محمد محضار - العجوز والموت

محمد محضار  -.jpg

أغلقت باب بيتها ،وسدت نوافذه بإحكام، ثم تحصنت بالداخل وقد إطمأن قلبها إلى أن الموت لن يصل إليها،ولن يستطيع أن يفاجئها . الكثير من معارفها رحلوا على امتداد السنوات الماضية،أغلبهم اقتنصه الموت في غفلة منه،وهي لا تريدأن تفاجأ مثلهم.لهذاملأت كَرَار بيتها بكل المواد الغذائية التي تحتاجها ، وقررت أن لا تغاذره البتة ،منذ أسبوع طرق باب بيتها موظفون حكوميون تابعون للبلدية وأخبروها بضرورة إخلاء مسكنها لأنه آيل للسقوط ، لكنها واجهتم بشراسة:
-لن تنطلي عليّ حيلكم ايها اللؤماء أنتم رسل الموت تجرون رجلي لمغادرة بيتي فيصطادني .
-أغلب السكان رحلوا ياحاجة ، بيوت هذا الحي ستسقط ،لأن الشقوق تعتري كل الأبنية.
-تكذبون! أنتم تريدون بي شرا
-ذنبك على نفسك نحن قمنا بواجبنا
للموت أعوان ، وعيون ترصد الضحايا وتعدهم لليوم الموعود وهي لن تنخدع بهذه السهولة وتصبح لقمة صائغة للموت يأخد روحها ويحرمها من نعمة الحياة على حين غرة،هي فعلا بلغت من العمر عتيا، وتعاني من ضغط الدم ،وارتفاع نسبة السكري ، وآلام مرض النقرس، لكن هذا ليس مبررا يشفع للموت فعلته .
أفاقت من سحائب أفكارها على صراخ وضجيج قوي بالخارج ، ترددت لحظة ثم اقتربت من الباب الخشبي المتين ، ووضعت عينها على العين السحرية ، رأت شابا ملقى على الارض وهو ينزف
دما،كانت ملامح وجهه تنم عن معاناة فظيعة من الآلام. وكان يصدر عنه صوت أنين ممض. عادت أدراجها وجلست على الأريكة الوحيدة التي تملك ." لا شأن لها به ،هناك رجال أمن وإسعاف بالبلد وهم المسؤولون عن حماية أرواح المواطنين ورعاية الجرحى والمصابين منهم،هي مجرد سيدة عجوز،من الأفضل لها أن تبتعد عن المشاكل ".
زادت حدة الأنين ،أصبحت تطرق أسماعها بقوةوهي جالسة في مكانها،تقطع من الزمن ردح ،وهي ساكنة تفكر ،لكنها في أخر المطاف قامت واتجهت من جديد نحو الباب ،نظرت عبر العين السحرية ، كان الشاب ما يزال ممددا في مكانه وهو يتوجع ،لم تتردد هذه المرة، فتحت الباب واقتربت منه ، سالته بصوت أجش :
-من فعل بك هذا ؟؟
رد الشاب بصوت ضعيف :
-فاجأني ثلاثة شبان على حين غرة ، عندما حاولت الدفاع عن نفسي اعتدوا علي بالضرب ،ثم طعنني أحدهم بمدية على مستوى عظمة الترقوة .
قرفصت جالسة ،مدت يديها تفحص جرحه :
-الحمد لله الجرح سطحي ،يمكنك الدخول معي للبيت حتى اقوم بتنظيفه وتقديم الرعاية اللازمة لك
ابتسم الشاب ،بدا جبينه وضيئا،وعيناه ناعستان تشيان بطيبة ظاهرة.
ثم قال:
-عفوك سيدتي لا أريد الإثقال عليك
قاطعته العجوز وهي ترسم ابتسامة رقيقة على شفتيها:
-تفضل معي بُني، ليس هناك إثقال .
ساعدته على الوقوف ،واسندته على كتفها ثم دخلا البيت ،دعته للتمدد على السرير،وأسرعت نحو الباب تغلقه بإحكام ،ثم هرولت نحو الحمام ، آبت تحمل حقيبة صغيرة ،فتحتها ، أخرجت زجاجة كحول ،وقطعا من الشاش ، والأشرطة اللاصقة ،وكبسولة مرهم لتطييب الجروح،بدأت بتنظيف الجرح بكل عناية ومعالم الفرحة ترتسم على محياها:
-لقد اشتغلت ممرضة أزيد من ثلاثين سنة بالمستشفى الجامعي ابن رشد
-شكرا لك أيتها السيد الطيبة ،يداك بلسم وترياق
عندما أصبح الجرح نظيفا،دهنته بالمرهم،ثم غطته بالشاش وشدته بالشريط اللاصق،بدت علامات الارتياح على وجه الشاب، قدمت له العجوز كأس لبن ساخن شربه ولسانه ينطق بكلمات الامتنان.
أحست العجوز بتيار عواطف لا حدود له يشدها إلى الشاب ،تخيلته ابنها الذي لم تلده،كم هي رائعة عاطفة الأمومة ،إن لها سحرا خاصا ،ووهجا ينير الجوانح ،ويفجر شلال نور في الذات .
سألها الشاب وقد لاحظ شرودها:
-أين غاب عقلك أيتها السيدة الطيبة ؟
ردت وعيناها تومضان ببريق غريب :
-كنت أفكر بك ، تخيلتك ولدي الذي لم تلده بطني
-هو إحساس متبادل سيدتي ..
غفا الشاب لحظة ،وعندما استيقظ وجدها تجلس فوق الأريكة المقابلة للسرير،وعيناها تحدقان به ،استوى جالسا وهو متهلل الأسارير،هتفت به العجوز:
-الحمد لله أنت بخير
رد الشاب :
-بلى أنا بخير يجب أن أذهب الآن
قاطعته:
-مازالت متعبا يمكنك البقاء معي بعض الوقت ،لقد آنست وحشتي، و ذهب عني الخوف الذي كان مستبدّا بي.
سألهاالشاب باستغراب :
-ما يخيفك ياسيدتي ؟
تلعثمت العجوز لحظة ثم قالت :
-أنا خائفة من الموت ،لا أريد أن أموت ،أنا أحب الحياة
-الحياة جميلة ، لكنها مجرد مرحلة في عمر الانسان ولابد أن تنتهي ، لتبدأ مرحلة جديدة ، ولنسميها تجاوزا مرحلة ما بعد الحياة.
-الموت تساوي العدم
-لا لست متفقا معك
قام الشاب من مكانه واقترب من العجوز ، مد لها يده،أمسكتها بحنو قال لها :
-قومي سيدتي
قامت من مكانها ، أحست بخفة لم تعهدها من قبل ،اختفت ألام المفاصيل ،وغاب صفير الضغظ عن أذنيها ، قالت للشاب :
-يدك منحتني قوة وقدرة على الحركة لا عهد لي بها
ضحك الشاب وقال برقة وحنو:
-أتعرفين من أكون ؟
بدت الدهشةعلى محياها ،وقالت :
-لا يا بنيّ
حدق بها هنيهة ،ثم هتف قائلا:
-أنا الموت الذي كنت خائفة منه ، وأنت الآن ميتة.
التفتت نحو الأريكة التي كانت تجلس عليها ،رأت جسمها في مكانه ، وقد مال رأسها إلى الخلف .

محمد محضار 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى