إبراهيم عبد القادر المازني - أظرف من عرفت!..

والله إن كل من عرفت لظريفات! ولماذا أقبل أن أعرف من لَسْنَ كذلك؟ أليس المرء حرًّا في الاختيار؟ ولكنك قد تقول إنك لا تستطيع أن تعرف أن هذه المرأة بعينها ظريفة حتى تعرفها، فأقول إن هذا ليس بصحيح، وغير منكور. إن الظُّرف في الأصل متعلِّق بالكلام — كما يزعم أهل اللغة — ولكني لا أعبأ شيئًا بأهل اللغة، ولا يدخل في عقلي أن تكون المرأة ظريفة الكلام، وأن لا يكون فيها شيء يدل على ظرفها دون أن تنطق بحرف، وأنت يكفيك أن ترى امرأة لتعرف أهي ظريفة أم ثقيلة؛ لأن خفة الدم لا تخفي وثقله لا يستتر، ولو وضعت على وجهها ألف حجاب وحجاب، ومحالٌ أن تكون امرأة خفيفة على القلوب وأن تكون مع ذلك غير ظريفة، فدعنا من أهل اللغة فإنهم «ورَّاقُون» ليس إلا، وأنا أستعمل كلمة «الوارقين» وأنا أعلم أن أهل اللغة يريدون بها معنى غير الذي أعنيه، وهو أن هؤلاء القوم الذين لا يفتأون يقولون لك أخطأت، إنما يعيشون بين أوراقهم، ولا يعيشون بين الناس، ولا يدركون أن الألفاظ — كالأحياء جميعًا — تتطور معانيها، وتضيق وتتسع، وتسمج وتحلو وتندثر وتبقى على الأيام وبحسب الذوق العام في كل زمان.

والمرأة — كل امرأة — لا تخلو من ظُرف، وإلا فهي ليست بامرأة، وإن كانت على صورتها؛ لأن فقدانها الظرف يُفقِدُها بعض الجمال — أو مزيته كلها — وهذا هو سلاحها الماضي الوحيد في الحياة فماذا يبقى للمسكينة إذن إذا هي كُتِبَ عليها — لشقوتها — أن تحرم مزية الظرف؟

عرفت مرة امرأة ذميمة، وفي قولي إنها ذميمة بعض التسهيل، فما رأيت في حياتي أقبح منها وجهًا، ولا أسخف قوامًا، ولم تكن لا مثقفة جدًّا ولا فنانة — وكيف يمكن أن تكون؟ — وكان شعر حاجبيها رقيقًا من جانب وكثيفًا جدًّا من جانب، وإحدى عينيها أعظم من الأخرى، وفي كلتيهما جحوظ شنيع، كأنما تريد المقلتان أن تخرجا أو تسقطا، وكنت إذا نظرت إلى وجهها الشتيم هذا، أحس عيني أنا قد ورمتا أو انسلقتا أو على الأقل احمرَّتا؛ فأتعجب لقدرة الله الفنان الأعظم الذي وسعه — سبحانه — أن يخلق كل هذه الدمامة وأن يحشد كل أصنافها في صعيد واحد — أو وجه واحد، سيان — ولكني مع هذا كنت أستطيب مجلسها، وأشتاق إليها إذا غابت، وأتفقدها. ولم يكن حالي معها كحال ابن المعتز مع تلك الجارية القبيحة السوداء التي كان يغازلها فلما سئل عن ذلك قال: «وأرحم القبح فأهواه»، فما كنت أهواها، ولا كان يخطر لي أن أغازلها، ولا كنت أشعر أن بها حاجة إلى رحمة من إنسان كائنًا من كان. فحسبها ما تفرَّدت به، وهو شيء عظيم لا أظن أن أحدًا غيرها فاز به في الحياة، ولشد ما كنت أتمني لو كنت مصورًا فأثبت على اللوح أو الورق أو لا أدري ماذا، كل هذه الدمامة النادرة المنقطعة النظير، فيخلد اسمي على الزمن بلا نزاع، وأستغني عن كل هذا الهراء الذي كتبته ولا أزال أكتبه.

وكانت ضحكتها فضية، لا كركرة فيها ولا ترجيع ولا طخطخة، وصوتها تسمعه فيخيل إليك مرة أنه خفيف، وأخرى كأنه رنة، وتارة تحب أن تغمض عينيك وتسمع هذا الصوت المصوغ العجيب الذي كأنه مصوغ مرقوم على نغمات مختارة. وكانت إيماءاتها — بحاجبيها المخيفين، أو جانب شدقها الغليظ، أو يديها المعروقتين — مبينة جدًّا، حتى لقد كانت تستغني بها عن كثير من الكلام، وكان من عجيب أمرها أنه ما من حادث يقع أو كلام يدور في أقصى الحي، إلا وتراها أعرف به وبتفصيله ممن وقع لهم أو دار بينهم، وإلا وهي ترويه بإسهاب قبل أن ينهض أصحاب الشأن من مكانهم. ومن أجل هذا كنت أسميها الست «روتر»، وكان زوجها — نعم، فإن لها لَزوجًا كريمًا وسيمًا أيضًا في الرجال — يحبها بل يعبدها ولا يزال همه ووكده أن يدخل السرور على نفسها بما يطيق وما لا يطيق. وله العذر؛ إذ من ذا الذي يجد مثل هذه المرأة — أو يقع له مثل هذا الكنز — ويفارقها أو يملها؟ على أن أعجب من هذا كله أن جاذبيتها الجنسية — مع دمامتها المفرطة — كانت في غاية القوة، بل أنا لا أبالغ حين أقول إني ما رأيت امرأة لها مثل شدة جاذبيتها، والعياذُ بالله! وكان إلى هذا طيبة القلب واسعة المروءة، رقيقة الفؤاد على خلاف تلك التي يقول فيها مهيار:

آه على الرقة في خدودها لو أنها تسري إِلى فؤادها

فما كان في خدودها شيء من الرقة. رقة؟ لقد كان يخيل إليَّ أن جلدها أديم نعال، وآه لو رأيت عرقها يتصبَّب، وكأنه على وجهها ماء موحل في أخاديد أرض مهملة!

ماتت رحمها الله! وكانت جنازتها حافلة، مشى فيها الكبار والصغار، والوجوه والذيول، وراح بعض الغلمان، فجمعوا الأزهار من فوق القبور الأخرى، وبعضها ذابل، وكدَّسوه على قبرها. ولما دلوا جثمانها فيه، بكى الرجال كالنساء، وليس لي دمع أذرفه، ولكني استأذنت زوجها فنزلت في قبرها وسوَّيت لها ترابه، وحسرت عن وجهها ولثمت طرف كفنها! وخرجت — أو صعدت — معفرًا، وانتحيت ناحية ووقفت أنتظر انصراف المشيعين، لأعود بزوجها المسكين. فتذكرت — لا أدري كيف — أغنية مضحكة كنت أسمعها تدندن بها، وكنت أستملحها منها وأستعذبها لحسن أدائها لها من ناحية، ولما فيها من الفكاهة، وكثيرًا ما كنت أرفع صوتي الخشن المزعج بالغناء معها، فتنظر إليَّ باسمة — فما كان وجهها يتجهم قط — وتقول: «أما قلت لك ألف مرة إنك لا تصلح للغناء إلا في محطة الإذاعة؟»

تذكرت الأغنية والكلام والزجر، فغلبني الضحك، فأدرت وجهي إلى الحائط، ولكني لم أستطع أن أكبح نفسي على شدة حزني عليها، فوليت هاربًا لئلا تكون فضيحة!

هذه هي الظريفة حقًّا! وأين مثلها في الدنيا؟


إبراهيم عبد القادر المازني

مجلة الهلال
فبراير ١٩٤٧

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى