نور الدين محقق - مدينة الخيال

noraldinne.jpg


حدثنا هشام بن عيسى ونحن جالسين نتسامر في أحد المقاهي الشعبية بعد أن طلب عصير ليمون وقهوة سوداء على حسابنا قائلا:

( كان من عادتي أن أشتري الكتب القديمة، منذ صغري وأنا مولع بذلك، كنت أذهب إلى سوق الأربعاء القريب من حينا، وأنغمس في الحوانيت التي كانت تبيعها. تولد من ذلك مع مرور السنين تآلف كبير بيني وبينها، صارت هذه الكتب أصدقاء لي، أصبحت أشعر بنوعية الكتاب الذي سألتقي به قبل أن أراه، وحين كبرت ظلت هذه العلاقة حاضرة، لم أعد أذهب إلى ذلك السوق القديم. قيل لي إنه قد اندثر. الأيام قد فعلت فيه فعلها. أصبحت أذهب الآن إلى المدينة القديمة. كلما ذهبت إلى وسط المدينة، إلا وتركتها، كانت قدماي تجراني جرا إلى الداخل، نحو حارة الكتب القديمة تحديدا، دنيا الكتب، لمن لا يعرفها. اشتريت منها الكثير، وندمت على أنني لم أشتر منها الأكثر، كتب تعيد الذاكرة إلى الوراء حينا، وتدفع بها نحو المستقبل حينا آخر، كتب من مختلف اللغات ومن مختلف الأزمنة والعصور. كان بعض أصدقائي يضيقون بي ذرعا حين أصادفهم في أحد المقاهي الراقية وسط المدينة، حين أدعوهم بعدها إلى زيارة هذه الدنيا.القطيعة أو على الأقل شبهها قد حصلت الآن بين الناس وبين عالم الكتب. الناس قد أصبحوا مغرمين بمتابعات القنوات الفضائية بمختلف مشاربها، العربية منها والغربية، وهم يناقشون في المقاهي ما يرد فيها من أخبار، وكل واحد منهم يظن نفسه المثقف الأوحد بين أصدقائه، لم يقرأ أي واحد منهم-فيما يبدو- أي كتاب منذ سنين، حتى الصحف إن لم يجدوها في المقاهي لا يقرأونها، وحتى إن وجدوها، يتصفحوها، ثم سرعان ما يندمجون في فك طلاسم شبكاتها المتقاطعة والمسهمة، وكم تبدو الفرصة عميقة على الذي يسبق الآخرين إلى ذلك. يبدو متطاوسا، وكأن الثقافة قد اجتمعت فيه كلها. هكذا كنت في الغالب، أفضل أن أجلس وحيدا، مثل أي دون كيشوت جديد، أفتح كتبا و أغرق في بحره، باستثناء مساء يوم السبت وصباح يوم الأحد، إذ لابد للإنسان من الترفيه عن نفسه صحبة أصدقائه، وأي الرجال المهذب ؟.

كانت الأيام تسير على هذه الوتيرة، لكأنني لا أريد أن أنسجم مع المتغيرات، لقد جلست في أرفع مقاهي العالم، ودخلت أرفع أماكنه، لكن كنت لا أرتاح إلا وأنا جالس في المقاهي الشعبية، مقاهي ساحة السراغنة التي تذكرني بمقاهي القاهرة في روايات نجيب محفوظ، كنت أجدني فيها أضحك ملء صوتي، أتابع بعيوني النساء الجميلات، كل النساء جميلات، حين نبصرهن بعين المحبة، ثم أنطلق من هذه المقاهي متوغلا في درب الأحباس حيث تتربع المكتبات. أتجول قليلا بينها، لآخذ تاكسي كبير، ينقلني إلى وسط المدينة، ومنها مباشرة إلى حارة الكتب القديمة، هذه المرة فعلت نفس الأمر. كان الظلام قد بدأ يسدل أستاره. وصلت متأخرا بعض الشيء عن عادتي. وجدت الحارة غارقة في الألم، كانت أصوات النسوة وهن غارقات في البكاء تملأ الفضاء، سألت بعض المارة الذين كانوا متجمهرين هناك. كانت هناك جنازة امرأة قد ماتت للتو، المسكينة قد حان أجلها، وتركت خلفها صبية صغار يبكون.دخلت أحد المكتبات الشعبية المتواجدة هناك، سلمت على بائع الكتب وتحدثنا قليلا، أخبرني أنه على وشك الإغلاق، خصوصا بعد هذا الحادث الأليم، لكنه بعد أن رآني تمهل قليلا، ثم بدأ في الحديث عن الواقعة. المسكينة كانت تعاني من مرض القلب، كانت الأزمات القلبية تتابعت عليها في الأيام الأخيرة بكثرة، ثم فجأة وكأنه تذكر شيئا هاما، إذ نظر بعيدا ثم قال لي والدموع تكاد تتسرب من عينيه، أتعرف ذلك الكاتب الذي كان يزورنا باستمرار، الرجل ذو الطول الفارع، الذي غالبا ما كنت تراه جالسا عندنا يتصفح بعض الكتب. سألته بعد أن تراءت لي ملامح الرجل عنه ؟ فأخبرني بأنه مات محترقا، سأله بأسى، كيف وقع ذلك؟ قال لي الكاتب كان مثلك شغوفا بالكتب، بل يبدو لي أنه كان شغوفا بها أكثر منك، فهو لا يرتدي ملابس أنيقة مثلك. كان كل همه هو أن يشتري الكتب من عندنا، ويعكف على قراءتها. حتى وهو يجلس عندنا كان الكتاب لم يفارق يديه، وكان من عادته أن يقرأ ليلا على ضوء الشمعة، كانت الشمعة، كما كان يقول لنا تمنحه الإحساس بالجو الشاعري، الضوء خفيف يتراقص أمام ناظريه، والحروف تبدو في الكتاب الذي يكون مستغرقا في قراءته، وكأنها كائنات آتية من عالم آخر، كما كان ضوء الشمعة لا يضايق زوجته، التي تكون في الغالب مأخوذة بنومها العميق صحبة الأولاد، قضى سنينا طويلة على هذه الحال. لقد نصحته مرارا، صدقني، بأن يشتري فانوسا صغيرا، يستعمله في الليل متى يريد القراءة، كما نصحه جل أصدقائي من باعة الكتب القديمة هنا، ولكنه كان قد تآلف مع ضوء الشمعة. لقد تذكرت الآن، أنت تعرفه بالتأكيد. لقد سبق لي أن شاهدتكما تتجادلان حول إحدى الروايات، ربما لنجيب محفوظ، كنت تقول له بأنها رواية جميلة، وهو كان يقول لك بأنها لا تعدو أن تكون نسخة عربية من رواية أخرى لإميل زولا، كنت توضح له المسألة، وهو لا يريد أن يقتنع، أرأيت كم كان مثقفا، رحمة الله عليه، لقد مات الآن وهو في قبره، سألته من جديد كيف مات محترقا ؟ قال لي لقد نسي الشمعة مشتعلة، فسقطت بالقرب منه وهو نائم ،وشبت النار سريعا، فأحرقته قبل أن يستطيع الفرار، أنت تعرف طبعه. يبدو هادئا متأملا باستمرار، لعله قرأ كثيرا في تلك الليلة ولما غلبه النوم، نام عميقا، المسكين، لقد كان رجلا طيبا، حين سمعنا خبر موته من أحد أصدقائه، الذين يأتون إلى هنا كثيرا بحثا عن الكتب القديمة مثله، حزنا لموته بل إن الدمع قد انبثق من أعيننا جميعا. قلت له متأثرا بكلامه، ليرحمه الله، لقد كان إنسانا رائعا، رأيته مرة هنا يتحدث مع بعض الطلبة ناصحا إياهم بمتابعة دراساتهم بكل تفان ومسؤولية. نظرت إلى أحد الكتب التي كانت بالقرب مني، كان الكتاب يتحدث عن الجاحظ، اشتريته للتو، لم أناقش في ثمنه الذي كان يبدو مرتفعا بالقياس إلى الحالة الكئيبة التي أصبح عليها بعد تداول الأيدي الكثيرة له. تذكرت وأنا عائد إلى بيتي، قصة الجاحظ. لقد كان الجاحظ مغرما بالكتب .كان يكتري الحوانيت المخصصة لبيع الكتب مؤديا ثمن المبيت فيها ليلا، وبدل أن ينام يظل المسكين مستغرقا في قراءة الكتب الموجودة فيها، بل الأدهى من ذلك، كان إذا أعجبه أحد الكتب يبدأ في نسخه. كان يشتري شموعا كثيرة، حتى لا تنقضي، وهو لم يتمم الكتاب بعد، في القراءة أو النسخ. ذات مرة، بعد أن هرم، أراد أن يأخذ كتابا كان معلقا في أعلى الحانوت، فما شعر إلا والكتب تسقط عليه، هوت الكتب بكل ثقلها على جسده الذي ظل يرتعد تحتها حتى مات. حين ركبت التاكسي الكبير متجها إلى بيتي لاحظت أن المرأة التي كانت تجلس بالقرب مني، قد أخرجت من جيبها كتابا صغير الحجم، وبدأت في تصفح أوراقه، ألقيت نظرة خاطفة على عنوانه، كان العنوان، كيف تتعلم الإنجليزية في خمسة أيام وبدون معلم، ابتسمت، لاحظت هي ابتسامتي، فقالت لي، بأن تعلم الإنجليزية مهم في هذا الوقت، وبأنها تعشق الكتب كثيرا، ثم وجهت لي اتهاما كبيرا، يبدو أنك لا تحب الكتب، أنت لا تقرأ. لحظتها تذكرت شابا كان يقطن في الدرب، كان هو المثقف رقم واحد فيه آنذاك. قال لنا ذات مرة مزهوا بذاته، لقد قرأت كثيرا، حتى حصلت على الباكالوريا، و حين حصلت عليها، أخذت كل كتبي ورميت بها في البحر، اقرؤوا الآن كثيرا، لكن حين تحصلون على الباكالوريا ارموا الكتب مثلي في البحر، لكنني للأسف، يا صديقتي الطيبة، لم أفعل بنصيحة هذا الشاب الرائع، لم أرم بكتبي إلى البحر، بالرغم من أنني حين أفتح نافذة بيتي، الآن تتراءى لي أمواجه قريبة جدا مني.....

كيف يمكن لي أن أرمي بمدينة الخيال إلى البحر؟ كتبي هي مدينة خيالي)

التفت نحونا هشام بن عيسى ضاحكا، ثم قال لنا، الحمد لله، لقد انتهى عصر الكتب، وجاء عصر الانترنت.انتهينا من القراءة تحت ضوء الشمعة المتراقص، وبدأنا نقرأ مباشرة ما تقدمه لنا شاشة الكمبيوتر.القصة التي حكيتها لكم الآن قرأتها أمس في أحد المواقع الثقافية الشهيرة، وهي لكاتب مغربي اسمه نور الدين محقق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى