فوزي كريم - خاتمة..

زارَ الطائرُ المُحنّى الصدر. الطائر الصغير الذي لا يحسن الغناء. زار ثانيةً حديقة َ المنزل، البيضاء بفعل الثلج. احتل طرفاً من غصنٍ، بالغ الرقة، أجرد. وبحركةٍ عابثة لم أفهم معناها جعلني أنصرف له يقِظاً. وحين اطمأنّ خاطبني، كمرشد على ناصية: نسيتَ دون شك. لا عجب. مرّت سنواتٌ ثلاثون على لقائي الأول بك. كنت تعبر المانش على سفينة عتيقة من فرنسا. وكنتُ أنا أول من استقبلك على الساحل البريطاني. معكَ حقٌّ في النسيان. بل معك حقٌّ في الغفلة. أسرفتُ في الحركة العابثة على مقربة منك. الأمر الذي أجبرك على الاستدارة. ولكنك لم تنتبه لحضوري. كنتُ أخاطبك. ولعلك سمِعتَني، وبلعتَ الدهشةَ مع مذاق الملح القادم من البحر. اليوم تبدو أكثرَ اكتراثاً بي. فمنذُ أوّلِ رعشةِ جناحٍ استدارَ قلبُك، ولمْ تتخلّفْ عيناك. أعجبَتْكَ الاستدارةُ الصغيرةُ لتكويني، استدارةُ الرماد البني، على سطح هذه الخلفية من الثلج الأبيض. وعجبتَ كيف احتملني الغصنُ الرقيقُ الأجرد، غافلاً عن خفة وزني، بل انعدامَه الكامل! ثلاثون سنةً هي عمرِ هجرتي، أنا الآخر، إلى الغاب الذي حلمتَ به أنت، ولم تقصده. كنتُ هناك أرعى بأسىً بالغٍ كلَّ قِطعانِ أمانيكَ المفترضة، كلَّ سُحب الاحتمالات، التي كنتَ تعبّئُ قصائدَكَ بأطيافِ خيالاتِها الزائرة. أرعاها بأسى العارفِ أن مقاومتَكَ لنْ تنفَد.

لمَ كلُّ مكترثٍ بالضوء مأساويٌّ، ومعتم؟

لا أسألكَ، ولا أنتظرُ إجابةً. أنتَ أوحيْتَ لي بذلك. النساءُ الموشّحاتُ خشيةَ الضوء يرعَيْنَ قامتَكَ المنحنيةَ قليلاً. يتصفّحْنكَ ككتابٍ رقّقَ من أوراقه القدم. ويُحطنَ شتاءك بالقدّاس. مرةً واحدة قصدتُكَ بدافعِ الفضول، في منتصفِ ليلٍ، فوجدتُك فاغرَ الفمِ تحت فراشك، مُلتمّاً على نفسك كعلامةِ استفهام. لم أترك حتى نفَساً من بخار رئتي على زجاج النافذة المغلقة.

الليلُ ينتصفُ الآن. والشررُ المتساقطُ من الألعاب النارية سرعان ما يترك أثراً من رماد على الحديقة البيضاء. الألعابُ الناريةُ في سماء لندن تعيدُك إليّ بين حين وآخر. تذكّرك بي. ولكن عينيكَ اللتين تَعْشيان ليلاً استسلمتا للظلام الذي هدأ. ومن هذا الظلام شئتُ أن أغادرَ، دون أن أقول: وداعاً.

هل ستسمعُني لو قلتُ؟


31/12/2009


* المصدر:
issue_19_summer 2010_قصائد الأشهر الأخيرة من عام 2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى