محمد خضير - مفكرة ساراماغو..

على الجانب الآخر من مفكرات الكتابة وملاحظات الفن الخالصة، تنتظرنا مفكرات التجربة والحياة، خلاصات العمر ونحت وجوه الأيام، مفكرات ألبرتي ونيرودا وماركيز وباث وغاليانو وأخيرا ًساراماغو. وتبدو الإسبانية -اللاتينية أكثر تفصيلاً لعروق اليد وندوب الظهر والصدر، من الأوربية والأمريكية التي تنسج بذلات الموضة لتغطية جسد التجربة ومواراة روح الغرب العجوز. وبين تلك العوالم تعاني المفكرات العربية والفرانكفونية والآفروآسيوية غربتها وضياع سبيلها للخروج من لغتها الأصلية أو الهجينة. أين نضع مفكرات ميخائيل نعيمة ومالك بن نبي وعبد الكريم الخطيبي وعبد الرحمن منيف وأدوارد سعيد وإيهاب حسن بين المفكرات اللاتينية والأوربية والأمريكية؟
ثمة مزاج جماعي مجروح يفرز مفكرات أمريكا الجنوبية وشبه القارة الإيبيرية عن غيرها من مفكرات الحقيقة النقدية الأوربية. فبين مزاج كونديرا التجريبي وساراماغو التنقيبي فراسخ من البحث التفكيكي لظاهرات "العمى والنسيان" وفنون "الوصايا المغدورة". الأولى مداراة لجماليات كتابة روائية، والثانية مداراة لجروح ما وراء الرواية. وكذلك فإن مفكرتي تشارلز سيميك وتوماس ترانسترومر المفرطتين في الخيال الشعري ليستا سوى نزهتين جماليتين خالصتين. حتى إذا جاء دور مفكرات العالم الثالث صار تصنيفها في الهامش الضئيل المتبقي بين مفكرات الهجرة والنفي والهجنة اللغوية قدراً كفائياً من حصص التجربة الباقية. إذ لابد لمفكرة العصر النووي من دعائم فكرية قوية ومواقف تحديثية تنقضان ما عداهما من مواقف وأساليب؛ ولن نقدر على نيل مدار لنا في كوكب مزدحم بالتجارب إلا بالتخلي عن أوراق بالية قيّدها الضجر والأرق بقيدي الشكوى والنجوى الذاتية.
لكن الجديد في مفكرة ساراماغو هو انتقاله من المفكرة الورقية الى "المدونة" الإلكترونية التي استغل فضاءها في كتابة تعليقات وآراء وتأملات، هي تفاعلات جانبية من رحلته الروائية الطويلة. وكانت آخر مفكرة ورقية أمسكها ساراماغو انتجت رواية (مفكرات لانزوروتي) العام 1993. بعدئذ سيكون انتقاله الى التدوين الإلكتروني خطوة جريئة لمغادرة عصر المفكرات واليوميات الدفترية، والالتزام بمقاربات كوكبية لا تحايث مسبباتها الارضية الا في التعاقب الزمني اليومي. فهي مفكرة الترحال الحر في كون افتراضي، نسبي، مواز لكون روائي اختار لإحدى حلقاته عنوان (العمى) التي ستجذب جائزة نوبل اليه. بعدئذ سترحل رواياته في مدوناتها الكونية كروايته الأخيرة "رحلة الفيل".
تبدأ مدونة ساراماغو في 15 أيلول 2008 وتنتهي في 31 آب من العام التالي 2009، العام السابق لوفاته. وأول مادة افتتح بها ساراماغو مفكرته كانت مقالاً عن مدينته لشبونة وجدها بين أوراقه القديمة. إنها الرابط الأساسي الوحيد الذي بنى عليه معظم رواياته الأولى. أما بقية مواد المفكرة فتؤكد عشوائية التدوين، لأن ساراماغو أراد حشر فضائه الإنترنيتي بأكثر ما يستطيع من حوادث عصره. وعلى عكس نظام التدوين الروائي المتصل، لا يلزم التعاقب الزمني لمدونات المفكرة ترابطاً موحد التأثير. فبناؤها أقرب الى التجميع الكمي المتقطع للأحداث والأفكار. وما طريقة ساراماغو في انتخاب مواد مدونته، إلا استجابة متأخرة لرغبة تماثلية مع محاولات غراس ويوسا وموللر ومحفوظ، إزاء نزعات التأليف المضاد لخطاب الرواية العريق (كنزعة الرواية الرقمية).
استنادا الى طريقة غاليانو في بناء سرد الحقيقة، يمكن أن نخطط لرواية من مجموعة أفكار متناثرة في مفكرة. إلا أن مقطعات ساراماغو المكتفية بحقيقتها العارية من بلاغة الخيال "المصعّدة" تقترب من مستوى نص ذي محور حدثي ونهاية حاسمة، كما لو كانت المدونة مجموعة قصص قصيرة (مثلا القطعة المؤرخة في 6تشرين الأول 2008 عن الشاعر البرتغالي بيسوا). ولا ضير من وصف أسلوب القطع بما تتصف به قصص الصحافة اليومية الساخنة. فقد أتيحت لروائي استقصائي فسحة تجوال خارج أسوار خطابه الذي بدا له بعد سنوات طويلة ضيقا كسجن. يستطيع خلال هذه الفسحة/ المدونة أن يصل الى أصول "فطرته السليمة" وينتزع من هذا "الفضاء الضئيل" حصته الصافية من موضوعات التاريخ والنظم السياسة والحروب والبيئة والعلمانية والمكتبات وشخصيات العصر، ولا شيء مستثنى من النقد والمراقبة والتحليل كالقضية الفلسطينية. وكان ساراماغو من قبل يتحصن بدرع دون كيشوت الفروسي لتحصيلها في رواياته.
يعتقد ساراماغو بأن ما نؤلفه يمكن فهمه على أنه "قطعة تائهة من سيرة ذاتية غير مقصودة، مهما كانت لا إرادية، أو بالضبط لأنها إرادية". لكن هذه الملايين من المجلدات التي سيضيق بها كوكب الأرض يجب أن تقسم الى قسمين من المكتبات، قسم الروايات التخيلية، وهذا يجب أن يُرحَّل الى القمر وبقية الكواكب ذات الأغلفة الحيوية التي تحترم هشاشة الورق، وقسم المفكرات العظيمة الذي يجب ان يبقى على الأرض. لكن المشاكل، "مشاكل الطبيعة البشرية" ستحول دون تحقيق هذه الفكرة، مثل غيرها من الأفكار الفضلى غير القابلة للتطبيق. وربما كانت مفكرة الحقيقة تحدياً أخيراً واجهه ساراماغو كي يبقى على الأرض.
كان ساراماغو رواقياً يسعى للسلام الروحي، لكن بعيداً عن اللامبالاة؛ حيوياً مليئاً بالكلمات، لكن مع شعور بالفناء؛ والحقيقة إنه كان يشعر بأنه حي: "حي كثيراً جداً، كلما كان عليّ لسبب أو لآخر أن أتحدث عن الموت".



محمد خضير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى