وئام المددي - لعنة المبدعين

وئام المددي


يا رب.. ألهمني السرد!
كنت لمدة طويلة متشرداً في دروب العالم الورقي، ذلك العالم اللامرئي الذي يغلف عالمك، تنتشر على بقاعه كل دويلات الخيال التي شيدها المبدعون، بمدنها
وأزقتها وبيوتاتها، تسعى على بطاحها المترامية كل الشخصيات التي نسجها الكتاب، ورسمها الفنانون، وتغنى بها الموسيقيون.. لقد كنتُ سارداً معطلاً تائهاً بين الأوراق البيضاء الخرساء علّي أجد كاتباً يتلقفني من مملكة الضياع ويقبل أن يشغلني عنده. لكن القدر أبى إلا أن يرميني في قبضة حفنة من قطاع الطرق وقراصنة السرد المنتشرين في بقاع العالم الورقي، لأبدأ من يومها رحلة النخاسة.. لقد صرت بضاعة مزجاة في سوق السرد، أعرض للبيع مع بقية الأسرى من الساردين فوق منصة للفرجة وما من كاتب أراد اقتنائي! كنت على الدوام أحمل بين يدي لافتة كتب عليها وصف موجز عني: «سارد أزيتيكي تشرب الواقعية السحرية مع عصير "الماراكوجا"[1] ومضغها مع قطع "الشيرازكو"[2] الشهية».
ذات مرة، وبينما كنتُ أنزّ حيرة وأغرق في بحيرة هواجسي، إذا بي ألمح شبحاً أسود يشق الزحام بهدوء. كان الشبح يقترب مني، فيزداد مع اقترابه خفقانُ ارتباكي. وقف الشبح الأسود أمامي وأنا لازلت أحمل لافتتي بأناملي المتعرقة. كان الشبح يرتدي رداءاً أسود فضفاضاً كأنه يخاف أن يُتعرف عليه، كان مظهره يثير الشكوك.. وزع صاحب الرداء الأسود نظراته يميناً وشمالاً كما لتحرسه نيابة عنه، ثم اقترب قليلاً مني وهمس بصوت أنثوي خافت:
- أنت من حفدة غابيتو[3] إذن..؟
أجبتها بابتسامة ذكية:
- وأنتِ من قرائه..
أجابت بحزم:
- أخيراً وجدت ضالتي.
ثم لملمت أطراف ردائها واتجهت صوب القرصان النخاس. وبعد أن تبادلا الوشوشات والهمسات، قرر القرصان أن يبيعني لها مقابل أن تكتب عنه قصة، ولم ترحل إلا بعد أن وقعت صكّاً تثبت فيه اتفاقهما، ولحد الساعة لم نكتب قصة عن ذلك القرصان!
ساقتني تلك الفتاة الغامضة إلى دفاترها، وجدتها ملأى بالخربشات، وبرؤوس أقلام أُهدر مدادها بين السطور، وببدايات تنتظر نهايات، وبنهايات تبحث عن بدايات، وبجمل يتيمة لم تتبنّها أي قصة بعد.. كانت فوضى سردية بحق!
فكرت للحظة أن أنظف المكان، أو أن أصنع من خردة السرد هذه قصصاً ما، لكنني سمعت نقاشاً صاخباً يتناهى إليّ من الصفحة الموالية.. قفزت إذن إلى الضفة الأخرى، وإذا بي أمام مائدة اجتمع حولها ثلاث شخصيات ورقية: فتاة فاتنة ترتدي فستاناً ناصع البياض تفوح عطراً، وكهل غليظ الطباع ذو لحية مهملة يرتدي معطفاً سميكاً، وطفل يرتدي أسمالاً، يخفي وجهه بكفيه. كنت أقترب منهم بهدوء حتى لا يلحظوا وجودي، لكنني تعثرت بإحدى الجمل المكتوبة على الصفحة فسقطت أرضاً.. التفت الثلاثة إلي –الطفل الصغير كان ينظر إلي من خلال فراغات أنامله- اقتربت مني الفتاة العطرة ذات الفستان الأبيض ومدت يدها إليّ كي تساعدني على النهوض:
- لا بد وأنك السارد الجديد الذي حدثتنا الكاتبة عن قدومه..
لم أنطق، اكتفيت بتأمل تمثال الجمال هذا الذي كان ماثلاً أمامي.
تبعت تلك الحورية العطرة وجلست في مقعد قربها، فيما كان الكهل العبوس يرمقني بشزر. وبعد لحظات إذا بي أرى الفتاة التي اصطحبتني من سوق نخاسة السرد.
- أهلاً بك بيننا.. أعرفك أولاً بنفسي، أنا فتاة مصابة بمتلازمة السرد، أريد كتابة رزمة من القصص، إلا أنني أعاني حالياً من شحّ في الأيدي الساردة، فأغلب من كان يعمل معي من ساردين إما قضوا في حادث، مدبر أو غير مدبر، أو أحيلوا إلى التقاعد، أو انتحروا، أو وقعوا استقالاتهم ليشتغلوا مع كاتب آخر، أو اعتزلوا السرد نهائياً.. لم يتبق لي سوى هؤلاء الثلاثة: السيد راسبوتين.. لا تخف! إنه ليس راسبوتين الحقيقي، لقد اخترت له هذا الاسم لأنه روسي أيضاً.. وجدته معتكفاً في إحدى الغابات أثناء زيارتي لمدينة أركونا الخرافية باحثة عن بعض الأساطير السلافية القديمة.. وهذه الآنسة بلقيس، إنها الرقة عينها، لا تكتب إلا عن الحب والجمال، تعثرت بها بين دواوين جبران، ونزار، وإيليوت، والسياب، وهوغو.. لا تشرب إلا ندى البتيلات أو دموع العشاق، ولا تأكل إلا شهد الشعر وفاكهة الأحلام. أما هذا الطفل الصغير هنا، فاسمه حنظلة، لهذا فلا تكلفوا أنفسكم عناء النظر إلى وجهه العزيز. بالنسبة لحنظلة.. لقد اختطفته، وجدته ذات صباح باكر ينقل الخبز الساخن على كتفيه الصغيرتين إلى أسرة فاحشة الثراء، فأخذته إلى مملكتي وشغلته سارداً عندي. يسعدني أن أعيّنك سارداً، هذا إن وافقت يا سيد..؟
- في الحقيقة.. لا أذكر اسماً محدداً لي.. لكن يمكنك أن تناديني: غابيتو.
ضحكت الفتاة قليلاً، ثم أجابت:
- حسناً.. أنت أيضاً يمكنك أن تناديني: وئام!
°°°°°°
لقد تسلمتُ شغلي أخيراً، وكانت أول مهمة لي هي أن أكتب قصة قصيرة لأشارك بها في المشاريع السردية لكاتبتي. عليّ أن أكون عند حسن ظنها، كما أرجو أن تعجبها قصصي التي سأسرد عليها لاحقاً.. لأثبت تفوقي على أولئك الثلاثة، فأكون بذلك السارد المفضل عندها. ينبغي عليّ أيضاً إتقان مهنتي، هذا إن أردت الاستمرار فيها، وإلا فسأعود إلى سابق عهدي، سارداً متشرداً بئيساً يتسكع في سوق نخاسة السرد. في الحقيقة.. إنني أرثي حالَ هؤلاء المبدعين، إنهم مساكين، كائنات مغبونة تعيش على فتات إطراء قد يجود به بعض من ذوي النفوس الكريمة، سرعان ما تودعه في "بنك رد الجميل" كما سماه باولو كويهلو ذات يوم، في انتظار أن تضارب به في بورصةٍ للنقد.
أهذا ما تبقى للإبداع في زمن كهذا؟ هل حلت به لعنة الفراعنة – كتلك التي تحدث عنها أنيس منصور ذات رواية..- أم أن الإبداع نفسه.. لعنة؟
لأكن لطيفاً في الإجابة –أو مجاملاً حتى، عرفاناً بجميل كاتبتي- ولأقل إن الإبداع تفاحة خطيئة لذيذة.. شهية، أو امرأة فاتنة، مخاتلة، يساعدها المبدعون في نسج خيوط غوايتهم، ويعينونها في نصب أفخاخها اللاحقة لهم! ذلك أن المبدعين، خاصة الحقيقيين منهم –ولا أدري إن كان فرويد سيبارك هذا الوصف أم لا- كائنات مازوخية تتلذذ بمخاض الإبداع.. فالإبداع حلم يشوبه ألم.
أليس الفرزدق من قال إن خلع ضرس يكون عليه أهون من قول بيت من الشعر.. في بعض الساعات؟
فلتنعموا بأقلامكم، وبأحلامكم، وبآلامكم أيضاً.. أيها المبدعون!
بدءاً بتلمظ دفعة الأدرينالين التي يضخها رعب الصفحة البيضاء في شرايينيهم، سواء أكانت لوحة عذراء لم تلطخ بعد بالألوان، أو ورقة لم يبقرها سواد المداد والأفكار، أو صفحة من دفتر موسيقي لم تمزق هدوءها نوتات سيمفونية محتملة، ينخرط المبدعون في تذوق الهدايا المرة التي يتحفهم بها الإبداع، مروراً بمحنة البحث عن نطفة فكرة، وتعهدها بالسقي إلى أن تصير شجرة أفكار تحتاج إلى التشذيب –قد يصل الأمر إلى البتر في بعض الأحيان..!- ولن ننسى المعاناة المريرة في عجن التصورات، ونسج الحيثيات الدقيقة، وضبط الحسابات، ورسم العلاقات.. إنهم في كل هذا يجتزئون من هزائمهم وانتصاراتهم، الصغيرة والكبيرة، قطعاً جاهزة للاستهلاك، يسكبون عليها القليل (أو الكثير.. الكثير جداً) من صلصة الخيال ويتبلونها ببعض بهارات الواقع مما سمعوا عنه من تجارب الآخرين، ثم يقدمونها في طبقٍ للتلقي، قبل أن يتسمّروا على طرف مائدة الإبداع وهم عاقدون أكفهم، وعيونهم الخائفة لا تكاد تفارق ملامح المتلقي المنهمك في مضغ الوجبة! من يدري؟ قد يصير هذا المتلقي قاضياً متعسفاً يزج بهم إلى قفص الاتهام كي يحاكمهم بتهمة التستر على جرائم باحت بها بلاهتهم أدباً! ولعل دوروثيا براند تشاطرني الرأي في اعتبارها كل قصة تبدأ من العقل الباطني، حتى إن بارث نفسه قال إن الكتابة ما هي إلا البقايا الفقيرة والهزيلة للأشياء الجميلة في ذواتنا.. ذلك أن الكاتب الجيد، عزيزي المتلقي –وعفواً إن ناديتك بهذه العبارة المسكوكة التي مجّتها أذناي- هو ذاك الذي يكتب نفسه، لكن دون أن يفلت الخيط الرفيع الذي يمرّ على نفسه، وعلى الأشياء أيضاً!
ومهمتي الآن، باعتباري سارداً بالكاد تسلم وظيفته الجديدة، أن أجمع كبّة من الخيوط، وأنسج بها أنا وكاتبتي قصصاً، وقد كانت الوصية الأولى التي قدمتها إليّ كاتبتي هي ألا أستغبيك، وكأنها بذلك تريد أن تستدرجك لتقع في حفرة السرد، حتى تصيبك اللعنة التي أصابتها!
ها هي قد جاءت، تحمل بين يديها كوباً من الحليب الممزوج بالشاي الأسود.. سأتركك الآن، فحماسة اليوم الأول من العمل تلهبني! لكن آلتي السردية تلكأت بعد كل سنين البطالة هذه، بعد أن علاها صدأ الشقاء، بعد أن تلطخت بالسواد الذي يغلف دروب الحياة، ويطل من أعين أطفال لم يعهدوا غير الرصيف وساداً، يقتاتون من الانتظار حتى لا يقتطفهم الجوع غبناً.. بعد أن بحثتُ عن خيوط السرد وأوتار الشعر تحت بتيلات الورود، وبين قطرات الندى، فوجدتها بين البنادق، تلتف حول زناد القنابل، تقطر بالدم والدموع.. بعد أن نُسِفت كل دويلات الخيال، لأن الواقع صار أكثر إبداعاً من الإبداع!
هل أكتب، أم أقتدي بنصيحة جيل رونارد: "لا توقظ الشجن الذي ينام"؟
قد أضطجع قبالة شجني وأنام.. ذلك أن النوم طريقة من طرق الموت المؤقت، أو على الأقل، طريقة نقتل بها الواقع.. ولو مؤقتاً!
قد تسعفني القصص البليدة التي كنت أحكيها للقراصنة بينما أنا منهمك في تنظيف متن السفينة، قد تعينني حكايا جدتي، قد.. يا رب، ألهمني السرد!


26 يناير 2013


[1] عصير برازيلي يستخرج من فاكهة الآلام، يتميز بلونه الأصفر الفاقع.
[2] أكلة برازيلية مؤلفة من قطع لحم مشوية.
[3] تصغير لاسم: غابرييل، وهو الاسم الذي كان ينادى به الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في طفولته.
مقتبسة من أنطلوجيا القصة القصيرة بالمغرب التي أعدتها مجلة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى