محمد وسعيد - حلم عباس المروكي ذات صيف

4785.jpg

لم يكن ذلك خرافة أو نزوة كافكاوية، ولكن السيد عباس المروكي، وبينما هو نائم بعد غذاء ثقيل، حلم بالفعل أنه أصبح كيسا بلاستيكيا..
قد يكون لمضمون الحلم علاقة بالجدل الدائر منذ مدة عن البيئة والأكياس البلاستيكية والنفايات الإيطالية، وربما عاد ذلك إلى طبيعة الوجبة التي تناولها والمكونة من العدس وشرائح الباذنجان، كما من المحتمل أيضا أن يكون للحرارة القياسية لهذا الصيف دخل في الأمر، لكن على كل حال ليس هذا شأننا، المهم أن السيد عباس المروكي رأى نفسه في ما يرى النائم أنه قد استحال كيسا أسود له مقبضان يحمل منهما بسهولة، وواسعا مثل بطن كاريكاتورية لرئيس إفريقي..
والحق أنه كان كيسا جديدا، لامعا رغم سواده، وكانت رائحته على كل حال مقبولة، كما لم يشعر السيد عباس، ظاهرا على الأقل، بأن هناك في صورته الجديدة مايدعو كثيرا إلى القلق، والشيء الوحيد الذي جعله يجرب القلق للحظات قليلة فقط هو تذكره أن الأكياس البلاستيكية، وخصوصا السوداء منها، باتت ممنوعة بقرار حكومي، لكن هذا كان مجرد إحساس ظرفي خفيف مالبث أن تلاشى عندما فهم عباس فورا أن الأمر فيه منفعة كبيرة لأنه يعني بقاءه الوقت كله خارج الاستعمال، فهو في حالته الجديدة لن يقربه أحد، ولن يحتاج إليه من سيأتي لإيقاظه من الحلم، سيتحاشاه الكل كما لم يفعلوا عندما كان يتمنى ذلك، سيكون هناك خوف من استعماله لأن القانون هذه المرة صارم، ومن دون شك فهذه حرية وتوقير لم يجربهما الرجل من قبل، لأن الحق أن عباسا المروكي قضى حياته كلها في الاستعمال، دائما كانت هناك حاجة ما إلى استعماله، فعندما رأى النور أول مرة استعمله والده للتأكيد على فحولته وكان يبرزه كدليل على ذلك حتى في أماكن تدعو إلى الاختناق مثل الحمام، واستعملته أمه لإغاضة زوجة عمه التي لم تكن تلد سوى الإناث، وفيما بعد استعملوه جميعا، بعدما انضافت إليهم العمة، كمشروع بعيد المدى لتأمين شيخوختهم وحسب وبالطريقة التي يتصورونها، بدل أن يدعوه يفعل مايشاء ويحقق ذاته بالكيفية التي تسعده وتجعله أكثر استعدادا لتحمل عجزهم وشيخوختهم..
وبالطبع، لم يكن هذا كل شيء، فسلسلة الاستعمالات التي تناوبت أطوارها على عباس المروكي لم تكن لتنتهي، فقد استعمله فقيه الجامع لحراسة غسيل زوجته لأنه كان طيعا أكثر بسبب الخوف فضلا عن الصبر على سخط الشمس في الخارج، واستعمله معلم المدرسة لنقل دفاتر التصحيح ومعها مقتنيات من الدكان إلى بيته المشترك مع معلمين آخرين، حيث أحيانا ما أعاد أحدهم استعماله لجلب السجائر أو الخبز مع الحليب، واستعمله بعض أصدقائه مشجبا لتعليق شبهاتهم الصغيرة في هتك حقول البرتقال أو التسلل خلف حمام النساء أو في كتابة رسائل حب علنية على الجدران، وعندما كبر قليلا وبات أقرب إلى رجل، ولكن بقامة أقصر، استعملته الدنيا لإنقاذ ابنة عمه من عنوسة داهمة، ثم بعد ذلك مضت الدنيا في استعماله، دون هوادة وبلا فترات استراحة، في تفريخ الأطفال من بطن زوجته والبحث عما يكفي أفواههم المتكاثرة كي تتوقف عن الإلحاح، وخلال ذلك استعمله المرشحون ضمن آخرين للوصول إلى المقاعد والمكاسب، واستعملته الدولة لتضخيم المظاهرات المؤيدة للنظام ولوائح التصويت لقول نعم للدستور ولغير الدستور، واستعملته الحكومة كمصدر متجدد دوما للضرائب والذعائر والمكوس، واستعملته قوات الأمن كموضوع للتنفيس عن عقدها، واستعملته الأحزاب للقفز إلى الإقامات الفاخرة والسيارات الفارهة والحريم البض الشهي.............
عن جزء كبير من حلمه يمكن القول إن عباسا المروكي الذي تحول إلى كيس بلاستيكي كان بالفعل سعيدا، بل من الجائز تماما عدم التهوين عند تقدير حجم شعوره بالامتلاء رغم أنه كان في الأصل كيسا فارغا. وسوف لن يكون من باب الاضافات غير الضرورية الإشارة إلى أن زوجته التي اعتادت إيقاظه من قيلولته على تمام الثانية وبطريقة لاتدع مجالا لأي احتمال آخر قد تراجعت فجأة عن فورتها المندفعة منذ فتحت عليه باب الغرفة إذ وجدته متكورا كجنين يخفي راحتيه بين الركبتين، فيما تومض باتساع متناوب ابتسامة حقيقية على وجهه الذي اكتسى صفاء نادرا..
لم تصدق زوجة عباس المروكي لطف وسحر الصورة التي وجدت عليها زوجها النائم في تلك الظهيرة المتأخرة، وقد كان من سلطتها التي لاترد أن تصفع الباب كالعادة صفعتين لامثيل لهما إلا في مراكز الشرطة، وأن تطلق ذات الصرخة التي تليق بحقل منها بغرفة في الطابق الأول، وأن تخنق أنفاس الغرفة كلها بدفقة واحدة من روائح المطبخ التي تختزنها مع عطانة العرق والعطور الممسوخة في كنف حركات جسدها، لكنها لم تفعل شيئا من هذا، بل تسمرت فجأة كما لو أنها معروضة على شاشة كاميرا متوقفة، وبينما ظلت يدها معلقة في الفراغ مقابل باب الغرفة كوداع مبتور، كانت عيناها تعانقان سحرا رحل منذ أزيد من عشرين عاما وعاد لتوه في تلك اللحظة، لقد رأت الصورة القديمة الأولى عندما كان حاجب العين دعوة إلى نزوة وليس مجرد لطخة رديئة، والشفتان لمعة عطش وليس مجرد مقدمة لموضوع نتن الرائحة، والأنف صخرة لأشواق منزلقة وليس مجرد نتوء ضروري، ولهذا لم تتردد بتلك الطريقة التي لن تنجح في تفسيرها لاحقا عن التخلي عن إيقاظ زوجها كي يعود إلى عمله وسحبت باب الغرفة خلفها بحذر ورأفة متساندين وهي تشعر كما لو أنها تحلم أيضا..
أما عباس المروكي فلا بد أن الحظ جاءه مرتين في تلك القيلولة الحالمة، مرة بالحلم "البلاستيكي" الذي أشعره أولا ورغم كل شيء بإحساس غير مسبوق بالحرية وبعدم المتابعة من أي استعمال، ومرة ثانية بانسحاب زوجته في الوقت المناسب تماما، فلو أنها تأخرت بضع ثوان فقط لكانت خاتمته كدأبها في كل يوم مضى، صفعتان على خشب الباب وزعقة مفزعة ثم عودة بلا تأخير إلى شمس الأزقة لحمل أغراض الناس على عربته الصغيرة المدفوعة حينا والمجرورة أحيانا، لكن الله سلم وتراجعت زوجته مباشرة قبل أن يشهد حلمه انقلابا جذريا انعكس في الحال على صورة وجهه فتبدلت هذه من النقيض إلى النقيض تماما. لقد حصل ذلك على حين غرة كما تبزغ أفعى من نعيم الرمل المستطاب بعد غطسة مقرورة في الأعماق، إذ بينما كان عباس ماضيا في استلذاذ مزايا صورته البلاستيكية الجديدة قصفه خاطر من الفزع كان طول الوقت، كما هو واضح، مؤجلا، خاطر مباشر ولكنه متعاظم السخرية كما لو بصوت مذيع النشرة ذي الحاجبين المعقودين وهو يبتسم عنوة في نهاية خبر عن حريق: ".. وعليه، ستقوم المصالح المختصة بإحراق كل كميات الأكياس البلاستيكية المتوافرة وإتلافها نهائيا للحيلولة دون الاستمرار في استعمالها الذي أصبح يعاقب عليه القانون.."..
في كل حلم ليس الفزع سوى النهاية والبوابة التي تفضي إلى اليقظة المترعة بالعرق والعطش والحاجة إلى تربيتة حنان كي تعود الحواس عن جموحها المجنون، لكن هل يصدق ذلك مع عباس "بلاستيكي" طالما تغذى بالعدس وشرائح الباذنجان وروى عليها باللبن الحامض في عز الصيف؟. صحيح أن صورة وجه عباس التي لم ترها زوجته بضربة حظ قد استمرت متقاسمة بشاعتها مع رأس حرذون مخنوق، ولكن ذلك كان للحظات فقط هي في حساب زمن الحلم أطول قليلا من غمضة غير ممكنة، فبدلا من أن تسلمه شهقة الاختناق إلى صحو كل يوم، استمر الحلم وتطور في اتجاه آخر ومعه عادت سورة الانشراح إلى وجه عباس وانتعش الصفاء في كمياء لونه هو الذي بات يستقبل في الحلم دفقات قوية من رياح باردة شديدة العنفوان، وهذا بالفعل ما كان يحصل هناك بعدما انتفضت حاسة المحاصر بالخطر داخل عباس وأفضى به ذلك بالسرعة المتوقعة إلى الفكرة النادرة التي يلدها يقين الهلاك وحده، فعباس الذي استعمل مرارا في أمور متكررة وتحمل ذلك من غير الوارد ألا يهرب من استعماله كوقود في حريق قادم، لذلك قرر في الحلم بلا تأخير، ولكن بغير قليل من المكر الطارىء، أن يأخذ المبادرة بنفسه هذه المرة، وأن يستعمل نفسه بنفسه ككيس بلاستيكي أسود يخرج من النافذة ويشرع تلابيبه للهواء ويرتفع خفيفا، أعلى وأبعد، أبعد وأعلى، باتجاه المكان الذي خزنت فيه شحنة النفايات الايطالية التي قررت الحكومة إعادتها من حيث جاءت، سيطير مع الرياح المتضامنة إلى هناك، وككيس بلاستيكي خطير على البيئة سيندس بين أكوام النفايات الايطالية، ووسط ألفتها سينام، سينام ولا يهم إن كان ذلك بشكل مضاعف، ولن يستفيق إن شاء الله إلا بعد أن تكون الشحنة قد حطت الرحال بأراضي "الطاليان الحبيبة"..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى