محمد زهير - إليك من الأنـام

انفلت الربيع خلسة كالحمل الكاذب، وانفتل الماء إلى صحراء الذكرى، التي نعود إليها كلما أعوزنا هواء اللحظة، فلا نعود بغير الحمل الكاذب… انفلت الربيع، وانفتل الماء، وانتصبت الصحراء، والذكرى عود إلى الوراء كالتمسك بومض السراب. كأزهار الدفلى… هكذا تمضي الأشياء : تلوح في الأفق الساهم غيمة جوناء، ويهمي مطر مهزول لا ينتظم البلاد، فيتحرك مخيال الأعمى التطيلي، ويأخذ في تنسيج موشحه المطرز بحدسه اليقظ :
ضاحك عن جمان
سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان
وحواه صدري
خطاه تقتحم غبش المساء جيئة وذهابا، في بستان كالدمع.. مطر مهزول لا ينتظم البلاد، وحدس التطيلي المتوهج يقرأ الزمن طردا وعكسا، ويقول ما تترصده رؤياه.. يقطف من شجرة الحياة، ويرمي ولادة فلا تخطئها بصيرته..
وفي ليلة عاصفة ماطرة تقول أمّ ولادة للمستكفي وفي صوتها لكنة إفريقية وضيئة :
- ابتلى الأعمى ابنتك، ومرق من شرفة القصر كخلسة المختلس..
فيمعن في عينيها الساحرتين، وجسدها المتوهج، الذي جاس خلال مفاتنه اصطباحا واغتباقا. ويقول لها:
- أنت أرضعتها والتطيلي زاد الطين ابتلالا..
- قلبي حزين عليها يا سيدي.
وأحنى المستكفي رأسه، وقد تذكر رجلا اسمه ابن حيان، قال له لما شاهد ابنته ولادة : "هذه البنت مثل قرطبة". ليلتذاك، كان المستكفي ثملا لا يستقر له رأس على عنق، فلم يستطع التحديق في ابن حيان، الذي رمى بقوله وغاب.. أما الآن فتطوقه صورة المطر المهزول الذي لم ينتظم البلاد، والغيمة الجوناء التي لن يطول خراجها، والماء المنفلت إلى الصحراء ولا قبل له برده. وتلح عليه صورة السيف البارق الذي يثخن في الأندلس طولا وعرضا، وما زال الرأس المخمور لم يدرك العلاقة بين قرطبة وولادة، رضيعة شجرة الغيم ونزوة الجرح.. ولما سأل المستكفي يوما التطيلي عن قصد ابن حيان، أجابه :
- اسأل "ترسياس" العراف. أما أنا فشاعر يوشح الكلمات بماء الخيال..
فرد المستكفي منفعلا :
- اللعنة عليكما..
كانت ولادة مشدودة دائما إلي الشرفة لا تفارقها، تتابع خطوات طيف ابن الخطيب يناجي الزمن المتسرب كالماء المنفتل إلى الصحراء..
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل في الأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس
هل كانت ولادة حلما كاذبا؟ هل كانت وعد ماء في صحراء، أو نخلة غريبة أثارت أشجان الداخل إلى أرض الأندلس ؟.. مضى الزمان وتلاطم الموج في البحر محملا بالدم والغثاء ورفات السفن المحروقة.. وشيء ما يشجي المستكفي من ابنته، وشيء ما يشجي ولادة من أبيها.. والأم زمردة حبشية يحوم حول مخابئها القرصان.. حين جاءوا بنبإ ميلاد البنت للمستكفي، قال لهم : سموها ولادة ليتكاثر نسلها. ودخل إلى مخدعه مترنحا كالزمن السقيم، فهبت على قرطبة ريح عاتية حركت المهج الهواجع، وأسفرت عن خفق سراب… وفي المساء تقف ولادة في الشرفة لترى التطيلي يمسك كف ابن الخطيب، ويسيران مخففي الوطء على رفات العباد، حتى يلفها الظلام ويغيبان عن ناظريها، لكنها لا تغادر الشرفة، ولا تغادر بحر الغيم.. ربما تهيأ لها أنها رأت مشاعل وسيوفا بوارق، وربما تهيأ لها أنها سمعت هزيم رعد بعيد، وزمجرة عاتية تجوب أسوار قرطبة، وتتحسس هشاشة المنافذ.. وتخيلت كأن أباها المستكفي انسل من قرطبة متنكراً في زي امرأة شبيه بالكفن، فصرخت مرتاعة صرخة مدوية أيقظت الأم والأب الذي دعاها إلى جواره.. عيناها الجميلتان ملتمعتان وفي جوهرتيهما سر "منذورة للحب والشعر لا للملك"، قرأه المستكفي وشهق، فطوقته الطفلة وطوقها بمحبة، فسرى في جسدها دفء حنون، وسرت في قلبه رعشة خوف شعرت بها أم ولادة، فسألته :
- ما بك يا سيدي؟
- رأيت فيما يرى النائم..
وصمت كأنما أشفق من الإتمام..
- نحن في اليقظة يا سيدي وليس في النوم.
- اختلطت الأمور، فلا أستبين فارقا..
- ولادة تريد أن تسمعك شعرا.
- رضيعتك.. أنت أرضعتها الصنائع، والتطيلي أغراها بالغيم..
فهمت المرأة قصده فابتسمت، لكنه ما لبث أن سهم والطفلة ولادة في حضنه تتدفأ، فعادت أمها تخاطبه :
- أراك ساهما عن ابنتك.
- بل هي الساهمة عني.
- كأنك لا تريدها بنتا.
- بنت أو ولد سيان.. هي وحيدتي وربما لن أنجب غيرها.
كفت المرأة عن الكلام كشهرزاد انتهى حكيها والفجر لم يطلع بعد، وتمنعت القصيدة على الحادي كأنما تريد حتفه.. والطفلة ولادة نامت في سرير شبيه بالمهد، محاط بهالة كالإكليل.. ليل مترام، وكيف لقرطبة أن تهنأ بشميم عطرها وتستحم في مطر أصوات زرياب. كيف لريح الصبا أن تتدفق في القلب، دون أن تتهددها أشباح الغيلان.. وفي غفوته سمع المستكفي ابنته تنشد شعرا في المهد، والمهد على سطح ماء البحر، كزورق صغير ضائع في مداه، ورأى أسماكا ملونة تتقافز حول المهد العائم في الماء، وتتطلع إلي الطفلة التي تمسكت بحوافي مهدها، ووقفت مشدودة إلى ما حولها، مندهشة بتوثب الحياة في الخضم المتحرك.. وتساءلت وصيفة لحورية البحر :
- كيف تسللت الطفلة إلى هذا المجاز؟
فأجابتها الحورية :
- من برزخ بصيرة الشاعر ومدارج رؤياه..
- لنأخذها معنا..
- هي مأخوذة، وإلا ما كانت هنا.
وخفر الماء مهدها المتأرجح، ويداها الصغيرتان تمسكان بحاشيته، وهي تنط فرحا محاكية تقافز الأسماك على سطح البحر، الذي تدفق من مداه صوت مسافر إلى مرفإ لا يدري له اتجاها :
ألا هل لنا من بعد هذا التفـرق *** سبيل فيشكو كل صب بما لقـي ؟
تمر الليالي لا أرى البين ينقضي *** ولا الصبر من رق الشوق معتقي
أصغت الطفلة بإمعان إلى صوتها الآتي، يمازج الزرقة والشساعة وتدافع الحياة، وتقافزت الأسماك حول المهد من كل جهة وعلى كل لون. والصوت الشادي يغور في المدى راحلا في الأجاج المالح، لا يعرف له وجهة.. "تعلمت منك المحبة".. ضوء يساور الظلام، والراحل في مدى البحر طيف، هيهات أن يلوح له مرفأ، فكيف يدرك من اللجة أقاصيها.. صوت المسافر ابتعد وقد غور في الرحلة، والطفلة نامت في مهدها المتأرجح على صفحة الماء، عنوانا ضائعا في متن كبير عميق.. وفي حلمها جاءها الأعمى التطيلي، وفي يده غصن أوراقه حروف كعناقيد العنب، فمدت يدها الغضة، وأمسكت الغصن وهصرت عناقيده حليبا في مجرى روحها، وكان زورقها يتحدر جهة مركب المسافر، تدفعه ريح في هبوبها رائحة المكيدة..
- تعالي يا ولادة.. تعالي.. لا تتبعي الصوت المسافر.
صاح المستكفي هلعا في مرقده، فأيقظته أمها :
- ولادة بجانبك، رعاك الله ورعاها.
- رأيت فيما يرى النائم أن البحر أخذها..
- أضغاث أحلام يا سيدي، أضغاث أحلام..
كانت ولادة في سريرها نائمة، تختلج عيناها حينا، ويصدر عنها آخر نداء كتيم. في نفسها الصغيرة ما في نفسها، والحلم لحظة تصريف لما في النفس، رؤاه تأخذ الطفلة خفيفة طليقة إلى بساتين الغيم وخفق السراب..
وحكى المستكفي لأم ولادة ما رأى، فأصغت هذه المرة بهاجسها.. ولادة في سريرها،، وتوجس غامض يسكن قلب المستكفي. وكي تسري المرأة عنه أخذت في تسوية أوتار الزمان الذي كان. أصابعها ذربة مسكونة بلواعجها، حين تلامس العود تصير أوتاره مطواعة تبوح بالمكنون. تسر له : "تعلمت منك المحبة.." فتستجيب أوتاره لأشواق المهجة.. شدت المستكفي بالصوت العذب والكلمات الحلوة ونضارة الجسد، وهاهي تعود به إلى زمان الصبوة.. ليس التطيلي فقط من ابتلى ولادة، بل هي روح أمها وفضاء قرطبة.. يستحضر المستكفي الآن صوتا نافذا في قرارة نفسه:
إذا غير النأي المحبين لم أجد *** رسيس الهوى من حب مية يبرح
ليلتذاك، قال للشادنة الشادية: "أنت مية وأنا القائل عنك" فتغنجت ورمقته بعين تفيض رغبة.. ودخلها، فجاءت ولادة، ابنته الوحيدة، المتناومة الآن في سريرها، تسترق السمع للغناء الخافت، وتستكشف لماذا جذبت هذه المرأة المستكفي، فكانت أمها.. هو الآن يستعيد ذكرى زمان فات، كأنما يتوقع فجيعة زمان آت. لذلك ما كاد يستمرئ الغناء حتى خالطته لوثة حزن مداهم، فرمى بصرة في فضاء قرطبة، وقال :
- كأني بعيد عن قرطبة وأنا فيها.
فقالت له الشادية:
- لا تكدر صفو اللحظة.
- لست أنا الذي أكدره، بل هذه الأشباح المتربصة.
- دعك من هذا، ودعني أرك كما أشاء.
وارتعشت الطفلة تحت دثارها، وتكسر فرحها دون أن تدري قصد والدها. ثمة أشياء تعكر صفو الحياة حولها، وهل لا تدركها، وذلك يحزنها.. وانسلت من فراشها إلى الشرفة مسترجعة أشعارا للتطيلي، ومتوقعة أن ترى طيفه في الظلام يعبر الطريق إلي مكان تجهله، يمسك بيد ابن الخطيب، وينثر الأشعار ويوجه إليها الخطاب "منذورة للشعر والحب لا للملك.." فتستشعر كأن وميضا في أعماقها يستجيب للنداء..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى