قمر كيلاني - امرأة من خزف.. قصة قصيرة

"إلى صديقة من الطفولة تمردت... وما عادت امرأة من خزف.."‏
أنا هنا أخونك.. أخونك يا زوجي.. عفواً بل يا سيدي.. يا سيد القصر الجميل.. الغارق بالحرير.. المتماوج بالرياش والعبير. قصرك الطافح بألوان الترف. أنا هنا أخونك.. أصفع اسمك الأرستقراطي النبيل. أنهش البهجة التي غرستها في المجتمع الراقي بهجة المرأة من خزف. ألطخ لوحة حياتك المتناسقة البديعة ذات الظلال والألوان. أشوه حياتك المضيئة بالهناء والمتعة. أدوس نجوم اللآلئ والماس التي زرعتها حول عنقي الجميل.. أقتلع بوحشية حجارة الفسيفساء من صفحة حياتك التعيسة وأذروها كمخبولة للريح.. للضياع والتمزق. أكاد أرى الضياء المتعالي في عينيك يتهاوى كشهاب.. أكاد أرى شفتيك الدقيقتين المنضمتين في ترفع.. تتلويان بألم باهت أخضر.. وهاهما يداك تتشنجان حول انتقام يائس مرير.‏
الكؤوس التي تشرب لا تهدئ من ثورتك.. النساء اللائي تشتريهن لا يطفئن نار الحقد على امرأة جاحدة هي أنا. الأغاني والملاهي والحانات لا تعيدك إلى فراشك إلا وأنت حطام رجل جريح. كنوزك.. أموالك.. المجوهرات التي تبهر العيون جمد فيها السحر وخبا منها البريق. أسطورة الخرافة القديمة كانت تحيل التراب إلى ذهب.. وأسطورتنا نحن تعيد الذهب إلى التراب.. التراب. وأغدو أنا إنسانة سميكة من تراب. آنية من طين حقيرة في عينك.. أيها الفارس الجميل النبيل.‏
أنا أخونك... نعم.. ومع من؟ رسام لا يطال آفاقك.. طحلب على حوافي بحر.. نبتة أمام دوح كبير.. أنا معه الآن يا زوجي المترفع العظيم. أنا معه أعيش كياني... أصنع وجودي كإله صغير. أعيش لأحطم المرأة الخزفية التي صنعتها أنت في عشر من السنين. أحطم الخزف وأطحنه بآلامي لأعيده إلى تراب. تراب حقيقي لا زيف فيه ولا خداع. أنا الآن قوة عجيبة خارقة تصنع ببسالة أقدارها لتعيش من جديد. من يستطيع مثلي أن يحطم القمقم لينطلق المارد؟.‏
في ليلة عاصفة من هذا الشتاء فررت منك.. كان المطر.. وبكت فوق كتفي غيمة حنون... ولفتني ريح قوية ثم حملتني ألف ذراع مجهولة إليه.. وها أنا الآن معه.. مخلوقة جديدة.. ضاعت امرأتك الخزفية يا سيدي.. تلاشت في صاعقة الليلة الشتوية. ضاعت من حياتك لتتألق في عالم صغير منسي. هل تذكر أسطورة العذراء الجميلة التي استحالت إلى حجر بفعل سحر مشؤوم ثم أفاقت للمسات الحب الحقيقي بعد قرون؟ أنا تلك الغافية على أحلام ودموع حجرية.. وأنت ذلك السحر. أما هو فقد كان ـ ويا لعذابك ـ اللمسة العجيبة تمنح للحياة النائمة دفقة الوجود.‏
أنا هنا أعيش بأصالتي.. بحقيقتي.. كطفلة ترعش لأولى نبضات الحياة. ألجأ إلى هذا المكان مثل قطة ضالة. هذا المكان في نظرك حقير يا سيدي.. يا سيد القصر المنيف. لا هو مسكن. ولا هو مرسم.. ولا هو بيت بادي المعالم والحدود. لكنه الآن عالمي كله.. جنة نفسي العطشى.. وآفاق عمري الضائع.‏
أنا هنا لا أغرق في الريش والحرير.. لا تتنزه عيناي في حدائق الستائر والطنافس.. لا تلون حواسي أبهاء الضياء والرواء.. هنا.. لا تدغدغ أناملي وسائد المخمل الناعم وتلفها في نشوة ملوكية. أنا هنا لا أضحك ضحكات من البللور تضيع في الغرف الوسيعة الأنيقة. إنما أنا هنا أعيش حقيقتي.. امرأة على الأرض العراء.. بين البشر الصادقين البسطاء الذين أحببتهم أنا وكرهتهم أنت.. أحسست بهم في نبضاتي الخفية وجحدتهم أنت وأنكرتهم.‏
أظافري الوردية يا سيدي أتلفتها الأعمال التي تأنف منها أنت وتسميها أعمال خادمات. يداي أصبحتا جافتين كيدي قروية..‏
جسدي لم يعد يرف بعطر الزنبق والياسمين. وجهي لم يعد وجه الدمية الخزفية الملونة التي عرفت بل أشبه بوجه عاملة بسيطة من بلادي. حقيبتي لم تعد تزغرد بأوراق النقد الكثيرة بل هي تلوب حول الدراهم لتداري بساطة الحال وقلة المورد.. ومع هذا.. فأنا سعيدة.‏
سعيدة بكل ذرة من كياني..‏
هل تذكر يا سيد القصر الشامخ الكبير يوم اشتريت آنية الخزف الجميل؟ لم تكن إذ ذاك خزفاً.. بل كانت عجينة من حس وشعور. لو لامستها يدك بحنان حقيقي لارتعشت من ألم ونار. كنت لم أفتح عيني بعد على أكثر من سبعة عشر ربيعاً.. فراشة في حقل رؤى ونجوم. بساتين الورد البكر كانت تزرع جسدي وقلبي غض كطفل. اشتريتني يومذاك كما اشتريت آنية الزهور النفيسة وكما اشتريت كل شيء بهيج لحفلة الزفاف الرائعة وبغباء أبله استسلمت لك.. أنت الخبير بالحياة وبالنساء وغير النساء. استكنت إلى دوحك كشجرة لبلاب ضعيفة.. التصقت بك أتلهف إلى حب حقيقي.. وسعادة حقيقية فما أعطيتني إلا الزيف. لم أكن أرى الوجود إلا من خلالك.. ولا أحس بهجة اللحظات إلا بجوارك.. ألازمك مثل ظل حبيس قدره.. كنت ألهث وراء رغباتك وأنسى نفسي.. كل نفسي حتى استحالت جنتي إلى سراب. وحياتي إلى عذاب. حنطتني في تابوت إرادتك.‏
جمدتني في قوالب رغباتك.. طبعت على وجهي وشم عبوديتي.. وشم الجارية تتبع في ذلك سيدها.‏
هل تذكر ليلة زواجنا؟ ليلة من ألف ليلة.. كنت فيها الفارس الثري الجميل كأمير من الأساطير.. تحرق لي البخور.. تغمرني بكل ما هو ساحر. كانت تلك الليلة أول تجربة لقالب الخزاف الكبير. أمرتني فأطعت.. عبست لي فبكيت.. مسحت على رأسي فضحكت. طالبتني بما تحب فأسقطت كل ما لم يعجبك من تصرفاتي وأبديت ما تحب.. كما تحب. حتى ألوان ثيابي.. تزاويق زينتي.. أشيائي العزيزة الصغيرة كلها ذبحتها تحت أقدام رغبتك وإرادتك وجلست أبكيها بحماقة طفل يحطم دميته.‏
هل تذكر يوم خرجنا لأول مرة إلى المجتمع (الراقي) الذي تعبده وتذوب فيه؟ كنت ترسم لي كل خطوة.. وتهمس لي بكل كلمة.. وتشدني إلى كل بادرة. وأنا بين يديك أتألم. يقطر قلبي دماً.. وتنزف حواسي لوعة. وكنت أتساءل: هل تراني سأعيش أبداً كما تريدني؟ هل أنا لولب؟ هل حياتي هي هذه القشور من الضياع والوهم؟ حفرت لنا يا سيدي هوة من التباعد ظلت تزداد على الأيام عمقاً واتساعاً حتى غدت وادياً لا قرار له ولا مدى... وادٍ يفصل بيننا كقدر. رغم ألوان الترف ومباهج القصور.. واد يسكنه وحش يفغر فاه لابتلاع كل شيء حتى رابطة زواجنا.‏
ولقد مللت.. صدقني. مللت الأندية زجاجية الألوان.. مللت الأحاديث وقع حروف لا مغزى لها.. مللت البيوت الفخمة والسيارات علباً مدهونة بالرياء. مللت ثياب الطاووس وزهو المال والرفعة. مللت الليالي تتوزعها بهجات ضئيلة وعواطف التفاهة.. مللت الوجوه الملونة بالرياء.. مللت كل شيء.‏
ويوم الحفلة المقنعة في النادي الكبير هل يمكن أن ننسى ذلك اليوم؟ كانت حفلة رائعة كما تقول دائماً عن الحفلات وكنت أحس أن يداً قاسية تعصر قلبي وعنقي معاً، ولم تكن لي رغبة من أن أرى مخلوقاً ما، وبينما تلح علي وتختار لي أجمل الثياب وأبدع الحلي كنت أحس كأنني أقبل على انفتاح سر ما. سر رهيب كالموت.. كالحياة. ولا أدري هل هذا الشعور المسبق توضح لي لأنني كنت أكره حياتي أم لأن حياة جديدة ستفتح ذارعيها لي. لقد بكيت.. وما أردت أن أضع قناعاً كما أردت لي أن أفعل. هل أنا بحاجة إلى مزيد من الأقنعة؟. أنا لست أنا.. وهؤلاء الناس من حولي لا أدري في الواقع من هم؟ حتى أنت لم أر مرة أعماقك.. ولا رسوت إلى قاع نفسك.. ولا عرفت من تكون.‏
وأطعتك.. ووضعت قناع امرأة صينية من الأساطير تناسب جسدي الصغير.. جسد الدمية من خزف. وفي الحفل. كنت كمن يغيب في تيار لا قرار له الوجوه تسخر مني كوجوه الشياطين. الأذرع ترقص من حولي رقصات جهنمية كآلهات الشر بألف ذراع. كان الهواء يخنق أنفاسي والعرق ينضح من صدري ووجهي وظهري. رأسي يدور كأنني في دوامة. وعندما ناديتني أن أرقص معك لم أعرفك بين الوجوه. وكنت تضحك لاهياً وأنا أضحك وأبكي معا بطريقة هيستيرية مرضية. أنت في زي مصارع ثيران من إسبانيا.. وأنا أميرة مقنعة من قلب الصين. يا للمهزلة. هل تريد تناقضاً وتنافراً أكثر من هذا؟ وسحبتني من يدي بعنف لكني تداعيت. هويت كأنني مخنوقة ألتمس بعض هواء يندي مشاعري الملتهبة. أحسست أن ذراعي مصلوبتان وأن قدمي قطعتان من حديد.. في هذه اللحظة التقيته.. كان أمامي مثل منقذ.. بكيت بين يديه.. كأنما كان ينتظرني منذ دهور وكأن لقاءنا أمر حتمي لا مفر منه. استكنت إليه.. هدأت. مسح دمعتي وسألني:‏
ـ أليست سيدتي مسرورة في هذه الحفلة؟‏
ـ مسرورة؟ طبعاً.. لا.. نعم.. عفواً.. جئت أشارك زوجي سهرته. وأنت؟‏
ـ جئت أرسم صورة لأميرة الأساطير.‏
ـ أميرة الأساطير؟ لكأنك جئت ترسم جحيم الكوميديا الإلهية لدانتي أو مشاهد ملحمة هوميروس.‏
وضحك...‏
وتقاربنا.. ونزعنا أقنعتنا.. وغرق واحدنا في عيني الآخر.. وواجهنا معاً مصيرنا.‏
ـ سوف أرسمك كما رأيتك.. هل تسمحين؟‏
أنت أجمل ألف مرة من أميرة الصين.. أنت زهرة لوتس على ضفاف بحيرة مجهولة.‏
ـ شكراً لك.‏
ـ متى تأتين لأخذ الصورة؟‏
ـ في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم.‏
ـ ما أبعد الموعد. على أي حال هذا عنوان المرسم الصغير..‏
والتقينا من أجل الصورة..‏
ويوم جئت إلى المرسم أول مرة لم أكن أخونك يا زوجي.. كنت أحتمل.. وأعاني.. وأجد لحياتي العزاء في الصبر المر. ولكنني هنا.. في معرض الرسوم الكبير رأيت الحقيقة.. كان بين رسومه رائعاً أسطورياً قوياً مثل إله. أسقط لي أقنعة قلبي.. نزع عنها القشور. لما نظرت إلى الصورة لم أجد شيئاً اسمه صورتي. غضبت.. شعرت أنه يسخر مني ويهزأ من عاطفتي. ضحك.. وأشار إلى لوحة تمثل دمية خزفية وسط سرب من الغربان فوق قاع دموي، وقال:‏
ـ هذه أنت؟‏
واعتصر الألم قلبي.. وصفع كبريائي.‏
ـ أنا؟‏
ـ نعم أنت.. أنت دمية خزفية.. ثمينة ونادرة الوجود لكنها صامتة باردة خرساء. أنت.. ما أنت إلا هذه التحفة الجامدة... هؤلاء هم ناسك.. وهذا عالمك.‏
تلاشيت.. صعقت.. وخرجت باكية وأنا أصرخ:‏
ـ أكرهك.. أنا أكرهك.. بكل قواي.‏
ـ بل حقيقتك تكرهين.‏
ولملمت أذيال خيبتي وقررت ألا أراه.. وألا أعود إليه.. وأن أنزعه من خبايا نفسي.‏
لكني لم أستطع.. عدت إليه.. مرة ثانية وثالثة.. وإلى الأبد. عدت لأحطم تمثال الخزف.. لأدوس أقنعتي.. وأجلو حقيقتي.. وأنفض الغبار عن مشاعري. عدت أستبدل زجاج الخزف بعجينة من ماء وطين. قد تكون أصيص ريحان بسيط ولكنها آنية دون زيف لنبتة قوية أمام الشمس والهواء.‏
وها أنا الآن.. معه هنا أبتسم وراء نافذة صغيرة.. في مرسم صغير.. بعد أن هجرتك.. هجرت القصر الكبير.. والثراء الكبير.‏


دمشق 1960‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى