نور الدين محقق - عائشة البحرية

ن محقق.jpg


أمي من وادي أم الربيع، من هذه المنطقة الأرضية الخصبة، حيث الربيع فصل دائم الحضور. لا فصل يأتي إلى هذه المنطقة سواه. من هنا ربما سمي النهر العظيم الذي يخترقها، بهذا الاسم الشاعري الجميل.هذا الاسم الذي سيطلقه سارد القصة، على شاعرة جميلة، سيتعرف عليها في مستقبل الأيام. كنا صغارا نمشي إليه، نتجه صوبه بعد أن ترجو أمنا إخوتها الكبار بأن يذهبوا بنا إليه، قصد تعلم السباحة، والترفيه عن أنفسنا، نحن أبناء المدن.أبناء المدن كانوا يبدون أمام هؤلاء البدو، وكأنهم كائنات هشة، آتية من عالم آخر، بقدر سحره بقدر هجانته. أتذكرانني كنت أبدو سعيدا، وأنا في طريقي إلى النهر، بل كانت سعادتي تطغى عليّ إلى حدود تخلي عن ركوب الحمار، حاشاكم يا سادتي، والسير راجلا تحت ضربات الشمس القوية. كنت طفلا جريئا أو هكذا كان يبدو لي، إذ حين كنت أصل إلى النهر، أرتمي فيه دون خوف، مما كان يدفع أخوالي إلى اليقظة، وهم يرافقون تصرفاتي الصغيرة بعيونهم، إلى أن ضاقوا بها ذرعا، فقرروا تخويفي لا بالغرق كما أعيوا أنفسهم في المرات السابقة، بل بامرأة رائعة الجمال، لها وجه سماوي يشع نورا، إلا أن أقدامها كانت تشبه أقدام الجِمال، لاحظوا معي كيف جمع السارد بين الجمال (الحسن) والجمال (جمع جمل) في جملة واحدة، كان اسم هذه المرأة هو عائشة، ولأنها ارتبطت بالمياه بشكل عام، لقبت بالبحرية. ليس هناك أية قرابة تربطها بالسندباد البحري.حكوا لي أنها تغرم كثيرا بالطفل الشجاع، ذلك الطفل الذي يحاول السباحة بعيدا عن الآخرين.فما أن تراه وحيدا حتى تتجلى له عارية كما ولدتها أمها، أو زبطة بتعبيرهم الشخصي، فيسحر بجمالها ويتبعها فاغرا فمه كالمسحور إلى أعماق النهر، فيغرق.كان الطفل، الذي هو أنا، يلاحظ كيفية حكايتهم لقصة عائشة البحرية، وكيف يتفننون في وصف أعضاء جسدها الرائع، بل وكيف يستلذون بهذا الحكي، إلى حدود أن الطفل كان يشعر في قرارة نفسه أنهم يتمنون رؤيتها حتى ولو كان الموت من ورائها قادما إليهم. من هنا، فبدل أن يزعوا الرعب في نفسه، أغروه بعشقها والبحث عنها، فكان يخاطر بنفسه، والواد حامل، كما كانوا يقولون. تصوروا أن هذه الجملة (الود حامل/ النهر مندفع) لم يكن يدري معناها. كان يتضاحك صحبة أقرانه من إخوته وبني خؤولته، بكون النهر يحبل هو الآخر مثل المرأة تماما. ولأنه لم يجد هذه المرأة، أي عائشة البحرية، رغم مخاطرته متوغلا في ثنايا المياه، فقد ظل يعود من رحلاته إلى النهر باكيا، فحار أخواله في كيفية إرضائه، إلا أن الخال الأصغر، وعده في المرة القادمة بأن يوصله إلى بيتها. قال الطفل مرحا، أو تعرفه يا خالي، قال الخال مزهوا، نعم انه يوجد في الضفة الأخرى للنهر.ابتسم الطفل، وتذكر أنه كان يلاحظ مجموعة من الصيادين، يقطعون النهر بقاربهم الصغير، ويجلسون في الضفة الأخرى منه، يشربون و يضحكون، بل في كثير من الأحيان، كان يلاحظ أنهم يركبون معهم بعض النساء، اللواتي كثيرا ما رآهن يرقصن بتغنج يثير شهيته، وهو بعد صغير، إلى الارتماء في أحضانهن، وكان حين يسأل أحد أخواله عنهن، كان يجيبه بقوله، إنهن شيخات (راقصات شعبيات)، قد جاء بهن الصيادون من المدينة. فكان الطفل يتمايل ضحكا، هل الشيخات يوجدن في مدينتنا؟ فكان الخال يبتسم، الشيخات موجودات في كل المدن، أيها العفريت. ذات يوم قائظ أصر الطفل على نقله إلى ضفة النهر الأخرى.تمت تلبية طلبه. جاءت امرأة فاتنة رقصت أمامه كثيرا. قبلته كثيرا، حتى أيقظت الشهوة الكامنة في أعماق نفسه، وهي لم تستو بعد كاملة لصغر سنه.وكانت في غنجها ودلالها، تقول له، أنا عائشة البحرية أيها الطفل العفريت، ثم تتفل في ما بين صدرها، على ذكر اسم العفريت، مستعيذة بالله منه والخوف يملأ عينيها الجميلتين. إن ينس الطفل الذي أصبح رجلا جميع النساء، بما فيهن زوجته التي يتمنى ألا تقرأ هذه القصة، والا كان الله به، فلن ينس هذه المرأة.إذ كلما قرأ شيئا عن عائشة البحرية، أو كلما تحدث مع أحد عن أسطورتها إلا وحضرت صورة هذه المرأة ضاحكة، وهي تقول له: أنا عائشة، البحر من أمامي، والنهر من ورائي، وأنت أيها العفريت الصغير بين أحضاني. مرة وهو جالس وسط رجال البادية صحبة بعض الأطفال الصغار، بمناسبة زفاف إحدى بنات المنطقة على أحد شبانها، كاد العرس ينقلب إلى مأتم، فقد وجد العريس عروسه غير بكر، فقامت القيامة. هرع أهل العريس إلى عصيهم، وهرع أهل العروس إلى طلب السماح، ووعدوا العريس السيئ الحظ بتزويجه من البنت الصغرى، بعد اتمام إجراءات طلاقه من الكبرى، لكن في الغد وجدوا الكبرى مرمية في البئر. تم دفنها بعد تأكيد الطبيب عملية انتحارها، كما شهدت بعض النسوة بذلك. لكن الأدهى من ذلك أن حديثا سيتم تداوله فيما بعد، هو أن الفتاة قد ماتت وهي بكر.فقط اللعين لم تكن له دراية بالنساء، فبدل أن يولجه أماما أولجه خلفا، ليس إلا. المهم، فقد تزوج من الأخت الصغرى التي حرصت على إظهار عذريتها، ونجحت في ذلك. وها هم الرجال فرحون، وها هو الطفل، الذي هو أنا، يستمع إلى جده يحكي للرجال إحدى مغامراته، التي تأكد الطفل بعد أن أصبح رجلا، بأن جده قد كان كاذبا فيها مئة في المئة.
كان الجد يتربع والصينية أمامه، وأهل النية مجتمعون حوله، على حد تعبير الأغنية الغيوانية الشهيرة التي يسمع الآن تموجات صوتها الحزين، والعربي باطما يصدح فيها صائحا: ” فين لي جمعوا عليك أهل النية، واهي الصينية..”. كانوا متحمسين لسماع الحكاية، كلهم تصديق لما سيقوله، سيد قبيلتهم، خصوصا وأنه كان قد حج سبع مرات. كان الجد يدرك بحدسه، رغبتهم تلك، لذا كان يتباطأ في الحكي، فصاح به حفيده قائلا: ” هيا يا جدي،أريد سماع الحكاية”. ابتسم الجد ضاحكا، وضحك الرجال معه، ثم سوى من عمامته، وبدأ في الحكي: ” في يوم من الأيام، كنت عائدا إلى بيتي بعد رحلة صيد وفيرة. اصطدنا فيها كثيرا من الحجل. أنتم تعرفون يا رجال أن طلقة بندقيتي لا تخطئ. الحجلة مهما تعالت في السماء، أبصرها وحين أطلق، يكون الموت مصاحبا لطلقتي ” هز الرجال رؤوسهم تصديقا لكلامه. لقد كان بالفعل قناصا كبيرا. شهدت هذا بأم عيني وأبيها أيضا. تابع حكيه والابتسامة على شفتيه: ” لكن هناك حجلة مختلفة عن باقي الحجل، برزت في السماء. نظر الرجال إليها معجبين. لم يرد أحد منهم أن يصيدها، إما إعجابا أو خوفا. نظروا إليّ متسائلين، فرفعت بندقتي، وأطلقت الرصاص. سقطت الحجلة بعيدا. لكن السلوقي لم يكن موجودا. “وقت الصيادة السلوقي يذهب للتغوط “، كما يقول المثل. فذهبت وحيدا أبحث عنها. ابتعدت عن الرجال. ومر الوقت سريعا. بدأت الظلمة تخيم على المكان. شعرت بالخوف، خصوصا وأنا وحدي، فتركت البحث، وعدت أتلمس طريقي. في الطريق، تراءى لي طيف امرأة. تحول الطيف إلى امرأة من لحم ودم. تقدمت نحوي مبتسمة .عانقتني، فاستسلمت لإغوائها. قدمت لي الحمارة - حاشكم- التي كانت بالقرب منها، لأركبها. لم أر الحمارة من قبل.أردت الركوب، فإذا بي أبصر قدمي المرأة. لقد كانا قدمي جمل. ارتجفت. قلت في نفسي، إنها هي، عايشة البحرية. نظرت بعيدا. تراءى لي وجه النهر. آه لقد خرجت من مسكنها لتذهب بي إليه حيث تفترسني هناك. لم أرد أن أظهر لها أنني قد عرفتها. تمالكت نفسي، ركبت الحمارة، ودعوتها للركوب معي. فضلت أن تمشي بجواري. وبينما نحن نسير، غافلتها، وأخرجت المرآة، المرآة التي لم تكن تفارق جيبي، ووضعتها أمام وجهها. صرخت بقوة، وانطلقت هاربة نحو النهر. كانت تجري وهي تتحول من امرأة إلى جنية كريهة المنظر، ثم غطست في النهر. لحظة غطسها، سقطت أنا من فوق ظهر الحمارة، التي تحولت إلى دخان. نهضت، وتابعت طريقي، وأنا أقرأ سورا من القرآن.». أبدى الرجال إعجابهم بالقصة وببطلها الذي لم يكن سوى جدي. أحسست بالزهو أنا الآخر. قلت في نفسي،لابد لي أن أرى عائشة في يوم من الأيام،كما رآها جدي، لكني لن أفعل مثله. سأدعوها للرقص لي، وسأخفي كل مرايا العالم عنها.كبر الطفل الذي ليس هو أنا بالضرورة، وحين أراد الزواج، تصوروا معي، لم يجد فتاة رائعة الجمال في المعهد الذي كان يدرس به، سوى تلك التي ستصبح زوجته فيما بعد. أتعرفون ما هو اسمها؟ بالطبع تعرفون ذلك، والا فما جدوى الحكاية أصلا ؟. انه عائشة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى