هشام بن الشاوي - النصف الآخر

كما يجدر برجل وحيد ، وبائس تغفو إرهاقا ، والحافلة تمخر عباب الإسفلت ، في ظلمة المغيب الشاحبة ...
تنتبه إلى أن تلك الفتاة المحجبة تشبه امرأة سكنتك ، ذات شقاء ، على الأقل هذه تتطلع إليها بحرية ، وأنت تدرك تمام الإدراك أنك رجل غير ناضج عاطفيا ، وتطارد سراب استقرار عاطفي ":آه . يا هند !يا جرحا وشم في القلب .. !! " .

كانت أجمل ما أبصرت عيناك - يومها - وكانت تصدك، وأنت بكل الضعف الإنساني ، الذي يختزله الحب اليائس تطاردها ،وهي مدججة بكيرياء مراهقة ، رشيقة ، شهية ، حلوة ، بشفتين قرمزييتين ، وجه كالقمر، وعينين قاتلتين ، حتى لو رمتك بنظرات احتقار .
اعتقدوا أنها مجرد نزوة ، كان رفاقك وأقاربك يسخرون منك ..
صديقك الكهل استعرض مغامراته ، هازئا منك في إشفاق .. أوهمك أنه بطل من أبطال الميلودراما الهندية ، فاز بقلب معبودته، متحديا كل الصعاب ... فكرت في ما يقال عنه، وهو يسلم راتبه الشهري لزوجته ، التي تتكفل بكل أعباء البيت المادية ، ويأخذ منها ما يبتاع به سجائر محدد عددها كل يوم !!


كلما التقيت هندا – صدفة – قريبا من محيط الحي ، رمتك بنظرة تتجاهلها . تحدق فيك لوهلة .. باحثة عن وجه الشبه بينك وبين الذي كنته ، مستعيدة شيئا مفقودا .. حتى الأصدقاء اندهشوا حين التقوك بعد سنوات ، وقد تخلصت من بعض نزقك ...
لا تستغرب ، حتى مشاعر النساء تتبخر، كتلك التي كتبت إليك ، في بداية غرقكما العاطفي :
Je t'aime , à la folie…
(أحبك حتى الجنون) .
كان أول مسج وصلك منها . لم يكن تعارفكما حبا من أول نظرة ، وإنما وليد لقاءات قصيرة ، ثم صرت (نسيا منسيا) ، يا قلب !
دائما تضيع كل الأشياء الجميلة باستبدادك العاطفي ، بمحاكمة لماضي حبيباتك ، بكلماتك الأشبه بالخناجر ، وأنت تحب بسادية وتغار بطريقتك الهوجاء ...
- لن أنساك إلا في حالة واحدة :زواج أحدنا . لا أستطيع أن أنساك .. لكن سأحاول !!
تستند برأسها إلى فخذك : لن أحب أحدا بعدك ، بسبب ما كابدت معك ، ماعدت أنام .. من قبل كنت أغوص في النوم ، بمجرد وضع رأسي على الوسادة . الآن أبقى شاردة ، أفكر فيك ساعات !
قابلتها بعد إصرارها على لقائك ، ذلك المساء ، في تلك الخلوة ، وهي تتهمك أنك صرت تتجاهلها ،ولا تحبها ..
كنت حزينا ومتعبا ..
تخنقك بقبلاتها ، لا تستطيع أن تجاري شفتيها ، تضحك مبتهجة ، تمد يدا متكهربة إلى سروالها .. تهتف متضاحكة : إنه موصد بمائة قفل ..!
تضيع كل محاولاتك سدى ، تجثوعند قدميها ، تتسكع يدك فوق صدرها ..
وفي لهفة ، تساعدها في رفع ثوبها ، كاشفة لك عن نهدها الأيسر...
ولأنك كنت تحلم بها زوجة تبادلك الحب ، كتبت إليها في رسالة قصيرة معتذرا ، رافضا أن يبتذل حبكما شبقا ، رغم النداء الملح ، الصارخ في الأعماق :" أن أعاملك كالأخرين ، كرجل وامرأة .. فهذا جرم لا يغتفر، يا حبي الأخير !!" .

ولكي تحطم كل شيء ...
كتبت لها أنك مع عاهرة ، كنت مدفوعا بقوة غريبة ، وحتى لا تتألم أكثر مما يتحمل جسدك الواهن ، و تتخلص من عذابات حب ، حكم عليه بالإعدام من طرف الآخرين ، كعادة كل قصص الحب الرائعة .. كتبت لها أن العاهرة كانت حائضا، وأنك (... ) من الخلف، وتخيلتها مكانها .....!!
كنت (كاذبا ) في تخيلك حبيبتك في ذلك الوضع ، لكن كنت تحتاج إلى أن تكرهك ، بأية طريقة !!
في مكالماتها الأخيرة ، صارحتك أنها ماعادت قادرة على تحمل تعذيبك اليومي لها ، بكلامك الجارح والبذئ .. وباسم الحب والغيرة !

لم تكن نبرة صوتها حزينة كما في السابق ...
هو الفراق حان أوانه : "هناك من اتصل بي ، طالبا مني أن أبتعد عنك ".
إذا، فلترتشف دمعك وحيدا .. !!
ليلتها ..
تركل كل ما في طريقك ، تسب الأطفال الذين يلعبون الكرة قرب البيت :
- ابتعدوا ، يا أبناء ال ...
يتحداك أحدهم بلامبالاته ، ترفعه من فوق الرصيف ، و تدرك عواقب أن ترميه أرضا، تدعه يلامس الأرض بقدميه ..
تحس أنك في أمس الحاجة إلى هدوء تام ، وألا تكلم أحدا ...

في أزمور ، تلك المدينة الأطلسية، الصغيرة ، ببيوتها البيض ، ونوافذها وأبوابها الزرق ، اعترض سبيلك طفل مشرد يتسول دراهم ، يشتري بها لصاق (السليسيون ) ، فقذفت في وجهه بذاءاتك المعهودة :
- سير عند القحاب في للا عائشة البحرية !

في الحافلة الزرقاء رقم 3 ، المتجهة من أزمور إلى " للا عائشة البحرية" ، أصرت فتاة مجلببة على أن تقف أمامك ، لم تكن جميلة بما يكفي لإثارتك .. حتى مفاتنها غير بارزة بشكل شهواني ..
فقط ، و بطريقة آلية ، ودون أدنى استمتاع ، وتعبر عن امتنانها ، باستكانتها وتجاهلها .. لم تلق نظرة متوعدة ، ولا مستزيدة .. كما يجدر ببدوية محاصرة بالصبار، وأعين لا تنام ...
لم تكن في جمال تلك الثلاثينية ، التي هيجتك ، حين لمحت ثوبها الداخلي القصير(البرميدة) ، غير منتبهة إلى أن جلبابها - وهي مع الجالسات في انتظار حافلة أزمور- قد ستر ما ستر، وكشف ما كشف .
كان جمالها عاديا غير فتان ، وترتاح إليه العين ، فتشتهي أن تلعق بلسانك بطن فخذها المشع بياضا .
تعمدت الشابة البدوية أن تجعل أمها وأخاها ، يقفان في الزحام أمامها ، وقد استكانت يدها إلى دفء ملمس أصابعك في ما يشبه الاحتضان .
لم يحدث أي التحام .. هو بعض الدفء في الزحام .
تدخل ساقك في تجويف جلبابها مابين ساقيها المنفرجتين، تلامس ساقها ، وتجعل فخذك يلامس ردفها ، تحاول لمس كتفها في ما شبه الاستناد، تحول يدك إلى خصرها، معبرا عن امتنانك لتجاوبها المحايد .
دون أن تجرؤ على لمس فاكهة صدر ، في حجم قبضة اليد .
لم تكن جميلة ولا قبيحة أيضا ، لكن حاجتها ملحة إلى ... من يتهجى أبجديات جسدها المشتعل خلف ثياب محتشمة ، يحدثك قلبك : " لا تعرف فيم تفكر بنات حواء في مثل هذا الموقف ، ربما يقلن :يا لك من غبي !!
لا تتوقع من امرأة (حتى لو كانت بغيا ) أن تقول لك : إني أريدك .. إني أشتهيك!! إن الجسد يجرنا دوما إلى الخطايا ، وأن الخطيئة امرأة شهوانية لعوب"!! .

تلسعك أشعة الشمس ، تحس بامتعاض من تلك الطقوس ، ومن نسوة لا يفكرن إلا بما بين أفخاذهن ..
بجوار ضريح للا عائشة البحرية ، نصبت خيام مهترئة ، على شكل مطاعم ، ومزارات دجالين وعرافات ، وعبر ممر ضئيل يتدفق جدول ماء عكر، وقدر كبيرمفحم ، ملئ ماء تغتسل به (زائرات) الضريح للتبرك ، بعضهم يبيع شموعا وبخورا . يثيرانتباهك اللون الأخضر لمناديل وأعلام تبيع الوهم .. تلمح إحداهن تسوي ساعتها ، وحذاؤها على الأرض ينتظر أن تنتعله ، شعرها لازال به بلل ، وإلى جانبها رجل أنيق في ريعان الشباب .. تتهجى كتابات بالحناء على الجدران البيضاء للضريح : أسماء شباب وشابات يحلمون بالنصف الآخر ، وديكين ضئيلين . يأتيك هاتف من الأعماق " : ماعلاقة سواد لون هذين الديكين وخضرة الحبل الصغير، الذي ربطا به إلى حجرة ؟ لم تصدق النساء تلك الخرافات ، التي تتعلق برجل يودن تقييده بحبل شرعي ؟ أي عبث أحمق أن يبحثن عن ضالتهن عند رجل يحتاج إلى رجل ، عنذ ذلك المجذوب المخنث - والعهدة على البائع المتجول- الذي يرى الطالع، وأشياء أخرى لا تعنيك لكنها تعني الكثير الكثير لنساء ، يلهثن وراء ظل رجل وفراش دافئ ، ولا يرين أبعد مما تحتهن ... ؟؟".
تفكر بصوت مرتفع : لو أجري أي استطلاع تلفزيوني عن الضريح ، هل سيسمح بتصوير ذلك الكم الهائل من الثياب الداخلية ، والتي أغلبها أبيض اللون، وسط الأشواك والنفايات البشرية .. ثياب يتخلصن منها بعد الاغتسال ، كأي شيء منحوس ؟ هل يمكن تصوير امرأة ، وهي تتبول بين أشجار الشوك ؟ أم ستركز الكاميرا على بعض الأزبال المتناثرة هنا وهناك ، على الرمال ، و نهر أم الربيع ، وهو ينساب في هدوء تفتقده الدواخل ، معانقا المحيط الطلسي على إيقاع الدفوف والأهازيج الشعبية ، وعربات (الكارو) التي تجرها الأنعام ، مؤثتة مشهدا سياحيا رخيصا .. ؟؟


يحكى أن لالة عايشة قدمت من بغداد في رحلة عبر البحر، للبحث عن الولي الصالح مولاي بوشعيب الرداد الذي انتشرت أخبار زهده وكراماته، وكانت قد تعرفت عليه أثناء مقامه في بغداد ، حين كان يتابع دراسته لأصول الشريعة الإسلامية ، فتعلقا ببعضهما البعض ، غير أنهما فوجئا برفض زواجهما ، فعاد مولاي بوشعيب يجر أذيال خيبته إلى قريته بأزمور ، وما لبثت لالة عايشة أن عقدت عزمها على لقاء الحبيب حين شدت الرحال إليه، ولما بلغت أطراف الشاطئ بمصب وادي أم الربيع أدركها الموت غرقا ، دون أن تنال حظوة اللقاء به ، فدفنت هناك ليشيد ضريحا أسطوريا على قبرها، وأصابت مولاي بوشعيب الحسرة ، قرر بعدها أن يعيش باقي حياته عازبا .

تبصق على الأرض ، وتغادر المصطاف كئيبا ، بعد تناول السندويش وبعض (الدردشة) مع البائع ، وتندفع في اتجاه الحافلة .
في أزمور، تحاول أن تستمع بوقتك ، بالتيه في فضاء زمكاني جديد .
تتوصل بمكالمة هاتفية من صديقك الفاسي محمد ، يعاتبك على أنك لم تعرفه على منتجع سيدي بوزيد ، تتخيل أنه سمع عنه الكثير هناك .. تجيبه : إنك في أزمور ، الآن بعيدا عن مدينتك البغي ... بشواطئها .



في فندق صغير بسيدي بوزيد (عرفت من المعاشي أن صاحبه مسؤول كبير في مدينة أخرى!) تندهش ، عند رؤية علامة خمر شهيرة علقت على المدخل ، وقراءة أسعار خيالية لخدماته المعروضة ، وقد كتبت على لوح دعائي صغير ، طالبت المعاشي بأجرة مضاعفة .. فرد : إنه يأخذ ما يشاء من شراب روحي في حضوره .
فوق سطح الفندق ، وزعت - بانتظام - كراس وطاولات بلاستيكية تحمل شارة البيبسي كولا ، ومظلات ، ومغسلة صغيرة ، ثلاجة معطلة ، مزهريات فخمة ، وأعلام ملونة ترفرف فوق الواجهات الثلاث للمبنى ، تلمح رجلا وامرأة ، وبنات يلعبن تحت مظلات شمسية ، تتطلع إلى بقية الفيلات التي لا يفصلها عن البحرسوى خطوات ، تتداعى الصور والأحاسيس ، تتذكر قيظ المطار المهجور ، حيث تختبئ العصافير والحشرات زوالا ، فلا تصادف - في طريقك - غير نفايات المكان وأشواكه ، وحجارته ، وأكياس بلاستيكية بالية .
يطلب منكما أحد الموظفين - أنت وزميلك - ألا تحدثا أية ضجة ، و أن تؤجلا عملكما حتى لا توقظا النزلاء ، تكتم مشاعرك الغاضبة ، تزأر أعماقك في صمت: " يٍِِلعن (...)، يا ابن القوادة ! " .

في انتظار المعاشي ، تبذر توترك متسكعا ، تلمح شابة تغادر الفندق ، بثياب تبرز مفاتنها ، وفتاتين تتأهبان لركوب سيارة فخمة ، شبه عاريتين .. تفكر: إن عبارة (مجتمع عربي مسلم ) ، أسوأ كذبة سمعتها !
يبدو زميلك مستمتعا بما حوله ، تغالب غليانك الداخلي ، وهو يسألك عن رأيك في إحداهن ، ترد عليه بجفاء : " لا أحب العاهرات ال (خمس نجوم )! (تنفخ غيظا ) هذا الخراء لمعاشي تأخر..." !!



تلفظك حافلة أزمور، تحس بألفة غريبة حين تطأ قدماك أرصفة مدينتك ، تدرك أنك تحبها ، رغم كل عيوبها ، يهتف قلبك : ما أغرب الطبيعة الإنسانية !
يتضاعف تعبك ، تمني النفس ألا تتأخر الحافلة رقم 3 .. تلمح تجمهرا بشريا ، وسيارة الشرطة عند مدخل أحد الأزقة ، يلتهمك الفضول .. يحوقل شيخ ، تلطم إحداهن خدها ، تسري في جسدك رعشة ، حين تعرف أنه عثر على رضيع ، متخلى عنه في سلة ، ينام قرير العين . تردد حيزبون : إن النساء لا يجدن غير رفع أرجلهن ، دون التفكير في العواقب، تتساءل : " هل سيعرف أي شيء عما تخبئه له الأيام ، و إن صار ملاكا - في حال وفاته - ربما سيطلب الغفران لأبويه ، حتى لو أخرجاه إلى هذه الحياة ، بطريقة غير شرعية . الحياة جميلة ! لكن قد يصير نفس المتشرد الذي يتسول ، بثيابه المتسخة ، ونظرات الآخرين تطفح احتقارا وإقصاء ، عقابا على ذنب لم يقترفه ، وقدر لم يختره !!"
وينتشلك من حوارك الباطني ضحك رفاق، وهم يتطلعون إلى امرأة ، غادرت الحافلة للتو، مشيرين - بأيديهم - إلى تلك البقعة اللزجة .. تشد جلبابها من الخلف ، فتبرز استدارة عجيزتها الفاتنة ، تلقي نظرة جانبية على خلفيتها قائلة : " الله يعطيهم الكونصير(السرطان) في ......" .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى