التشكيلي محمد تايرت تجربة تسكيلية تخرج الطوطم من المعتقد الديني ليسبح بالوسط الفني الجمالي المحض

إن تطوير الفن التشكيلي يخضع عموما لنفس الشروط التي يجب توفرها في كل فن، من ثقافة ، ومحيط ، وإمكانيات مادية . فالفن التشكيلي رافد أساسي للتربية الجمالية ، والإحساس الراقي بأهمية الإبداع ، لتصبح رسالة الفن التشكيلي الراقي والمتجدد ، أنجع واقصر السبل لإيصال وترسيخ قيم الجمال والتنظيم والتواصل مع الأشياء والمحيط كواقع والفن كطريق للحوار مع الواقع المعاش والذي يبقى البشر المحرك المركزي له. وبما أن فلسفة الفن أو الإستيتيكيا (الاستيتيقا ) تنبني على السند الجمالي وتتخذ من السؤال والتأمل مسعى للتحليل والتأويل، فإن هدف هذا المقال يقوم على محورين هما : الأول يرتبط بالمنشأ الفني وبلاغته في الجمال الفني لدى الفنان التشكيلي والثاني بناء وإخراج المنشأ الفني من النمطية الكلاسيكية المتعارف عليها بتحويل الأشياء المجردة داخل الطبيعة نحو إعادة صقلها وتركيبها بإبداع طرق وأدوات جديدة تؤثث المنجز التشكيلي الفني بنظرة افريقية واقعية تشكيلية ملموسة.
فمن هو التشكيلي محمد تايرت كذات مبدعة فاعلة بالمشهد التشكيلي المغربي ؟
ما هي المدرسة التشكيلية التي اختار أن يعالج في إطارها اشكالياته الفنية ؟
وكيف تعامل مع المنجز الفني ودلالته وبلاغته الجمالية في التشكيل ؟
وكيف تعامل مع المقومات التشكيلية ليضيف لمسته الشخصية في المجال التشكيلي المغربي بتعدد روافده العربية الامازيغية الإفريقية ؟
فهل يمكن لبحثه التشكيلي أن يصبح موضوع معرفة في المستقبل القريب أو البعيد ؟
وهل باستطاعته كفنان تشكيلي أن يعيد صياغة هذا الإشكال لكي يعبّر عن سؤال التاريخ من داخل الفن التشكيلي؟
وكيف ينظر إلى الإبداع بصفة عامة والتشكيل بصفة خاصة؟ وكيف تعامل مع المنشأ التشكيلي ككل؟
الفنان محمد تايرت من موالد الأطلس المتوسط منطقة مرموشة ، تلقى تكوينا في مجاله كمدرس لمادة التربية التشكيلية مما يجعل الفنان بحكم عمله مؤهلا أكثر من غيره ليمارس التشكيل كإبداع فني عن دراية ثقافية، لان الفن لا يقوم في جوهره على المحاكاة ، وإنما يستدعي صناعة وتطوير ما هو جديد عبر الابتكار للأشياء والموضوعات والنماذج ، فأتى المنشأ التشكيلي في أعماله الأخيرة منشأ تجريديا على شكل طوطم فني ينتمي للمدرسة التجريدية بعدما مارس لسنوات طويلة إبداعه في اطار المدرسة الواقعية. و من هنا فهو ابتكر أشياء ومواضيع ونماذج ليس بالرجوع للواقع الطبيعي ومحاولة محاكاته ، بل إلى أعماق الروح الإنسانية الإفريقية وانطباعاتها بعدما شاهد الواقع الطبيعي وتعامل معه في حركاته وسكناته. فبعد ما كان الفنان يستهويه العمل في الهواء الطلق على الرسم المباشر وانجاز جداريات بمقاييس مختلفة .... ورسم لوحات بتيمات متنوعة على جميع الخامات انتقل إلى مرحلة أكثر عمقا وتمردا على المألوف.... حين ينجز أعماله الفنية بحس مرهف كأنه سافر خارج الزمان والمكان. انتزع إعجاب العديدين من الجهات المثقفة خصوصا انه يربط بين العمل الفني والجمعوي الإنساني ، لكنه سرعان ما اكتشف طريقه وسط فوضى الإبداع ليستقل بذاته ويرسم نهجه الفني الذي يحمل بصمته الخاصة. استطاع أن يحرر جميع أعماله من اللوحات التقليدية إلى طوطميات فنية متعددة التيمات الفنية والفكرية الراقية التصميم والتنفيذ ، فهي تستمد جذورها وخلفيتها الفلسفية من الثقافة الإفريقية الضاربة العمق في التاريخ والمعروفة بكونها ثقافة مفتوحة على الجماعة والقبيلة والفضاء الجماعي معربا عن تمرده عن الفكر التقليدي الذي لا يتخيل العمل الفني إلا ومسجونا بين إطارات خشبية على ثوب مجبص. وقد شكل كل هذا في حد ذاته تمردا على المألوف بالبيئة الإسلامية المحافظة التي تربط الطوطم دائما بالمجال العقائدي، ليكسر هذه النمطية ويخرج الطوطم الإفريقي من المعتقد الديني العقائدي أو الميتولوجي ( رقص الفدو الإفريقي والأقنعة الإفريقية مثلا .....) إلى المجال الفني الجمالي المحض على شكل شبح امرأة متمردة على شكلها في رمزية فكرية للشخصية الإفريقية أو الثقافة الإفريقية التي طالما تعرضت للاستلاب والتهميش أو السرقة. فالفنان حين يكون بورشته وكأنه بمحراب تعبده الفكري والروحي، مما يسمح له بالسفر في ملكوت اللون ليعوذ إلى ذكرياته البعيدة حين كان يسرق لأخته الكبرى الأقلام الملونة ليرسم أشكالا مميزة بألوان زاهية يستلهمها من نسيج الزرابي الذي نشا بين أحضانه، كما استطاع والوقوف أمام الإعجاز الإلهي في خلق الألوان وتنوعها وتداخلها وتميزها. فيحاول إضفاء الألوان والأشكال على فنه لصنع صورة لتَمثُّلِه الفني الذي هو طوطم فني محض، فيعيدنا إلى التصور اليوناني القديم الذي يرى أن الفن هو إضفاء صورة على "هيولى" أو هو صنع شيء ما كان إلى الوقت القريب سجين فكره فقط فأخرجه ليصبح شيئا ملموسا في الواقع. والرائع في لوحاته الطوطم هذه هو ذلك الانبعاث الضوئي القوي : ( lumineuse électrique ) الضوء الذي يخرج من تحت الشكل اﻷساسي . فتبدو كهيولى خام في طور التشكل . فيضيف الشكل إلى الجانب الجمالي وهو القيمة النفيسة للفن والمميزة له، لأنه يوضّح ويُثْرى وينظم التعقيد كما نَظَّرَ لذلك "جيروم ستولنيتز"*3
ومن هنا جاءت أعمال الفنان من زمرة التشكيليين الباحثين والمجددين لأنه لطالما كان هاجس كل مفكر ومثقف داخل أي دولة كيفما كانت أن يرتقي بوعي الشعب وأن يكون صوتاً وموجها له لأنه يسعى جاهد ليرتقى بذائقته الجمالية حتى يستطيع أن يُنظِّر للإبداع المعاصر على أنه ينمي القدرات الذوقية والفنية لدى المتلقي والمشاهد على حد سواء ، ويستفز بداخلهما ذلك الكائن المبدع والمبتكر . وهذا سيجعلنا نكون في حاجة إلى قراءات فلسفية/جمالية للأعمال الفنية بشكل جدي. فتطلب منا للقيام بذلك استحضار المرجعية الفكرية التي عادة ما تحال إليها كل كتابة نقدية.
وإذا كانت الصورة في أعمال هذا التشكيلي مهمة، فإنما هي تشير إلى طريقة معينة في النظر إلى الأشياء والإحساس بها في علاقة بعلم الأحجام والنسب والألوان فقط ، كما يقول أوجست رودان " إن الفن ليس إلا شعوراً أو عاطفة ، ولكن بدون علم الأحجام والنسب والألوان ، وبدون البراعة اليدوية ، لا بد أن تبقى العاطفة – مهما كانت قوتها – مغلولة أو مشلولة ". وتقدم المادة محلّ الاختبار بحيث تكون على استعداد تام لأن تصبـح عنصراً لبناء خبرة جديدة بطريقة فعالة وناجعة - على حد تعبير "جـون ديوى"*1. فإن صورة - أو شكل - العمل الفني لدى التشكيلي - كما يرى "هربرت ريد"*2 - هي الهيئة التي اتخذها العمل، لتأتي معظم لوحاته طوطم متعدد ب التيمات الفنية والإنسانية المتنوعة والعميقة. وأحيانا تمتد على هيئة ألوان يطغى عليها اللون البني والأسود والأحمر والأصفر بمزج رائع لتحس وكأنها تصدر معزوفات موسيقية أو أصواتا تتحدى النسيان والتهميش، خصوصا وأننا نعلم آن كاندنسكي كان يشعر بأن للون الأصفر مثلا صوت يختلف عن اللون الأحمر وهكذا. وهذا ما لحظناه بشكل جلي في أعماله، والفنان لم يستطع أن يصل إلى هذه الدرجة من الرقي الفني إلا بعدما أبدع في ارض الواقع المغربي الأمازيغي إبداعا يتحدى النسيان بمناطق جبلية جد نائية عن كل ما يعكس الرؤية الفنية أو يعرف بها، حيث اتخذ من البيدر"انيرار" في الهواء الطلق أرضية ليصنع منها لوحة مفتوحة في وجه الزوار والمثقفين للمنطقة الذين تربطهم بجذورهم التاريخية وواقعهم المغربي وتحملهم إلى العالم الفني الكوني الذي لا يعرف الحدود أو القيود.
عموما إذا طبقنا هذا الرأي على أعمال التشكيلي الطوطمية ، سنجد أن له رؤية خاصة جدا عن العمل الفني يستمدها من ثقافته المغربية الامازيغية الإفريقية، لتأتي كل لوحة طوطم مميز وفريد كمنتوج موسيقي إفريقي أصيل، مستمدا نظريته من فلسفة كاندنسكي و نظرة شوبنهاور في علم الجمال، والتي تجعل الموسيقى أعلى أنواع الفنون قيمة نظراً لأصالتها، فجاء كل طوطم مبتكر يشبه المقطوعات الموسيقية المبتكرة بحيث أن كل عمل أو لوحة طوطم لا تحاكي شيئاً موجوداً في الواقع، وتلك هي أعماله كلها لوحات مبتكرة وليست استنساخ لأي عمل كان،لأنه اعتبر التشكيل لغة للتعبير عن أفكاره و اشكالياته الفكرية والقيمية والجمالية الفلسفية فهي بنات أفكاره إلي لا تشبه أحدا ولكن تعبر عن أحاسيس صادقة وعميقة تتحدى الواقع لتمتد نحو الكونية.

بعض المراجع المعتمدة:
هنرى لوفافر" : في علم الجمال - ترجمة محمد عيتاني - دار المعجم العربي - الطبعة الأولى - بيروت 1954 .

*2 "هربرت ريد": التربية عن طريق الفنّ - ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد - مراجعة مصطفى طه حبيب - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة – 1996..
*3 " جيروم ستولنيتز ": النقد الفني - دراسة جمالية وفلسفية - ترجمة فؤاد زكريا - الهيئة المصرية العامة للكتاب - الطبعة الثانية - القاهرة - 1980 .
*9 Croce, Bendetto: The Essence of Aesthetic - Translated by Douglas Ainslie - The Arden Liberary, 1978.
"ارنست فيشر": ضرورة الفن - ترجمة أسعد حليم - الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة٩
عن الكاتب
خيرة جليل
https://www.facebook.com/khira.jalil
https://www.facebook.com/KhiraJalilArt/
https://www.facebook.com/KlmtWmny/
https://www.facebook.com/%D9%85%D9%86%D8%AA%D8%AF%DB%8C-%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%85%DB%8C%D8%A9-101273344766649/

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى