خضر النوراني - أنثى العنكبوت.. قصة قصيرة

كان متجها لغرفته عقب عودته للمنزل بعد يوم عمل طويل . سمع صوتها مشربا برنة ساخرة :

- إلى أين ؟ .

التفت إليها . كانت كالعادة داخل المطبخ غارقة في الزيت وعصير الطماطم . كانت تعلم أنه سيأتي إليها قبل أن يرد ، كان دائما يكره التحدث بصوت عال ويفضل التحدث بصوت خافت . دلف إلى المطبخ بنظرات متسائلة فقالت في بساطة :

- نقلت معلقاتك للصالون .

لم يظهر غضبه على وجهه ولكنها شعرت به ، تابعت غير عابئة :

- لا تقل أني لم أخطرك .

- لم أوافق .

قالها في هدوء لا يشي بما يعتمل في دواخله فقالت :

- لن نعيش زمننا وزمن غيرنا .

قال بصوته الخافت :

- زمني لم ينته بعد

رغم خفوت صوته أخافتها رنة تصميم تعرف معناها رغم طول عهدها بها . أحست بأن الأمر لن يمر ببساطة هذه المرة.

- أذكر إنك قد قلت في موقف مشابه إن إقامة أحمد معنا ستكون مؤقتة ، وافقت في ذلك الوقت على التنازل عن الغرفة الكبيرة .

شعرت بأن الأمر لن يمر ببساطه هذه المرة فغيرت لهجتها إلى نغمة مهادنة وهي تقول :

- أنت تعلم أن خطوبة البنت قد طالت أكثر مما يجب ، مرتب نادر لا يكفي لإستئجار شقة في حي مناسب ولم يكن هناك حل غير إقامتهم عندنا مؤقتا .

حمل صوته سخرية واضحة وهو يقول :

- أحمد ما زال مقيما معنا رغم مرور ست سنوات على زواجه .

- إنه إبنك هل كنت ترضى بأن يقيم مع أصهاره ؟.

- أرى أن والد نادر ليس لديه مانع في إقامته معنا .

- الوضع يختلف ، لدى نادر شقيقات يعرف كل سكان الحي مدى شراستهن ، لن القي بإبنتي بين براثنهن .

- لقد وافقت على زواجه من إبنتي وليس شأني أين يسكنها ، هذه ليست مشكلتي بأي حال .

نظرت إليه في قلق قبل أن تقول :

- لقد فات أوان هذا الحديث . سيأتي نادر بعد قليل مع سيارة محل الأثاث الذي أشترى منه غرفة النوم .

نظر إليها للحظات قبل أن يقول :
- وأنا آخر من يعلم .

- ظننت أنك لن تمانع .

- ظننت ؟ .

لم ينتظر ردها ، غادر المطبخ في هدوء دون أن يسمع أحد من أولاده أي جزء من حواره مع زوجته . اتجه من فوره للصالون فوجده قد قسم إلى قسمين منفصلين بستارة سميكة . تحول النصف الأول إلى غرفة نوم وضع فيها سرير غرفة نومه ودولابه بينما تم التخلص من جزء من طقم الجلوس ليتسع النصف الآخر لما تبقى .

خلع ملابسه واستلقى على سريره ، كان صدره يعتمل بمزيج من الغضب والشعور بالمهانة .. تزوجت إبنته فأجبر على مغادرة غرفته ، ويتزوج إبنه فيتم نقله للصالون . إنه منزله هو ، عمل بجد طوال سنوات طويلة حتى بنى هذا المنزل غرفة فغرفة . لم يرث من أبيه شيئا وليس مطالبا بأن يقدم لأبنائه حياة مريحة سهلة على حساب راحته هو ، فليعملوا كما عمل ويبنوا حياتهم بأنفسهم يكفي أنه وفر لهم سبل التعليم في أرقى الجامعات والمعاهد .. وهذه المرأة ما بالها .. منذ أن كبر أبنائها أهملته تماما وأهملت حتى نفسها أصيحت تشغل وقتها كله بخدمتهم ومطالبهم ونسته تماما والآن تقول له إنه لن يعيش زمن غيره إنه لم ينته .. ما زال في الستين من عمره ويتمتع بكامل صحته ولن يستسلم لمحاولة دفنه حيا .

قطع تفكيره دخولها حاملة صينية الغداء . وضعته أمامه فلم يمسه .. قال لها بعد فترة صمت :

- لدي إقتراح .. كما تعلمين أني قد اشتريت قبل سنوات منزل في سوبا .. سأتولى تهيئته ليسكن فيه أحدهما .

قالت في إستنكار :

- سوبا ؟ لن أسمح بأن يسكن أحد أبنائي في سوبا .

- لن ينجحوا في حياتهم إذا ظللنا نحل كل مشاكلهم حتى دون أن نعطيهم فرصة التفكير في حلها . تذكري إننا عندما سكنا أركويت كانت حيا بعيدا نائيا .

لكنها أصمت أذنيها ، كانت عاطفتها تجاه إبنيها أكبر من أي منطق يحاول إستخدامه . كانت تريد لهم سكنا مريحا قريبا من مكان عملهم . كان أكثر ما شغلها هو تصميمه على عدم تقديم أي تنازل . كان يحس بأن الأمر هذه المرة تعدى كل الحدود الممكنة ليصبح إعتداء على كبريائه . قال لها في محاولة أخيرة :

- لدي إقتراح ، سأعمل على تهيئة منزل سوبا لنرحل فيه نحن ونترك لهم المنزل .


لكن كان من الواضح أنها لم تكن تريد إراحة إبنيها على حسابه فحسب ، بل تريد البقاء بقربهم وخدمتهم ، يبدو أنها أصبحت تؤمن فعلا بأن زمنهما قد إنتهى وأن عليه أن يقبل بقضاء ما تبقى له من عمر في جزء من الصالون ليصبح مجرد مصدر للتمويل .

أدهشها أنه بعد ذلك لزم الصمت تماما وامتثل لكل ما طلبته منه حتى كان يوم ..

في ذلك اليوم جاء متأخرا قليلا ، تناول معها طعام الغداء . وعندما همت بأخذ أواني الشاي أشار إليها بالجلوس.

بعد فترة صمت قصيرة ألقى ما لديه مرة واحدة :

- لقد قررت أن أتزوج .

أخذتها المفاجأة . لم يحدث حتى في المزاح أن فكر في أمر مماثل . واصل حديثه :

- سأترك لكم منزل أركويت وأسكن سوبا .

لم تجدي توسلاتها بإنعكاسات قراره على حياة أبناءه . ولم تجدي كل الوساطات التي ساقتها إليه . كانت قد أيقظت ماردا لا قبل لها به من مرقده . كل عزاءها كان تعاطف مجتمعها معها . وصم بالخيانة والتنكر للسيدة التي وقفت معه أيام فقره وساندته . وزاد من شراسة الحملة عدم محاولته الدفاع عن نفسه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى