جودت جالي - بلابل برية.. قصة قصيرة

خرج الرجلان من الباب الجانبي للمسجد المجاور للمستشفى الذي كانا فيه قبل ساعة. كان الشيخ يحمل على راحتيه جثة الوليد الأكبر ملفوفة بالكفن فيما حمل الشاب جثة التوأم، الملفوفة أيضا بكفن، واضعا إياها لصق صدره. ضربتهما شمس أول العصر الشتوية بحرارتها الساطعة، وكاد الشيخ أن يرتبك في مشيته عندما إرتد الى عينيه الذابلتين وميض الإسفلت. تماسك وإعتدل وتابع سيره كأنه يغرز خطواته في الأرض خطوة خطوة. مرا في طريقهما الى الزقاق بين العمارات السكنية ببواب المستشفى الذي كان يتثاءب وهو جالس على كرسي حديدي عتيق. أنزل يده عن فمه وقال بصوت أقرب الى التمتمة الخجول:

-الله يصبركم حجي...

لم يجبه أي منهما، وتوجها نحو الزقاق. عند الإستدارة أحاطت بهما هبة ريح مغبرة تحمل قصاصات ورق متطايرة آتية من الشارع الرئيس ألصقت دشداشتيهما بجسديهما. عندما وصلا الشارع كانت لا تزال الريح الخفيفة تثير غبارا وحبات رمل ناعم من أمام محلات العمارات المقابلة المغلقة المتجاورة بغير نظام من الجانب الآخر. دارت أوراق من أغلفة البسكويت الملقاة على الأرض وقنينة بلاستيكية فارغة حول عمود الكهرباء الذي وقفا عنده. بدا الحر للشيخ شبيها بحر الصيف. انحازا الى ظل ركن العمارة ووقفا هناك يديران البصر بحثا عن سيارة تقلهما. فكر الشيخ بأن اليوم غير عادي وكئيب في كل شيء، موت هذين الوليدين، ومنع التجوال، والشوارع الفارغة تماما. انسحب الناس الى بيوتهم. حتى سائقي سيارات الأجرة لا يوجد منهم أحد. لكنه شعر في قرارة نفسه بالراحة لأنهما يخرجان هكذا من المستشفى دون أن يصادفا أحدا، ولن يضطر الى أن يشرح لمن يدفعه الفضول الى السؤال عما حدث. حتى التعاطف الذي يمكن أن يبديه الآخرون هو آخر ما يتوق اليه في هذه اللحظات.

كان الشاب ينظر بارتباك الى ما حوله. أنزل يده اليسرى جاعلا الطفل على ساعده الأيمن فيما أمسكه برفق من قدميه بيده لكي لا ينزلق. أحس الشيخ بخدر يسري في يديه وكان الطفل على راحتيه لا يزال يحتفظ بشيء من برودة. حرك أصابعه من الخدر فأحس باللحم الغض تحت أطرافهما يستجيب لضغطها. خنقته العبرة ولكنه قاومها. سمع من نافذة شقة في الأعلى صوت طفل يبكي وصوت أمه تعنفه. نظر الى أقصى الشارع الذي يلتمع التماعا وسخا. لا سيارة، ولا أحد. تناهى اليهما صوت يشبه صوت انفجار بعيد وأصوات إطلاقات من مكان أقرب.

قال الشاب متلعثما وهو يمد يده الطليقة نحوه:

-هل أحمله عنك عمي؟

لم يجبه. تحسس جيب الصدر حيث وضع ورقتي الوفاة. ابتسم بأسى. ما أن ولدا حتى ماتا. ندم لأنه كان هو الذي أطلق اسميهما عليهما، لا يدري لماذا ندم، شيء ما يحز في نفسه، هل يلوم نفسه لأنه سمى طفلين كتب عليهما الموت بعد ساعات؟ ألم تكن تسميته لهما (سعيدا) و (فريدا) إسرافا في التفاؤل خصوصا وإنهما ولدا قبل الأوان؟ هل تمنى أن يكون الإسمان تميمة تحفظهما وتدفع عنهما الموت فتسعد بهما أمهما، ابنته، بعد أن أسقطت طفلين سابقين؟ مسح بردنه المتجعد جبينه من العرق المالح الذي بدأ ينزل على حاجبيه ويتسرب منهما الى عينيه. حسنا فعل حين أخرجها من المستشفى بالأمس بعد أن أُدخل الطفلان الى قسم الخدج ولم تشهد موتهما. لكنها أحست، أحست في أعماقها أنهما ربما يموتان، وفي الوقت نفسه كانت تكافح مع أملها في أن يعيشا، مع ذلك، عندما كان بالأمس جالسا الى جوارها في البيت وهي على فراشها، قبل أن يعود مع زوجها الى المستشفى، أشارت اليه أن يدنو منها لتكلمه، فقرب أذنه من فمها. ترددت قبل أن تقول بصوت ضعيف حزين متقطع:

-أبي.... الله يخليك. إذا ماتا.... أحفر لهما قبرا عميقا. يقولون أنه في مقابر الأطفال...تأتي حيوانات ﻓ...، لا أريد أن تأكلهما الحيوانات...

وسكتت.

عندما توفي الصغير لم يكونا قد عادا الى المستشفى بعد. كان ضعيفا وأصغر جسما من توأمه. قضى الشيخ وزوج ابنته في حديقة المستشفى الليل حتى بزوغ الفجر. أخيرا توسل لكي يسمحوا له بالدخول ليكون قرب الوليد الباقي على قيد الحياة. توسل بالجميع... بموظف الاستعلامات، بالممرضة، بالطبيب... أخيرا سمحوا له بالدخول الى قسم الخُدَّج على أن يبقى على مبعدة من الجهاز والطفل. قبل أن تخرج الممرضة وتتركه وحده أسرت اليه بصوت مواس:

-حجي.. أرجو أن لا تصدم بما سأقوله لك ولكن يتوجب علي أن اخبرك بأن الطفل الثاني.. ليس كما يبدو لك.. يعني... لا..

سكتت لحظة ثم تابعت قائلة:

-...هو ضعيف أيضا وربما...

نظر بعينيه المرهقتين اليها محاولا أن يستشف من وراء كلماتها "ربما" يتساوى فيها الأمل واليأس على الأقل، شيئا يعلل النفس به ولو الى حين. لكن كل ما في وجهها من تعابير كان يؤكد له أن "ربما" هذه لن تكون معينة له في المراوغة التي يغري نفسه بها. أطرق وهز رأسه مستسلما فيما انسحبت الممرضة خارجة.

جلس على كرسي دون مساند واستند بظهره الى الحائط. جال ببصره في الغرفة المربعة الواسعة التي بدا له الجو فيها حارا قليلا على نحو لا ينسجم مع تصوره لما يجب أن يكون عليه الجو في غرفة إسعاف الخدج، نظر الى أضواء النيون الصفراء الخابية، الأجهزة الخمسة الأخرى الفارغة بأغطيتها البلاستيكية الشفافة وأنابيبها المفضية الى فراغات رصاصية بارتخاء ثقيل السكون. شيء ما يتكتك، وخيل اليه أنه يسمع تقطيرا ما، نظر بإمعان الى الجهاز الذي يضم الجسد الصغير، وأنبوب المغذي، وإشرأب برأسه الأشيب ليرى جيدا وضع الوليد. كان أكبر جسدا وأقوى من توأمه الذي لم يقاوم طويلا سكرات الموت في الجهاز الثاني المجاور والفارغ الآن بعد أن ذهبوا بالطفل الى ثلاجة الموتى, لكن هذا كان طبيعيا في حركاته ونشطا أول الأمر حتى أنه أمسك بالأنبوب حين أوصلوه به وبكى ما جعل الممرضة تضحك وتقول له مازحة: "ولك... خلينا نشتغل!". شعر رأسه فاحم السواد، وحاجباه كثان، وملامح وجهه تنبئ عن وجه مدور جميل بعينين واسعتين وفم صغير وأنف أفطس قليلا، وبدا له أنه سلب من شقيقه كل الحيوية التي قسمت لهما عندما كانا في بطن أمهما. لكنه الآن أصبح أقل حركة ويهوم بيديه يمينا ويسارا بوهن، وعلى وجهه ارتسم عبوس ذاهل كمن يرى شيئا لا يفهمه، ويخيفه. اتسع فمه وندَّ منه شبه صرخة متداعية وبكاء مكتوم. كأن روح شقيقه تحوم حوله، تجذب روحه، وهو ما بين الانقياد للدعوة الحميمة والرفض الوجل يتأرجح، أخيرا ارتخت ذراعه اليمني واستقرت الى جانبه فيما همدت يده اليسرى على الأنبوب المار من فوق صدره وجمدت عيناه بنصف إغماضة وادعة. لم يتحرك الشيخ رأسا أو يهرع لينادي طبيبا أو ممرضا.

تذكر أن النمل المتدافع كان أكثر من أن يستطيع بلبل صغير مقاومته بعد أن سقط من عش في أعلى الشجرة الشاهقة وطوحت به أغصانها الى أن وصل الأرض ، وقصارى ما يفعل هو أن ينفض رأسه ليسقط عنه ما تراكم من نمل على منقاره وعينيه ويعود يستقر على ذهوله وأنفاسه تتلاحق منقلبا على جنبه قليلا، وفيما كان جناح تحت جسده المرتعش كان الجناح الآخر يحاول أن يخفق نحو تحليق أصبح بعيد المنال.
تذكر أنه جلب ماء بوعاء وأخذ يغسل به رأس البلبل ويلقيه على الجسد المنتفض ليبعد النمل الذي أخذ ينهش الجسد العاري إلا من زغب لا يحميه، ولكن النمل لا يفتأ يتكاثر بمرور الوقت، ورائحة الموت تجذب المزيد والمزيد من النمال بأنواعها. مر به أبوه وقتها وتوقف ناظرا اليه والى البلبل الذي يبذل هو جهدا يائسا لإنقاذه.
تذكر أن أباه قال له:
-بني... لا تعذبه بمحاولتك إبقائه حيا. يجب أن تتعلم من الآن أن هنالك أشياء من الأفضل أن ندعها تموت بسلام.

ظل هكذا ينظر الى الطفل الجامد، لم تكن نظرته استسلاما، لعلها كانت رضا، ولعله قال في سره خير له أن يلحق بشقيقه بأسرع وقت ما دام قد كتب عليه الموت من أن يظل يتألم ألما لا يفهمه، لا بل هل كان يعي أنه ألم؟ ترى هل رأى شيئا من الدنيا التي حوله فيما قسم له من ساعات أم ولد ومات في دوامة من احتضار مبهم؟

...............

قال الشاب بصوت خفيض:

-والآن...

قال الشيخ:

-لابد أن تمر سيارة... قد يخرج بعض الناس الى شؤونهم القريبة بعد قليل. لا نتوقع أن يوصلنا أحد الى مكان بعيد... إذا لم نجد من يوصلنا سيكون علينا أن نسير... هذا الشارع نفسه يوصلنا الى سدة النهر.

سمع خلفه صوت محرك سيارة آت من الزقاق. استدار بكليته ورأى سيارة الشرطة قادمة نوع شيفروليت نقل. تصور أنها نفس السيارة التي جاءت بالشرطي المصاب ليتلقى إسعافا عاجلا هذا الصباح، ولكن حين توقفت عندهما ونظر الى السائق والجالس معه في المقعد الأمامي، تأكد من الصناديق الكارتونية في الصندوق الخلفي أنها ليست هي بل سيارة توزع الأرزاق الجافة على نقاط الحراسة. سأله السائق البدين شديد السمرة مبتسما بأدب:

-حجي الى أين تريدان الذهاب؟

أجاب بارتياح ممزوج بالتوسل:

-الى السدة... عند مقبرة الأطفال.

أشار له السائق بحزم أن إصعدا. اعترض مرافقه قائلا:

-لكن طريقنا ليس من هنا و...

أسكته السائق بنظرة توبيخ وهو يعدل وضع البندقيتين اللتين أسنداهما بينهما:

-سنوصلهما ونستدير من هناك نحو جماعتنا عند الجسر.. السدة قريبة.

جلس الشيخ والشاب في المقعد الخلفي. اندفع السائق بالسيارة فأصدرت صوتا عاليا من العجلات التي دارت أول الأمر بسرعة كبيرة أثارت دفقة من الغبار حولها ورشقة من الحصى.

وضع الرجلان الطفلين المكفنين كل في حضنه. قال الشرطي المرافق بحنق:

-لقد استلم الضابط قبل قليل نداء... أولئك اﻟ..... هاجموا الجسر من جهة البساتين لكنهم تراجعوا بعد أن شاغلوهم جماعتنا حتى وصلت طائرة الآباتشي فاختفوا.

ثم التفت الى الخلف، اليهما، بنظرة متأملة لم يتبين منها الشيخ لتعاطفه معنى واضحا، ثم وبنفس النظرة الرمادية نظر الى الطفلين وهز رأسه متمتما بكلمات غير مسموعة واعتدل في جلسته ناظرا أمامه نحو رتل من الهمرات قادم من جهة السدة. أشار السائق الى الذين يستقلون الهمرات إشارة التحية.

أصبحت السيارة تسير في شارع لا تحفه البنايات من الجانبين بل بضعة بيوت هنا وهناك قيد الانشاء ثم وصلت الى أرض فضاء لا يوجد فيها سوى نباتات برية يابسة مصفرة متفرقة وعلى مبعدة من الشارع الى اليمين أرض واسعة مسيجة بالآر بي سي، وداخل السياج، في الركن الأيمن بناية واطئة بسيطة بنيت من الطين وكسيت جدرانها بالملاط الأبيض الكالح منذ زمن بعيد، والى جانبها وخلفها بدت معالم قبور صغيرة مرت عليها سنوات حتى نبتت الأشواك والأعشاب بينها وفوقها . أمام هذه البناية طلب الشيخ من السائق التوقف متمتما بعبارة شكر وامتنان. نزل والشاب وسط الغبار الذي أثاره توقف السيارة على جانب الطريق الترابي. انطلقت السيارة نحو السدة وصعدتها متجهة غربا نحو البساتين التي يقع خلفها الجسر.

وقفا عند الباب الحديدي المكون من قضبان حديدية متصالبة. أدارا بصرهما في المكان فلم يريا أحدا. نادى الشيخ:

-من هنا؟

كرر النداء مرات قبل أن يلحظا من كوة في جدار الغرفة شخصا يتحرك ويسمعا صوت الباب الخشبي يفتح بصعوبة أو بتردد وأخرج رجل رأسه من الفتحة المواربة لينظر ثم لما تبين له أنه لا يوجد في الخارج غير شيخ وشاب يحملان طفلين مكفنين خرج دون أن يفتح الباب على سعته حاملا بيده بندقية كلاشنكوف، وقبل أن يتقدم نحوهما تلفت كأنه يريد التأكد من عدم وجود آخرين وأطال النظر نحو السدة ثم نحو هياكل البيوت. مشى بحذر حتى صار أمامهما في الجانب الآخر من البوابة ووقف ينظر اليهما نظرة متسائلة متجاهلا ما يحملان. بادر الشيخ قائلا:

-جئنا لندفن هذين الطفلين...

رفع يده بإشارة المنع:

-حجي... والله ممنوع. لم يعد يُسمح بالدفن هنا. هذه الأرض، من بستان جدوع الى الجسر الجديد.

عندها تكلم الشاب بغضب قائلا:

-وهل سيلغون المقبرة ويساوونها بالأرض؟

- لا أدري. أنا مجرد حارس هنا. سمعت أنهم قد يعيدون بناء المكان ويوسعونه.

ثم أطرق متفكرا وقال:

-إسمعا... يوجد خلف السدة، مقابلنا مباشرة، قرب الشط، مكان يدفن الناس الآن فيه الأطفال المتوفين. يمكنكما الوصول اليه مشيا خلال دقائق.

نظر الشاب الى الشيخ متسائلا ما العمل وعلامات الاستياء لا تزال بادية على وجهه. بادله الشيخ نظرة لا تقل استياء ولكن ارتسم على شفتيه ظل ابتسامة عكرة تعبر عن برمه بما لاقى خلال هذين اليومين من خيبات، ولا يزال عليهما أن يقطعا مسافة ويحفرا قبرا وربما غابت الشمس قبل أن ينجزا ما عليهما إنجازه.

التفت الشيخ الى الحارس محاولا أن يلفظ كلماته بما يمكنه من لطف:

-هل لديك مجرفة تعيرنا إياها وسنعيدها لك.

-توجد مجرفة قديمة.

وذهب الى ركن خلف المرقد ثم عاد بمجرفة.

-هذه هي... لا بأس بها فالأرض هناك هشة، ويمكنكما تركها هناك لمن يحتاجها.

تناولها الشاب من بين قضبان البوابة، وعندما أرادا الانصراف قال لهما:

-خذا حذركما. يوجد قتلة يجوبون هذه الأنحاء. لقد قتلوا رجلا صادفوه يسير على السدة هذا الصباح. إنهم يظهرون فجأة ويختفون عندما يرون شرطة أو جيشا.

اتخذا طريقهما الى السدة وهما يديران البصر فيما حولهما بين الحين والآخر. لكي يصلا بأسرع وقت الى حيث أشار لم يتبعا طريق السيارات بل سلكا بين الأشواك والأعشاب طريقهما فكان التراب الناعم المتحلق حول ثقوب النمل دائب الحركة تحت شمس الشتاء الدافئة المائلة الى الغرب يعلق بأطراف أصابعهما أو يندس بين نعليهما وأقدامهما. جال الشيخ ببصره حوله، نحو هياكل البيوت القليلة المتناثرة على جانبي الشارع المفروش بمزيج الرمل والحصى، ونحو السدة، والأشجار البعيدة على جانبيها، وقع بصره على شجرة ضخمة تمد أغصانها الغليظة حتى لتكاد تصنع سقفا أخضر فوق السدة. مد بصره الى أبعد من السقف الأخضر فرأى سيارة سوداء أو قاتمة اللون تتحرك ببطء في الأرض المحاذية لسلسلة أشجار صفصاف على حافة نهر. توقف بغتة وأمسك الشاب من ردنه وقال له:

-اعطني الطفل والمجرفة وعد أنت الى البيت!

فوجئ زوج ابنته بهذا الطلب، ومع أنه ناول الشيخ الطفل والمجرفة، ظل يحدج الشيخ بنظرة استغراب واستفهام أجاب عليهما هذا بقوله:

-عد! ربما تكون زوجتك بحاجة اليك الآن. يمكنني أن أقوم بالباقي وحدي ولن أتأخر.

حاول الشاب أن يجادله ولكنه ما أن فتح فمه حتى عاجله الشيخ بنظرة غاضبة ناهية. استدار الشاب بعد تردد وتوجه الى الشارع. ظل الشيخ وهو يضم الطفلين بذراعيه الى صدره ويمسك المجرفة من خشبتها بيده اليمنى يراقب الشاب الذي التفت وألقى نظرة سريعة نحو الشيخ قبل أن تحجبه الهياكل عن النظر وهو يتوجه الى الشارع المعبد. نظر الشيخ الى الطفلين، أحس بنعومة وجه أحدهما على صدره المكشوف، رأى الكفن وقد انكشف عن رأس التوأم الأكبر قليلا من جهة صدره، والحاجب الكث والأنف الأفطس قليلا والفم الصغير وقد التصقت بصدره بوداعة أزلية. زم شفتيه بشفقة يائسة وتقدم صوب السدة بخطوات مندفعة. انكشف الكفنان عن رأسي الطفلين إثناء سيره الغاضب ولكنه لم يعرهما اهتماما، وشيئا فشيئا، مع إيقاع سيره مال الرأسان ليكونا بمواجهة السماء بتلك السحنتين الغضتين اللتين أفرغهما الموت من كل تعبير، والعيون المغمضة كأنها لم تنفتح أبدا، كأن القدر لم يدخر لها إلا بياضه السديمي.

فكر أن أمام زوج ابنته الكثير ليعيشه أما هو فقد رأى الكثير، أكثر مما كان يتوقع، لا بل يراه الآن أكثر مما كان يريد أو يتحمل، وابنته أمامها مستقبل تلد فيه المزيد من الأطفال، قد يموت بعضهم كهذين ويعيش البعض الآخر، ليبلغ مثله سن الملل من الألم، ولكنهم سيولدون على كل حال. أما هو فذاهب ليحفر في أرض مليئة بقبور البلابل البرية، بين أشجار الصفصاف، قبور الأطفال الذين أفلتوا من العذاب، سيحفر قبرا عميقا، أعمق مما كانت تتمنى إبنته، حتى ولو ظل طوال الليل يحفر، قبر لن يستطيع الغرير، أو الكلب، أو أي حيوان نبشه، سيضع الطفلين جنبا الى جنب، متقابلين، وجها لوجه، كأمنيات أبويهما، كأمنيتين لم يرف لهما جنح إلا ليهمد. تلك الكتلة القاتمة البعيدة التي لاحظ قبل قليل وجودها والتي بدأت تتحرك الآن لتستوي على السدة باتجاهه ربما كانت هي التي يستقلها المجرمون، ولكنه لن يتراجع.

2015


* من مجموعته (فك الحزن) 2017. روجع النص من قبل المؤلف وجرت إضافة مقطع اليه كان قد حذف منه سهوا قبل نشر المجموعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى