أحمد ولد أسلم - ورقة عائمة.. قصة قصيرة

تضرب الأمواج الباردة قدمي، رغم وقوفي على بعد ثلاثة أمتار من الشاطئ، أتحسس حقيبة الظهر الصغيرة، أشدها بقوة بحثا عن حرارة اختزنتها من ملامستها محرك سيارة الأجرة المتهالكة التي مازال صدى هديرها يتردد بين الكثبان.

كل من حولي منشغل بنفسه؛ سيدة في الثلاثين تهدهد طفلا، تتمتم بكلمات غير مفهومة،..زنجي يلهو بأعقاب سجائره المتراكمة، طفل يبني أكواخا من الرمال المبللة اعتمادا على حجم قدمه الصغيرة.. فتزيحها الموجة ويعيد بناءها من جديد.. وشاب قمحي اللون يعاند البحر بالكتابة على الرمال، حاولت استراق النظر إليه لمعرفة مضامين رسائله المرتبكة، غير أن الخطوط المتداخلة جعلتني أستسلم لفشلي..فهي لغة لم أدرسها في مراحل تعليمي..

يوحي مشهد الجميع برتابة مقيتة، راودتني جامحة في مناقشة أمر ما مع أحد المخلصين،كان الفراغ هائلا، ومسحة حزن تغشى جانب السماء التي بدت غير راضية عما أفعله، فجلجل عن بعد رعد غاضب، وتسربت السحب الخفيفة من أعماق البحر بعيدا عن أعين القابعين في منازلهم المترفة.

تدريجيا.. فقدت الحقيبة حرارتها، راودتني رغبة في إعادة ترتيب محتوياتها، بالرغم من أني استغرقت في ذلك أكثر من ثلاث ساعات لانتقاء ما يستحق أن تحتويه، كتيب صغير من حصن المسلم، مسواك من الأراك طري، اضطررت لكسر جزء منه كي يلائم حجم الحقيبة، مفتاح لقفل صيني قديم، وقلم جاف، ورزمة من الأوراق اقتطفتها من أحد دفاتري البالية، وسروال جينز ضيق، وأشياء تافهة لا أعرف لمَ اخترتها..ووقعت عيني على صورة، استللتها بلهفة، وكأني أراها لأول مرة، كانت متشققة أثرت فيها الأيادي الخشنة والسنون..

كانت الصورة لمريم وهي تسند ظهرها إلى شجيرة من السدر، تشبك أنامل يديها بقوة وقد أحاطت بهما ركبتها اليمنى في جلسة تأمل نادرة، آثار طلاء الحناء على الأظفار الرقيقة، وملحفتها مشدودة بحزم على رأسها -الذي لا أعرف لون شعره- تنساب برخاوة على ذراعيها، حائلة بذلك دون إظهار تفاصيل قدها، وعن بعد .. تنتصب خلفها نخلة تتدلى عراجينها بثقة، وبين السدرة والنخلة اخترقت خيوط خفيفة لشمس الغروب... كانت الصورة بيضاء وسوداء ما جعل الألوان غير واضحة، وإن كنت بحدسي توقعت أن تكون الملحفة زرقاء فاتحة تتناثر فيها نقاط بيض وبنفسجية وزرقاء غامقة.

كان الوجه القمري يشع بنور خافت ينتصب في وسطه الأنف المترفع قليلا بتعال، والعينان النجلاوان تستظلان بأهداب كثيفة وحاجبين مقوسين..والشفتان اللمياوان ترسمان ابتسامة موناليزية غامضة، تتقاطع في نقطة غير محددة مع النظرة الواثقة، كل ذلك يوهم المتمعن في الصورة أنها تريد الهمس بسر دفين حرصت على كتمانه لسنوات.

ويتربع في الزاوية اليمينية السفلى تاريخ التقاط الصورة الذي مضى عليه أكثر من عشر سنين، عادة سيئة درج عليها قدماء المصورين، إنها تحرمك متعة اختيار التاريخ الذي تريد، فالناس يرغبون دائما في اختلاق تواريخ لذكرياتهم - مهما كانت- تناسب الموقف الآني. ينفث الزنجي من جديد دخان سيجارته الرخيصة الثمن، ويتعالى صراخ الطفل فترفع المرأة صوتها بالذكر في أذنه وتهزه بهدوء، يعود بي كل ذلك إلى لحظتي، يرفع الزنجي ساعده يؤخر قليلا قميصه الشتوي الطويل، فتبرز ساعة رقمية ، ويغمغم بلغة فرنسية رديئة: «مرت ثلاث ساعات».. ويضرب برجله قنينة ماء معدنية فارغة فتحلق بعيدا ثم تسقط بجنب الطفل المصر على تشييد أكواخه.. يلوح الرجل قمحي اللون بقميصه في إشارة استنفار أو استغاثة فيتدافع الجميع نحو زورق يحمل جانبه الموالي لنا عبارة أجنبية، فهمت لاحقا أنها تعني «تحقق حلمي» باللغة الإسبانية، تداخلت مع بسملة كتبت بخط سيئ وبلون أخضر..كان صوت المحرك مزعجا..والشفاه تتحرك بتناغم منتظم..

وعلى بعد ثلاثة أمتار من الشاطئ كانت ورقة بيضاء مستطيلة تتقاذفها الأمواج..لترميها على أطلال كوخ بناه صبي بمقياس قدمه الصغيرة..تبين من شقوقها أنها صورة مريم..

أصرخ : انتظر ..انتظر.. رجاء..

يتطاير لعاب المرأة وهي تدفن بحنان لافت رأس طفل في صدرها..ويهزج الزنجي بصوت شجي يغمر بروحانيته الزورق المبتعد..وتتلاشى في المدى تلك الورقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى