نصر شمالي - الظلال

تطاولتْ ظلالُنا تطاولاً مرئياً أمكنني تتبُّعه بالعين المجردة، مثل تتبُّع حركة عقرب الثواني. لم تتطاول فحسب، وإنما تضخَّمت متعملقة أيضاً، فغطَّت مساحات واسعة من رمال الصحراء المتصلة بالأفق شرقاً، بينما هي ساكنة في مكانها!

من جهة الغرب، نهض مدفنٌ عظيم، ملأ بدوره الأفق، وحال دون رؤية أي مشهد سواه. بدا، بقبابه الضخمة، وأسواره العالية، وأشجاره الحِراجية العملاقة، مدفناً من العصور الغابرة. ربما من ما قبل خمسة قرون!

استولتْ على مجمل انتباهي عمليةُ تطاوُل الظلال وتضخُّمها. رحتُ أختلس النظر إلى حركتها الساكنة، مستثاراً، مستفَزاً، متوتراً. أما الآخرون من حولي فقد بدوا كأنهم لا يأبهون للظاهرة العجائبية. أو كأنهم لا يرونها. أو أنها، من جهتهم، لا وجود لها أصلاً؟ كانوا منهمكين في أدقِّ التفاصيل العادية للحياة اليومية. أحسستُ بالخجل من نفسي، ولكن من دون قناعة. فقد كنت، من جهتي، أرى الظاهرة وأحسُّ بها، بل أعيشها.

تململت في وقفتي. قلَّدني ظلِّي مجسِّماً تململي أضعافاً مضاعفة. مئات الأضعاف، بل آلاف الأضعاف! كأنه يقلِّدني ساخراً تقليداً أخرق كاد يضحكني. لكنه، في الوقت ذاته، بعث في نفسي رهبة لا توصف. فكَّرت مستخفاً، وأنا أحاول استرداد روعي: "أية دعابة سمجة هذه؟!" وكدت أنفجر غاضباً، أو ضاحكاً، أو أفرُّ مذعوراً‍‍!

كان الجميع من حولي وقوفاً، يواصلون مداولاتهم التي بدت بلا نهاية، بلا معنى، بلا جدوى. وكانت تتخلل مداولاتهم أهازيجُ جماعية كالعويل، وتصفيقٌ حادٌّ مثل من يضرب كفاً بكف أسفاً وقد أسقط في يده، ورقصٌ مثل رقص الطير مذبوحاً. ثم سرعان ما يعودون إلى مداولاتهم العقيمة، المفزعة!

أشحت بوجهي، وحرَّكت ذراعي حركة بسيطة من الصعب ملاحظتها. حرَّك ظلِّي ذراعه على مساحة شاسعة. اضطربتُ بشدة. صار الثبات في مكاني مستحيلاً. ولكن، إلى أين أتحرك؟ كيف أخرج من دائرة الظلال؟ أعبرَ الصحراء التي غطت الأفق الشرقي، أم عبر المدفن الذي ملأ الأفق الغربي؟

أطلقتُ ساقيَّ بكل طاقتهما، لا أدري إلى أين. كان سيري مجرد سقطات متوالية – وما هو السير في حقيقته إن لم يكن مجرد سقطات متوالية؟! تقدمت عبر جهة ما، غارقاً في الغبار، متعثراً بالرمال، محدِّقاً في عين الشمس، وأنا على وشك البكاء. الآخرون لم يأبهوا، لم ينتبهوا. لعلهم لم يروني أصلاً. فكيف لا أوشك على البكاء؟

أما ظلِّي المتطاول، المتعملق، فقد كان منتبهاً وآبهاً. وانطلق يطاردني بلا هوادة. لم يفقد اتصاله بي أبداً. لكنه – ويا للعجب! – لم يخرج من دائرة الظلال. كان مثلها ساكناً. متحركاً وساكناً في آن. كان يطاردني ساكناً!

بدت الظلال قطيعاً متضامناً تضامناً لا قيمة له. سرباً متعاضداً تعاضداً لا فائدة منه. البنادق والسكاكين تستطيع أن تنال ما تشاء بالراحة التامة. هو تعاضدٌ عاجز عن المقاومة... وعاجز عن الزوال! قطيع، أو سرب من الظلال، لا يميِّز بين مكوِّناته سوى حركة جسم الظلِّ. لكلِّ ظلٍّ جسمُه. لم أكن متأكداً، حتى تلك اللحظة، مما إذا كان لكلِّ جسم ظلُّه. بدا من الصعب – بل من المستحيل – تعداد الأجسام، وتعداد الظلال، والمطابقة بين عدديهما من أجل التأكد.

وجدتُني على مقربة من المدفن العظيم، سائراً في اتجاه بوابته. بوابة هائلة، هائلة، تتسع لعبور آلاف النعوش، بل عشرات الآلاف، دفعة واحدة. كانت فاهاً خرافياً، فاغراً، يليق بعالم آخر!

تعثَّرتُ، وتردَّدتُ، واحترت. أجلت بصري يائساً، فاكتشفت، على مقربة مني، شخصاً يسير في الاتجاه نفسه. كان يتقدم، لا مسرعاً ولا مبطئاً. منحنياً، بل محدودباً. خُيِّل إليَّ أنه يتعمد الانحناء. كأنه يتوقع أن مدخل المدفن يحتاج إلى ذلك. أو كأنه أدمن الانحناء. أو كأنه يتوقع توبيخاً مباغتاً. أو صفعة من حيث لا يدري! اتساع حدقتيه كمن يواجه وحشاً مفترساً، وانفراج شفتيه كمن يهم بالصراخ، وعموم تعابير وجهه، توحي جميعاً أنه يتوقع إما بوابة منخفضة يخشى أن ترتطم بها جبهته، أو توبيخاً وشتماً مقذعاً، أو صفعة غادرة. وقد يكون مدمناً على الانحناء، لا أكثر ولا أقل. من يدري؟ أو لعله، بكل بساطة، يريد، لسبب ما، التخلص من طول قامته الزائد عن اللزوم!

قلت لنفسي وأنا أتأمله، متمعناً في طوله وعرضه، وفي مكوِّناته من جميع الجوانب: "ترى، هل أعرف هذا الشخص؟" وإذا بي أكتشف أنني أعرفه. إنه حطَّاب الغاب، البسيط، الماجن! كيف ظهر فجأة هنا؟! من أين أتى بعد أن انقطع عهدي به، وبالغاب، منذ عصور، وبعد أن زالا كلاهما من عالمي زوالاً تاماً؟ كيف ظهر الآن، وإلى أين يمضي؟ ثم، أي هندام فاخر هذا الذي يتهندم به، وأية حليٍّ ثمينة هذه التي يتزيَّن بها؟! فكرتُ مستغرباً: "لعله استعارها. لعله سيحضر حفلة تنكرية، أو سهرة صاخبة ماجنة، يلعب فيها دور شخصية كبيرة وخطيرة!"

تذكرت أنه كان مواظباً على حضور حفلات وسهرات من هذا النوع. كان يطيب له أن يلعب فيها دور المهرِّج المسكين الذي يتطاول عليه الساهرون بالكلام وبالأيدي. تذكرت أنني حضرت إحداها، فأشفقت وحزنت وانسحبت منذ بدايتها. لم أطق مشاهدة إنسان يُمتهَن، وإنْ برغبته ورضاه. لم أحضر حفلة كهذه مرة أخرى، لكني بقيت أعرف أنها مستمرة، وأسمع عما يدور فيها. انحصرتْ رؤيتي له في الغاب، ميدان عمله. هناك كان يبدو لي طبيعياً ومعقولاً إلى حدٍّ ما. كان التحطيب آخر عمل، وأعظم عمل، أوكل إليه.

عدت أدقق في قيافته، وفي زينته. وقد خطر لي خاطر. هل يُعقَل أنه سرق هذه الحليَّ الثمينة وهذه الثياب الفاخرة؟! استبعدت هذا الظن لأني لم أعرفه سارقاً إبان عهدي به وبالغاب. ثم إنه أبسط من أن يسرق بهذا المستوى، حتى لو أراد!

غير أن ما اكتشفته بعد ذلك جعلني أتجاوز تماماً جميع هذه الذكريات والأفكار والتساؤلات. بل هي تبخَّرت كأنها لم تكن حين لاحظت أنه بلا ظلٍّ. كان جسماً بلا ظل!

مباشرة، من دون مقدمات ولا سلامات، وغير عابئ بالعهود الطويلة التي لم أره خلالها، هتفت به: "أين ظلك؟ أين ظلك؟!" واستدرت أطمئن على ظلِّي، فوجدته متصلاً بي. أما هو فقد بدا منصاعاً لسؤالي، وغير مندهش لوجودي. تمتم مرتبكاً، وعيناه تطرفان: "تبدَّد ظلِّي في الصحف والتلفزيونات!" قال ذلك بشيء من الرضى البائس. أما أنا فلم أفهم كيف يمكن للظلِّ أن يتبدَّد مستقلاً، اللهم إلا إذا كان هو الأصل، والجسم مجرد انعكاسه!

تساءلت وأنا أحاول إيجاد حلول لجميع هذه الألغاز: "ما علاقة حطَّاب الغاب بالتلفزيونات والصحف؟!" وإذا به، كأنما هو أدرك ما يجول في ذهني، يحرِّك ذراعه، راسماً في الهواء إشارة فهمت منها أن ظلَّه كان صورة مجسمة جداً تشغل مركزاً رفيعاً جداً على مدى الأزمنة المنصرمة التي لم أره خلالها حتى نسيته تماماً. لقد فهمت، بطريقة ما، كيف أنه كان غائباً حقاً غياباً كلِّياً طوال الوقت!

بينما كنت أنظر فيما بدا لي "وقاراً"، وإن مصطنعاً، إذا به يستعيد أثراً من تلك الابتسامة المرحة القديمة "الساذجة" التي طالما عُرِفَ بها، ويسألني: "هل يعجبك عادل إمام؟" أجبته مشفقاً، إنما صادقاً: "نعم، إنه يعجبني!" عندئذٍ بدا كأنه اطمأن إلى وجود ما هو مشترك، وأن هذا "المشترك" كافٍ تماماً لإقامة الثقة!

وهكذا، لم يعد ثمة ما نقوله إطلاقاً. ولجنا بوابة المدفن معاً، وسرنا عبر دروبه الموحشة. كان يتقدم كمن يقصد مكاناً محدَّداً، لا متمهلاً ولا متعجلاً. أما أنا فلم أكن أعرف أيَّ شيء عن أيِّ شيء! وقد انتابني إحساس الزائر، أو السائح. سرت معه، على مقربة منه، كأنه الدليل، بينما هو يتقدم بخطوات المقيم الذي يتحرك في مقرِّه ومستقرِّه، غير منتبه ولا آبه، مثل الروبوت الذي يؤدي ما شُحِنَ به من أوامر بالضبط، من غير زيادة أو نقصان.

تبعتُه إلى داخل عنبر هائل الارتفاع والاتساع، حتى إنني لم أستطع تحديد نهاياته. توغَّلنا عبر حشود من الجثث لا تُعَدُّ ولا تحصى. أعداد قليلة منها وُضِعَتْ واقفةً بكامل أبَّهتها وأكثر. بدتْ كأنها واقفة من تلقاء ذاتها. غير أنني كنت متأكداً أن شيئاً ما يسندها، وإن لم أستطع رؤيته. وكانت هناك أعداد أكثر مُدِّدَتْ بكامل ثيابها وزينتها على طاولات مفروشة تشبه الأسرَّة. أما الأعداد الهائلة الأخرى من الجثث فقد مُدِّدَتْ عارية تماماً، بلا أكفان، على طاولات رخامية مثل تلك المستخدمة في قاعات التشريح الطبي.

توغلنا، وتوغلنا، حتى إنني لم أعد قادراً على رؤية الباب الذي دخلنا عبره. كانت الجثث تحيط بنا من جميع الجهات، مالئة الأرض والجدران على مساحات لا تظهر بداياتها ولا نهاياتها. هاهنا لم يكن ثمة ظلال على الإطلاق! فجأة توقف الحطَّاب. توجَّه إليَّ وهو يشير بيده إلى إحدى الطاولات الرخامية القريبة وتمتم: "تلك جثتي. إنها هنا على تلك الطاولة... هل تراها؟" نظرت إلى حيث أشار، فرأيت جثته ممددة، عارية تماماً، مثل غريق انتُشِلَ لتوِّه من قاع النهر.

التفتُّ إليه مندهشاً، أريد الاستفسار، فلم أقع له على أيِّ أثر!


دمشق، 22/5/2000



* عن موقع معابر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى