نجيب محفوظ - اللغــة..

ليست الأفلاك في دوراﻧﻬا ولا النفس في خطراﺗﻬا ولا الحياة في مظاهرها العديدة بأعجب من تلك العلامات الشائعة. التي قضى شيوعها بأن يزول روع إعجازها وهي الكلمات أو اللغة، الكلمة هي السحر الحق الذي لا يرقى إليه الكفر أو الجحود، هي مكمن النفس ترقد فيها عواطفها وأفكارها رقود الحياة في القلب.

فما هي اللغة ؟ وما أصل الكلمات ؟ وما علاقة ذلك بالنفس ؟

اللغة هي علامات التعبير عن الفكر بمعناه العام أي من حيث أنه عواطف وارادات وأفكار. منها ما يدرك باللمس (علامات العميان) ومنها ما يدرك بالإبصار ومنها ما يدرك بالأذن. والعلامات السمعية منها المد غم كالصياح ومنها الجلي وهو الكلام.
ويوجد فرق بين دراسة علم الفقه للغة ودراسة الفلسفة لها، فالفقه يبحث تطور اللغة وتغيرها ونشؤ تراكيبها أما السيكولوجية فتدرس اللغة من حيث أصلها وعلاقتها بالفكر.
وقد عالج أفلاطون مسألة اللغة في محاورة كراتيل واستعرض الرأيين اللذين كانا يتنازعان في هذه المسألة وأولها رأى ديموقريط وهو يعتبر اللغة اصطلاحًا ويعتبر إيجادها تعسفيًا فليس من حرج أن تبدل الأسماء كيفما تشاء وأن تصوغها إلى ما تشاء من المسميات وثانيهما رأى كراتيل تلميذ هيراقيلط ويرى أن بين الاسم والشيء المسمى علاقة طبيعية، فالاسم يعبر عن طبيعية الشيء بحيث أن من يعرف الاسم يعرف الشيء ذاته. ولذلك أعتقد أن الله هو الذي أوحى للأنسان الأول بأول الكلمات.
وقد أنتقد أفلاطون الرأي الأول قائلا أن أفعال الإنسان مقيدة بطبيعة الأشياء، فأنت لا تستطيع أن تحرق مادة إلا بالآلة التي تطلبها طبيعتها لكي تحترق، كذلك المشرع يتقيد بطبيعة الأشياء عندما يحاول أن يخترع لها الأسماء.
ولكن مع ذلك لم يكن أفلاطون من أنصار فكرة كراتيل فلم يؤمن بأن من يعرف الأسماء يعرف حقائق الأشياء ولم يستسغ رجع الكلمات إلى اصل آلهي، إذا كيف ترجع الكلمات لأصل إلهي وهي لا تخلو من نقص وعيوب، ثم أﻧﻬا لا تعبر عن طبائع الأشياء
وأن حاكت تلك الطبائع، وكذلك يوجد من " الطبائع " ما لا يمكن نقله باسم فلابد هنا من الاصطلاح والتعسف. وعنده أنه لكي تسمى الأشياء يجب أن تعرفها أولا فالفكر يسبق اللغة.
ويلاحظ أن بحث اللغة حتى الآن اقتصر على مسألة تعبيرها عن ماهيات الأشياء أما الأبيقوريون فقد وجهوها إلى وجهة أخرى، وجهة التاريخ والنفس، فاللغة قبل كل شيء دلالة عن النفس وهي تتأثر في وجودها وتطورها بالحاجات الإنسانية.
والكلام لغة طبيعية لأن لكل أنسان أعضاءه الطبيعية وهو يندفع إلى استعمالها طبعًا وسجية، ولكن لما كان لكل جماعة عواطف وأفكار وأمزجة خاصة ﺑﻬا، ولما كانت اللغة هي التعبير عن كل ذلك، فقد اختلفت تبعًا للأقوام ومن هنا جاء اختلاف اللغات، وليس معنى هذا إلا معنى للإصلاح في تكوين اللغة فهو كثير النفع في تحديد المعاني، كما أنه عماد المفكر في إيجاد كلمات خاصة بالمعانى الكلية والأفكار العامة وهي التصورات التي تأتى عن تفكير وروية وليست وحى النفس والسجية.
وجملة القول أن المدرسة القديمة تجمع – ما عدا كراتيل – على أن اللغة خلقة الإنسان، أما الكلمات فمنهم من قال أﻧﻬا تعبر عن حقائق الأشياء ومنهم من قال أﻧﻬا تعسفية، حتى كان أابيقور فقال أﻧﻬا تعبر عن حالات نفسيه هي التي أبدعت اللغة.
فإذا انتقلنا إلى المدرسة التجريبية وزعيمها لوك نجد أن دراسة اللغة تتبوأ مكانة رفيعة، لأن التجريبيين يرون أن العلاقة وثيقة بين العقل واللغة بحيث أنه يعتبر عبثًا دراسة العقل قبل فهم اللغة.
وملكة الكلام طبيعية منشؤها في الجهاز العضوي ولكن هذا لا يكفي لإيجاد لغة وألا لكان للببغاء لغة، فلابد من مقدرة عقلية تربط بين التصورات النفسية والأصوات الكلامية. وهذا وأن كفي لإيجاد لغة إلا أﻧﻬا تكون لغة ناقصة ومما يكملها إيجاد الألفاظ الكلية للدلالة بلفظ واحد على أشياء كثيرة وهذا ينفي الارتباك الذي يتطلبه أن يكون لكل شيء اسم.
ويفهم من هذا أنه وأن كانت ملكة الكلام طبيعية فالألفاظ تتكون بالاصطلاح والتعسف، وليس أدل على ذلك من أنه لو كانت الكلمات تحمل حقائق الأشياء لما كان هنالك من معنى لتعدد اللغات.
والباعث على الكلام هو ضرورة الاتصال بالناس، والملاحظ أن اللغة تسير من المحسوس إلى غير المحسوس ومن الخاص إلى العام، فألفاظ مجردة كثيرة كالنفس، أﻧﻬا مشتقه من أشياء حسية كالنفس و مما لا ريب فيه أن الأسماء العامة مثل الإنسان جاءت متأخرة عن الأسماء الخاصة مثل محمد وعلى. فلما جاء ليبنتز رد على رأى التجريبيين وناقضه في بعض المواضع. وقد عرف قبل كل شيء كمؤسس علم فقه اللغة لأنه اهتم بتطبيق المنهج العلمي المقارن في دراسة اللغات وبشر بالنتائج الخطيرة التي يمكن أن تعقب ذلك فاللغات أقدم في دلالتها على نفس الإنسان وعقله من الفنون والآداب، والمقارنة بينها ﺗﻬدينا إلى حقائق عميقة عن الإنسان وعقليته وتأثره المشترك. وأما عن رده على المدرسة التجريبية فقد خالف لوك في فلسفته التي تشتمل على هاتين النقطتين أن الكلمات في الأصل جزئية تدل على أفراد محسوسة أﻧﻬا وجدت بالاصطلاح والتعسف
فعنده أن الكلمات في الأصل لا تدل على أفراد، لأن الكلمات العامة ضرورية في تكوين اللغة وأنه لمن المستحيل أن يتكلم الإنسان إذا لم يكن عنده إلا كلمات مفردة، والتجربة تؤيد ذلك، فالطفل الآخذ في تعلم لغته يكثر من استعمال الكلمات العامة مثل حيوان ونبات وشيء بدلا من الأسماء الخاصة التي تدل على أفراد هذه الأنواع.
وعن النقطة الثانية فهو لم يقبل الفرض الاصطلاحي إلا مع التحفظ فاللغة أن لم تكن إلهية ولا فطرية فهي ليست محض تعسفية وقد يكون لها أسباب وجودها الطبيعية أو الخلقية.
ومنها ما يدل على A وقد لاحظ أن من الأحرف ما يدل على القوة مثل حرف
وهذا يدل على وجود علاقة عامة بين الأشياء والأصوات وحركات D الرقة مثل حرف
ألأعضاء الصوتية.
وفي القرن الثامن عشر تزايد اهتمام الفلاسفة بتقرير العلاقة بين الفكر واللغة، فذهب كوندياك إلى حد القول بأن الفكر يتبع اللغة، وأنه توجد لغة فطرية وأن لم توجد أفكار تقابلها، وأن العلم نفسه ليس سوى لغة منظمة. ما أصل اللغة ؟ أول صورة اللغة هي لغة الحركة فمظهرنا الخارجي يعبر عن أحاسيسنا الداخلية وليست هذه اللغة إرادية ولا تعسفية وإنما هيطبيعية، فالحركات توجد مع العواطف غير مسبوقة بقصد من الفرد إلي التعبير عن حالاته العاطفية، فحركات الجسم لغة طبيعية توجد في الإنسان قبل أن توجد الرغبة في استعمالها وعمله أن يكتشفها. ولكن الحركة لا توجد بالمعنى الصحيح ألا عند ما تعتبر الحركات علامات للحالات النفسية وهذا لا يتم ألا حيث يشعر الإنسان بالحاجة إلى التفاهم لتبادل الفائدة والمنفعة. وتبع ذلك ظهور لغة الكلام. وكان في بادىء المر صياحًا يتبع الحركات ويحاكيها قوة وضعفًا ثم أخذ ينفصل عنها شيئا فشيئا حتى استكمل استقلاله، وزاد ثروته أن هيأت له الطبيعة من ضجيجها والحيوان من صرخاته نماذج سخية للتقليد والمحاكاة. فاللغة طبيعية من حيث أن الأعضاء الحركية والصياح طبيعية وقد اكتشفها الإنسان لما أحس بالحاجة إلى التفاهم، وكان عمل الاصطلاح أن وسع ميداﻧﻬا ليس إلا.
وأخذ دى بروس بنظرية فلاسفة القرن الثامن عشر القائلة بأن اللغة تسير من البساطة والفقر إلى النمو والثروة. ولكنه تصور أن اللغة أمر ضروري يحدد صورته الشيء المسمى والصوت فهي لا يمكن أن تكون غير ما هي عليه.
فأي شيء من الأشياء يؤثر في النفس تأثيرًا خاصًا به فهنالك علاقة طبيعية بين الشيء وأثره في النفس، كما أن هنالك رابطة طبيعية بين ذلك الأثر النفسي وبين الصوت الذي يطلقه الإنسان للتعبير، فاللغة تنشؤ نشوءًا ميكانيكيا يحدده الشيء من ناحية والصوت من ناحية أخرى، ولكن معنى هذا أنه توجد لغة بدائية واحدة، وقد آمن ﺑﻬذا الرأي ولو أنه لم يقم دليل علمي عليه حتى الآن وكذلك نجد عند روسو روح القرن الثامن عشر التي تعتبر اللغة طبيعية ولكنه اختلف مع كوندياك في فهمه الطبيعة واصل اللغة البدائية، فكوندياك يقول أن الباعث على اللغة نجده في الحاجة. وروسو يقول بل في العواطف لأن الحاجة
تباعد بين الناس وتجعل بعضهم لبعض عدوا، أما العواطف كالحب والبغضاء والفرح فهي التي انتزعت من أفواههم أول الأصوات، كذلك لا يرى رأيه في أن اللغة البدائية لغة دقيقة وهي عنده لغة شعرية أقرب إلى الموسيقى منها إلى اللغة الدقيقة التي تستأهل هذه الصفة.
وخالف دى بروس في تحديده اللغة بين الشيء والصوت لأنه لو صح ذلك لكان للحيوان لغة، فهو الأشياء تتصل بآفاقه، وهو وهبه الله آلة صوتية، والحق أن اللغة مرجعها إلى ملكة خاصة هي التي تستعمل الصوت للتعبير عن الأشياء. وقد لاحظ تأثير الجو في تلوين اللغات فمنها الدمث الرقيق ومنها القوى الشديد القاسي وهكذا.
وقد وجد من الفلاسفة في ذلك الوقت من رجع إلى الرأي القديم، رأى كراتيل، وهودى بونالد، فقال بأن اللغة أصلها إلهي، إذ كيف يتفق لأنسان أن يبدعها ؟ وإذا أمكن وخلقها فكيف يمكنه أن يعلمها لغيره وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا كان لهم لغة يتفاهمون ﺑﻬا ؟
ولكن مان دى بيرن غير وجه المسألة فلم يعد يسأل عن أصل العلامات، فليكن أصلها إلهيًا أو طبيعيًا أو أنسانيا، فالعلامات لا تصير لغة بالمعنى الصحيح إلا إذا استعملها الإنسان للدلالة على حالاته النفسية وألا إذا عبر ﺑﻬا عن معانيها، فكيف يحدث ذلك ؟
تصير العلامة لغة إذا صار عملها اراديا، فالطبيعية تمون الطفل بالعلامات المعبرة عن حاجاته ولكنها لا تسمى لغة للطفل إلا إذا استعملها بقصد التعبير وسيرها بإرادته، فالطفل إذا تألم يصرخ ولكن الصراخ لا يصير لغة الطفل إلا إذا استعمله مثلا – في حالة
عدم وجود ألم – لكي تسرع المرضعة إليه وترفعه بين يديها أو تطعمه إلى غير ذلك. فعمل الطفل هذا دليل على أنسًا ينته وبه تتكون اللغة الحقيقية.
وجد في ميدان الفلسفة اللغوية ما تقدم ﺑﻬا خطوات واسعة ويرجع ذلك إلى تقدم علم الفقه المقارن و إلى ظهور نظرية التعبير الفسيولوجية وقد كان من أول نتائج ذلك
١- أن قضى على الرأي القائل بأن اللغة نتيجة التفكير
٢- وأن وفق بين نظريتي اللغة الصناعية واللغة الطبيعية.
وقد بدت ﻧﻬضة علم الفقه من أواخر القرن الثامن عشر ففي عام ١٧٨٧ دلل العلامة الإنجليزي وليم جون على وجود قرابة قويه بين اللغة السنسكريتيه والإغريقية واللاتينية وفي عام ١٨٠٨ اعتبر شليجل اللغات الهندية والفارسية والإغريقية والإيطالية
والألمانية فصيلة واحدة سماها فصيلة اللغات الهندية الجرمانية، وتقدمت الدراسات المقارنة حتى أنشأ حويوم دى همبولت ويعقوب جرم ويورونوف علم اللغة التجريبي.
وكان من موضوعات درسه – وهو ما أثر أكبر الأثر في فلسفة اللغة – تلك القوانيين العامة التي تسيطر على اشتقاق اللغات بعضها من بعض فقد بين أن تغير اللغة يخضع لقوانيين ضرورية لا حيلة للأنسان في تصريفها فقضى ذلك على رأى الاصطلاحيين
وجعل من اللغة أمرا طبيعيًا وكائنًا حيًا يخضع لقوانيين الحياة. ومن الذين اعتمدوا على علم الفقه في تعليل نشأة اللغة ماكس موللر ورينان.
ونرجع إلى موللر أن يجعل من اللغة علمًا طبيعيًا يخضع للقوانيين الطبيعية كالدورة الدموية مثلا! . ونرجع إلى مسألة نشأة اللغة فنسأل ما الذي يرتئيه علم الفقه كحل لذلك ؟
يرى موللر أنه يوجد في كل لغة عناصر بسيطة لا يمكن أن ترجع إلى أبسط منها وهذه العناصر يسميها الأصول، وهذه الأصول تفسر عادة بأﻧﻬا تقليد لأصوات الطبيعة أو بأﻧﻬا تعبير للحالات النفسية ولكن موللر يهمل هذين التفسيرين. وهو يفسرها بملكة في
الإنسان هي التعميم، لأن هذه الأصول تدل على معانى عامة، فاللغة في ﻧﻬايتها ترجع ليس إلى المحاكاة ولكن إلى تصور الإنسان العام للمعانى. فالإنسان قبل أن يطلق كلمة كهف، كان قد تصور معنى التجويف العام ثم أطلقه على الكهف. وبذلك يمكن التوفيق بين لوك وليبتز وكان الأول – كما رأينا – يقول أن أصل الكلمات فردية والثانى يقول بل عامة فكلمة كهف فردية من حيث أﻧﻬا تطلق أول ما تطلق على هذا الكهف أو ذاك وهي عامة من حيث أننا لانطلقها على هذا الكهف أو ذاك إلا بعد أن يحصل لنا معناها العام وهو التجويف.
فما العلاقة بين التصور والكلمة ؟ يجيب موللر على ذلك بقوله أن الفكرة توحي بالكلمة فهذا قانون بدائي في النفس. فكما أن كل جسم إذا طرق يرن فكذتوضيح مسألةرة يوحى بالكلمة ورينان يشابه موللر في عدم أخذه بالرأي التعسفي ولكنه رد اللغة
إلى المحاكاة نابذا فكرة موللر عن التعميم وكان يرى أن في الإنسان ملكة كلامية يستعملها من تلقاء نفسه، وأنت حر في رجع هذه التلقائية إلى الإنسان أو إلى خالفه، فاللغة فن أنسانى ولكن لا يرجع إلى شخص بعينه بل إلى الفكر عامة، هو التعبير الظاهر عن الفكر ونموه.
وقد أفادت الفسيولوجية كذلك في توضيح مسألة اللغة ذلك أﻧﻬا وضحت أن العلامات التعبيرية لم تكن غايتها التعبير من بادىء الأمر. مشار بل يقول أن العلامات التعبيرية كالحركات وتغيرات الوجه هي بدايات أفعال وظيفتها أن تخدم العواطف التي تعبر
عنها تلك العلامات، فهي أفعال من شأﻧﻬا أن تديم هذه العواطف إذا كانت لذيذة أو تزيلها إذا كانت مؤلمة ثم صارت معبرة عن تلك العواطف.
وداروين شارك شارل بل أرائه ولكنه اعتمد عليها ليفسر ظاهرات التعبير تفسيرا جديدًا مبنيًا على ثلاثة مبادئ:-
١- مبدأ التضاد
٢- مبدأ تداعى العادات النافعة
٣- تأثير الجهاز العصبي على الجهاز العضوي
أما مبدأ التضاد فيفسر بعض الحركات التعبيرية بأﻧﻬا وجدت على ما هي عليه لأن صورﺗﻬا النهائية تضاد صور الحركات التي تصاحب عاطفة مضادة للعاطفة التي تعبر عنها. فمثلا القط إذا أحس سرورا ينكمش ويقوس ظهره، فذلك لأن هيئته هذه تضاد الهيئة التي يتخذها في أحوال الغضب والشر.
ومبدأ تداعى العادات المفيدة يقول أنه توجد حركات تتخذها الأعضاء لإشباع شهوة أو إدامة عاطفة وأنه بمرور الزمن يصير اتيان هذه الحركات عادة من العادات بحيث أﻧﻬا تحدث في الجسم ﻟﻤﺠرد وجود شيء من العاطفة أو الشهوة لا يحتاج في ذاته إلى الحركة
الحادثة، ففي أمثال هذه الحالات تنعدم أو تقل جدًا قيمتها النفعية ولكن تبقى لها قيمه تعبيريه. وكثير من العلامات التعبيرية كانت أفعالا والعادة والوراثة يجعلاننا نأتيها عفوا حيث كان آباؤنا يأتوﻧﻬا لما فيها من أوجه النفع. مثال ذلك أن الكلاب الفت بأن تلعق
أبناءها لتنظيفها، ولكن هذه العملية تصحب عادة بعواطف المحبة فآلت إلى علامة عن الود عندها حتى أﻧﻬا تصنعها لأصحاﺑﻬا البشر.
وأما المبدأ الثالث فهو مستقل عن الإرادة وربما عن العادة وفحواه أن ﺗﻬيج الأعصاب المخية يولد قوة عصبيه وهذه ينشأ عنها حركات وصيحات وبتداعي المعانى تؤول إلى علامات عن عواطف مما تقدم نرى أن العلامات التعبيرية لم توجد في الأصل على أﻧﻬا علامات للتعبير وأﻧﻬا تتحول إلى ذلك بالعادة والتداعي والفهم وإذا فلا داعي لوجود ملكة خاصة بالكلام كما كان يقول بعض الفلاسفة ممن مر ذكرهم. فاللغة تخضع لقوانين طبيعية، وبعد وجود العلامات التعبيرية وبعد استعمال ما هو طبيعي وما هو ارتدى تأتى الكلمات، وتتقدم الكلمات بدورها خاضعة لقوانين الفكر نفسه. وفي العصر الحديث هجرت مسألة اللغة الفلسفية ومالت نحو علم الاجتماع السيكلوجية على وجه الخصوص.
فما جعل اللغة ظاهرة اجتماعية فآت من أن منابع اللغة عديدة لا يحيط ﺑﻬا الحصر، وأن الذي يمكن حصره منه هو ما يسبب وجود اللغة الاصطلاحية، وهو لا يبلغ أنسان إلى حصره وعرضه إلا إذا أنتشر استعماله وذاع في اﻟﻤﺠتمع. ولكن هذا لم يمنع من تفسير اللغة تفسيرا سيكولوجيا حتى أنتهي الأمر ببحث ما يعرف بروح اللغة أو بحث نفسيات الشعوب كما تنعكس في اللغات.
وقد هجر تصور التغيرات الصوتية كما لو كانت خاضعة إلى قوانين ضرورية عمياء ووجد أن العوامل النفسية – كالمحاكاة والرغبة في الإفهام – توجد في أساس ميكانيكية العادة التي تخلق العلامات التعبيرية.
وإذا كانت التغيرات الصوتية لا يشعر ﺑﻬا الإنسان فذلك راجع إلى أﻧﻬا ليست نتيجة التفكير وأن الذي يؤثر فيها هو ذلك المنطق الغريزي منطق الشعوب فالجانب الاجتماعي يغطى هنا على العوامل النفسية.
هذا عن المسألة الصوتية وأما عن معانى الكلمات فالعامل فيه نفسي أيضًا وهو الفكر ذاته، فالكلمة ليس لها معنى واحد ولا يحدد لها معنى إلا بعد الاستعمال. أي أﻧﻬا تأخذ معناها عن عقلية الذين يستعملوﻧﻬا. تلك العقلية التي تختلف بين قوم وقوم تبعًا للثقافة
والعصر ومناحي الفكر فالتطورات اللغوية ترسم التطورات العقلية ومن هنا كانت اللغة من الدراسات النفسية. وهكذا يتم رجوع اللغة إلى السيكلوجية – وفي بعض نواحيها – إلى الاجتماع.
ومن هذا نرى أن مسألة اللغة ابتدأت بمعالجة هذا السؤال. هل اللغة تعبر عن حقائق الأشياء أم لا؟
ثم انتقلت إلى تحديد العلاقة بين الفكر واللغة ايهما يسبق وأيهما يخلق صاحبه وترجح الحل بين رأيين. رأى يرجح اللغة إلى أصل إلهي وآخر إلى أصل أنسانى. ثم بتقديم علم الفقه المقارن وعلم الفسيولوجية هجرت مسألة أصل اللغة. واعتبرت
كشيء حي يخضع لقوانين الحياة يبدأ بحركات عكسية تتحول إلى علامات للتعبير. ثم توجد الكلمات وتمتد اللغة معبرة عن عبقرية جنسية خاصة ونوازع أنسانيه عامة. وفي العصر الحاضر يستأثر ﺑﻬا الاجتماع السيكلوجية.



--------
مقال للأستاذ نجيب محفوظ نشره في مجلة "المجلة الجديدة" في أغسطس ١٩٣٥
10

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى