي صورة ذلك الوجه الجهنمي في أي لحظة, لكنني تراجعت حين قلبت النظر في مثل هذا الحل التلقائي المبتسر. وهل يعني ذلك سوى أنني قد أقدم على تحطيم العديد من الحاجات حولي؟ عاودت طرح المجلة أمامي, وجعلت أقارن بين تلك الصورة وصاحب الوجه الذي قابلته في المطار, لا فرق بينهما, اللهم سوى أن اللون الصفيحي كان باهتاً في الصورة.

وعاد الوجه قوياً جرّاراً أمامي في بضع ثوان, الجانب الأيمن منه وما يلي النظارات السوداء مباشرة عبارة عن أرض مليئة بالعساكر, مبقعة بالدماء المتجمّدة.

حينها سمعت ضربات البندير رغماً عني, وخيّل إليّ عندئذ أن طغاة الدنيا كلهم تجمّعوا في مساحة ذلك الوجه.

هاهي الدنيا تكبر في ناظريك, يا هذا!

رحت أفلسف الخير والشر لكي أتخلص من وطأة ذلك اللون الصفيحي, تساءلت ما إذا كان في وسع الشر أن يكون ذا لون أبيض, وجاءني الجواب من تلقاء نفسي: الشر قد يكون لونه أسود أو أبيض أو صفيحياً, ومع ذلك, ظل اللون الصفيحي هو المسيطر.

أدرت الأسطوانة, ضربات البندير تحوّلت إلى ضربات مدافع في دماغي, وصوت الناي صار نحيباً, وازداد قلقي وشرش في أرجاء نفسي, متى كانت الموسيقى تقلق الإنسان؟ وجدتني أعقد الصلة ما بين الصوت الذي سمعته من صاحب الوجه في المطار وصوت البندير والناي, وتذكرت حينئذ أن صاحب الوجه مولود في منطقة جبلية جافة, ترى, أهي قراءاتي المختلفة هي التي جعلتني أربط ما بينه وبين تلك الموسيقى أم العكس؟

صاحب الوجه قاتل ومعروف عالمياً, وجهه محروق, وهذا أمر معروف أيضاً, غير أن العلاقة التي أقمتها بينه وبين المقطع الموسيقي بقيت إلى حد اللحظة لغزاً أريد استكناهه.

انقضت ثمانية شهور ما نسيت خلالها صاحب الوجه ولا لونه الصفيحي ولا عينيه الشبيهتين بعيني سمكة ميتة تحت لفح الشمس, غير أنني أقلعت خلال ذلك عن الاستماع إلى تلك الاسطوانة, لا لأنها ظلت تذكـّرني بصاحب الوجه وجرائمه, بل لأن نغماتها في حد ذاتها مقلقة وطاغية في الوقت نفسه, وإن شئتم الحقيقة, فأنا ما عدت منذ ذلك الحين أستسيغ النغمات التي تخرج من آلات النفخ وإيقاعات الطبول والبنادير, آمنت بوجود علاقة وطيدة بينها وبين الشر وبوجود علاقة مماثلة بينها وبين صاحب الوجه المحروق.

وأيّاً ما كانت تأويلاتي, والعلاقات التي أقمتها بين اللون الصفيحي والشر من حيث هو شر, فقد أثبتت لي الأيام أنني لم أكن على خطأ كبـير في ذلك كله, فها هي الأخبار تقول إن صاحب الوجه المحروق أراد التمرّد على سيده, فتلقى رصاصة في دماغه, الغريب في الأمر هو أن صاحب هذه الجغرافية الخارقة كان يرتدي, فيما يقال, لباساً تقليدياً أبيض ناصع البياض عندما اخترقت الرصاصة جمجمته, ووجدتني أرجع إلى ذلك المشهد الذي فرض نفسه علي حين استمعت إلى موسيقى الناي وضربات البندير, كان مشهد عرس صاخبا سرعان ما تخللته الدماء التي تدفقت هنا وهناك, في هذه المرة, كان صاحب الوجه المحروق هو العريس, لكنه عجز عن الدخول على عروسه, وضربات البندير ارتفعت في عرسه هذا, لكنها لم تكن موقعة على جلدة البندير, بل على جلدة وجهه هو.


مرزاق بقطاش
مارس 2000

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى