وليد الزوكاني - في ذروة الألم الباهلة

يموت الإنسان كما يموت الحيوان تماماً، يتألم بنفس الطريقة، يخاف، يضطرب، يختلج.

يمكن أن ينزف على قارعة طريق حتى الموت، أو يبقى تحت سقف متهدم، أو تحت جدار منقضّ، أو في حفرة نيران ليذوب جسمه الطري، كقطعة من البلاستيك.

يتألم مالا يستطيع الجسد أن يتخيل.

فضاء من الألم ممنوحٌ لأحاسيسه الرهيفة، فضاء هو الأبد بعينه، لترفّ روحه المتعبة، طائراً مرهقاً في أعاليه.

الألم هو الجنسية الحقيقية للإنسان، مثلما الحلم هو الوطن الحقيقي الذي يحاول بناءه دائماً، والدفاع عنه باستمرار.

في الموت والدمار والألم، يتعلم البشر - المنكوبون بالطبع –أنهم يقاتلون من أجل قضايا خاسرة، أو هي أقل بكثير من معاناتهم، وأن الأهداف التي غيروا مجرى حياتهم من أجلها، والشعارات التي نذروا أنفسهم لتحقيقها، ما هي إلا خديعة.

هنالك في ذروة الألم ينكشف الغطاء، ليروا بأمهات أعينهم، وليلمسوا بجلودهم وهي تنضج، وليفهموا بحواسهم متضافرة، وبكل الذاكرة الراسية فيهم منذ آلاف السنين، أن الهوية التي أبرزوها، والأخلاق التي تخلقوا بها، والقناعات التي اعتنقوها، والأفكار العظيمة التي حملوا عبئها، ما هي إلا فقاعات ملونة، زينها لهم تجار الحروب، ليحولوا جماجمهم الصغيرة، إلى عجلات بائسة لعربات السادة.

يكتشفون البساطة المدهشة التي يموت بها الإنسان، والسهولة الهائلة التي ترتكب بها المجازر، وإمكانية إبادة البشر في نزوة الحديد الذكي.

يكتشفون حقيقة الأصنام التي طالما عبدوها، وكيف أن الخُلق الحسن، لم يكن دائماً حسناً.

في ذروة الألم الباهلة، يدركون أنهم لم يعطوا لأجسادهم الفرصة، لتمنحهم السعادة التي تتناسب ولو قليلاً جداً، مع القدرة الخلاّقة لهذه الأجساد على منح الألم.

في البرهة الحارة التي يمنحها الموت، ثمة متسع لتأمل الضلالة التي نساهم جميعاً في نسجها، غلالة على أجسادنا، وستارة قاسية أمام منافذ الروح.

الواجب المزيف، الصغير والكبير، الوطن الذي يتدلّى كذؤابة من طربوش الزعيم، الحق الذي يحمله السيد كفردة حذاء إضافية، الدار التي يضعها الأب في جيبه كعلامة على السيادة، القسوة والافتراس كعلامة على الفحولة.

الأخلاق التي سيجنا أنفسنا بها لنحمي هشاشتنا، والفضائل التي تعلقنا بأهدابها لنغلف الضعف والجبن بالعفة، وزينّا بها إنسانيتنا المزعومة لنخفي الخبث والكراهية، فوقعت مع أول الدويّ كمزهريات مزيفة.

القادة الذين هتفنا لهم، ودبكنا أمامهم، وتطوعنا لحمايتهم من أبنائنا، وأبناء جيراننا، وحملناهم على ظهورنا، ممتنّين لهم لتفضّلهم بالتواضع والركوب، متناسين عن جبن أو عن ذلّ، أن السجون، والكلاب البوليسية، والفساد، لا تبني أوطاناً، ولا تقود إلى نصر، بل تعمم الخراب والهزيمة، وأن القومية لا يمكن أن تُبعث على حساب فنائي، أيّاً ما كنتُ، وأن الوطن لا يمكن أن يحقق أمنه، على حساب حريتي، وأمني.

أنا أولاً والوطن ثانياً، وما قيمة إناء فارغ؟

لقد اكتشف جميع الضحايا، أن إنجازنا التاريخي الوحيد، خلال القرن الماضي، كان إنجاب قادة عظام، أدركوا الفرصة الذهبية المتمثلة بتخلفنا، وتوقنا، وإيماننا، فكرسوا كل إمكاناتنا، لتحقيق هدف واحد وحيد، هو امتصاص الدم من أعناقنا، ولم يكتفوا، بل عرضوا هذه الأعناق في السوق، لكل مصاصي الدماء في العالم.

وأنتجوا جيشاً وطنياً - من المسؤولين والبوابين والقوادين والحراس - يحوم كالذباب على أعناقنا الذابلة.

وعليك أن تقدم الرشوة عن كُره خاطر، لتتمكن من حك مؤخرتك، أو عنقك لا سمح الله.


[email protected]
  • Like
التفاعلات: حنان عبد القادر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى