جودت جالي - قطرات الغبش..

أطل بلال برأسه على الفِناء مرهفا السمع. أحس بالهواء المعتم المتخم بالأنفاس وروائح البيت الرطبة، يتصاعد ، يلفح أنفاسه دفقات، ويحيط برأسه كثيف الشعر، أشعثه، وينفلت في الفضاء مع كل نسمة. أصغى جيدا... لا شيء، لا صوت ينم عن أحد مستيقظ. لا بد له، إذا أراد النزول والذهاب الى الغرفة المجاورة التي تنام فيها شقيقاته الثلاث وشقيقه الأصغر جميعا في فراش واحد على الأرض، من أن ينزل الدرج بمحاذاة غرفة والديه ويمر من أمام شباكها. ركز السمع وجميع حواسه من جديد ليلتقط أدنى نأمة فلعل أبوه يجلس منزويا في مكان ما يدخن وينتظر عودته ليعاقبه على شرود ذهنه حين أراد ركن سيارته الفورد فطلب منه الانتباه لئلا ترتطم السيارة بالحائط، لكن بلالا لم يستطع أن يؤشر له في الوقت المناسب أن يبطئ فانخدشت الواقية، ونزل أبوه من السيارة يدمدم باللعنات وبيده هراوته التي لا تفارقه ويضعها دائما في متناوله خلف مقعده، فما كان من بلال إلا أن يهرب باتجاه المتنزه ويقضي في ظلمته شطرا من الليل، وعاد ليتسلق جدار البيت من على السيارة وينسل بخفة من سطح المطبخ الى سطح الغرف. نعم سيعاقبه ولن يؤجل العقاب الى غد، حتى ولو أيقظت الجيران صيحات الألم التي سيطلقها مع كل ضربة.

لم يلحظ شيئا مريبا ولكنه سمع تأوهات جدته الواهنةَ، تأتيه من مكان ما، مرة يخيل اليه أنها تأتيه من إحدى الغرف ومرة من زاوية من زوايا الفناء، ربما من المطبخ أو.... لا يدري. لو كانت جدته بصحة جيدة لوجد عندها ملاذه الذي يتحصن به دائما ولن يستطيع أبوه أن يقترب منه وإلا نالت منه جدته بعكازها أو خدشت وجهه بأظافرها وهي تسبه وتلعنه، وغالبا ما يتراجع ما أن يصبح بلال خلفها مبتسما ابتسامة الخاسر وهي تسلقه بلسانها الحاد. لو لم تكن مريضة لما احتاج أن يهرب الى المتنزه.

انسحب من إطلالته بهدوء واستدار وأسند ظهره بارتخاء الى جدار السطح. تلفت ببطء وقد أثقل النعاس جفونه فلم ير موضعا مناسبا يقضي فيه ما تبقى من تلك الليلة الأرقة سوى التخت الخشبي، نهض نحوه وأزاح البساط المصنوع من فتائل الأقمشة القديمة كابية الألوان، وإندس تحته على ألواح التخت. بدا له القمر، أشد لمعانا من كل يوم، وكان كأن الغيوم المتفرقة التي تمر به فتحجبه عن النظر أو تبهت لونه تجعله يدور بلطف، لطف مناسب لعيني بلال المثقلتين نعاسا. راح في النوم ومزيج رائحة دفلى المتنزه وعشبه الربيعي لا يزال ينبض من قميصه نبضات أثيرية، وقبل أن يغط في ذكرى ممر اليوكالبتوس مكلكل الأغصان خلف الجامع القريب من بيت أهله مد يده الى جيب البيجاما ليتحسس زهرة دفلى بيضاء.

كانت جدته، هذه المرة، في تهويمات النعاس، تطلع من ماض ليس بعيدا، تسير بهمة وهي تحمل على رأسها صرة كبيرة من القماش فيها أشياء "صوغة" اشترتها لإحدى خالاته في ريف صدر اليوسفية، وكان هو يتبعها مرتديا دشداشة جديدة مقلمة بالأزرق وحذاء من الجوت المزين بصور الدراجات والأرانب، وفي جيبه "خرجية"، قطع نقدية، لن يستطيع صرفها في ذلك المكان إذ لا وجود لسوق ولكن جدته أعطتها له ليبهر بها صبيان "العُرْبان". يجتهد في محاولة مجاراتها والبقاء قريبا منها خوف الكلاب التي ستتلقاهما عندما يصلان بالنباح والدوران حولهما. سار خلفها مباشرة مطمئنا الى حمايتها ، كما في كل حين، وهو يحاذر أن يدوس على زهور برية بالغة الصغر طالعة على جوانب الميسم الترابي المحاذي للنهر ويبقى على التراب الناعم يدوس حتى ولو غطت حذاءه طبقة من غباره. التفت خلفه فرأى الطريق العام المعبد الذي تسير عليه السيارات مسرعة يصبح أبعد فأبعد وأصوات محركاتها تخفت وتخفت....

****

بين الحين والآخر كانت تسقط على وجه بلال من القطر قطرات، باردة، لطيفة الوخز، ودون أن يفتح عينيه يمسح صفحة خده بظاهر كفه الهزيلة بحركة سريعة برمة ، فقد كانت القطرات في نومه القلق كريات هلامية للزوجتها وخز مناكد. مست أنفه رائحة كرائحة شحم التزييت، وصوت خشن، مع القطرات يتناوب على خده الذي اختلطت عليه ملوحة العرق ببرودة القطر. وضع كفه الأيمن على خده الأيسر موجها راحته نحو السماء تتلقى النثيث وتتحرك الأصابع كأصابع عازف يعزف على النسيم المضمخ ببقايا بلل الشتاء وبشائر الموسم الأخضر. أراد أن ينادي على أترابه خلف سياج الآس، ولكنه بدلا من أن يسمع صوته سمع الصوت الخشن يقترب منه بإلحاح. سمع من خلف حاجز "بلال! بلال!"، وبعد هنيهة شعر بيد تمسك كتفه مسكة مألوفة وتهزه يرافقها الصوت الخشن يندهه برفق غريب، فأجفل مستيقظا.

أبعد يده عن وجهه والتفت ناحية الصوت، نحو الأعلى، يسارا، الى حيث يغادر القمر فتحة في الغيوم، وحيث رأس أبيه غائم الملامح تعلوه شعيرات تلتمع بالضوء والبياض حول صلعة بيضوية. تسمر في مكانه مستسلما، متوقعا أن يهبط كف أبيه على رأسه بضربة أولى، لكنه بدلا من ذلك سمع أباه يقول له بلطف:

-بني بلال.... تعال معي!

نهض يتمايل فأمسكه أبوه من كتفيه يسنده:

-إحذر أن تسقط عند نزولك الدرج... هل صحوت جيدا؟

حاول أن يجيب بالإيجاب ولكنه لم ينجح سوى في لفظ همهمة محشرجة، فقد أرعبه لطف أبيه غير المتوقع تلك الليلة ما زاد من ثقل لسانه وصعوبة التكلم التي يعاني منها منذ أن نطق بأولى الكلمات. سار خلفه يجر رجليه جرا وقد تناهبته الهواجس.. هل يستدرجه أبوه الى الأسفل ليضربه هناك؟ شيء ما في الجو حوله، وشيء ما في نبرة أبيه ومشيته وهو ينزل الدرج يشي بأن أمرا حدث، حتى أن أباه لم يحرص، كما يفترض، على الإمساك بيده لكي لا يحاول الإفلات، بل بالعكس سار أمامه وئيدا، درجة درجة، كأنه يدله على مواضع قدميه في الجزء الأعلى المعتم من الدرج قبل أن يستديرا في نزولهما ليواجها ضوء مصباح الفناء. صار بمحاذاة الشباك، ألقى نظرة من خلال المشبك فرأى أمه جالسة أرضا تبكي بصوت خافت، بكاء هو أقرب الى تنويمة حزينة دون كلمات. لماذا تبكي؟ نظر الى أبيه الذي لم يستدر ليدخل الغرفة كما توقع بل استدار الى الجهة المقابلة.. الى الحمام. التفت بلال الى حيث توجه أبوه وجمد في مكانه لما رأى.

على ضوء المصباح الذي يصطبغ كل شيء في الحمام باصفراره رآها... ممددة على جنبها الأيسر بمواجهة الباب الخشبي الضيق المنخفض. لم يكن بلال يرى، من حيث يقف خلف أبيه، سوى نصف جسدها الصغير الهزيل. كانت ممددة في مواجهة الباب على أرضية الحمام الإسمنية المرتفعة قليلا وخلفها سماور الحمام الكبير، كما كان يراها كلما نامت للقيلولة في ظل الفناء، بفمها الأدرد المفتوح قليلا، وعينيها نصف المغمضتين، ولكن يدها التي تضعها عادة تحت رأسها كانت هذه المرة بعيدة عنه، مفتوحة وقطرات الماء التي تسقط من الصنبور، متباعدة، بطيئة، لا تكاد تبين إلا من رذاذ نثارها الذي يسقط بعضه في راحتها المتغضنة الشاحبة وعلى شعر رأسها المنتثر الأبيض المحمر قليلا في بعض المواضع من أثر صبغة الحناء. أصبح الى جوار أبيه وصار يراها كلها. لم يقل له أبوه أن جدته ماتت ولكنه عرف ما أن نظر اليها، فهم أن جدته فارقته الى الأبد. فهم أن هذا الفم الذي جمده الموت لن يبتسم له ثانية أو يحدو له حداء البادية الذي لا يفهم منه كلمة ولكنه يستمتع بسماعه ترتله جدته وعيناها ساهمتان تنظران الى الماضي، الى أيام صباها وشبابها. تصمت هنيهة وتنظر اليه مبتسمة وتسأله: "تريد بعد؟" فيهز رأسه بالإيجاب متحمسا وهو يلملم نفسه أمامها ويتحفز في جلسته مقتربا، فمها الذي تعلوه من الجانبين آثار وشم قديم وتحته في منتصف الحنك نقطة وشم وحيدة لن يقص عليه حكايات أجداده مع الضواري والسعالى والجن بعد، وأن عينيها التي زحف عليها الماء الأسود في الأشهر الأخيرة لن تراقبا أطفال البيت يلعبون وهي لم تك ترى منهم في الحقيقة إلا أشباحا فتضحك لضحكهم وترفع صوتها بالتوبيخ إذا سمعت أخاه الأصغر يبكي " من هذا الذي ضربه؟ بلال أم عديلة؟ اللعنة على من ضربه...."، ويدها التي طالما تحسست وجهه أو مسحت دمعه أو فكت من فوطتها عقدة لتخرج منها آنة تعطيها له فينطلق بها الى دكان أبي زعيلة، هذه اليد لن تكون حاضرة لتسحبه الى حضن دافيء.

شعر بيد أبيه تستقر على كتفه وصوته الحذر كأنه يخشى أن يسمعه أحد يقول له:

-إذهب الى أمك لتبدل لك ثيابك... هيا!

توجه هو نحو النشيج الواهن المنغم ودخل أبوه الى الحمام ليحمل جدته. وجد أمه قد هيأت له قميصه الأبيض وبنطاله الأزرق السمائي ذا الحمالات اللذين يرتديهما للمدرسة. نزعت عنه بيجامته المتسخة وهي توصيه أن يكون شجاعا ولا يخاف. التفت الى أبيه وهو يدخل حاملا جدته ويضعها على مَدَّة من الصوف ويوسدها وسادة من القديفة. لم يذهب بها الى الغرفة الأخرى حيث تنام عادة هناك على فراشها، عندئذ انتبه بلال الى أنه لم يسمع صوتا من الغرفة الثانية حيث تنام شقيقاته وشقيقه، ورجح أنهم نائمون ولا يدرون بما يحدث. كانت أمه تنظر الى جدته بعيون مغرورقة بالدمع وكل تعابيرها توحي بسؤال ملتاع واحد: "أهذه هي النهاية؟". رغم ألمه الأخرس لم يكن يرغب في الارتماء عليها والانخراط في البكاء، لم يكن يشعر برغبة في البكاء، كل ما كان يرغب فيه أن يُترك ليعود الى المتنزه ليندس في ظلمته فلا يعود يرى الذي يراه أو يسمع الذي يسمعه.

فجأة تكلمت أمه مخاطبة أباه بلهجة مريرة الإستياء وإن كان صوتها بقي منخفضا واهنا:

-قلت لك إذهب لتتفقدها.... لماذا لم تفعل؟

التفت أبوه نحوها وقد اكتست ملامحه بتعابير لم يشهدها من قبل، لم يسبق له أن رأى أباه بمثل هذا الإنكسار، وهذا الأسف:

-وما أدراني أنها ستموت... أنت تعرفين تصرفات أمك. لقد أغلقت باب الحمام خلفها... لماذا لم تذهبي أنت؟ لقد ذهبت أنا حين تأخرت كثيرا...

وصمت مقطبا وهو يضغط بشفته السفلى على شاربيه. قال بلهجة آمرة:

-هذا الكلام لم يعد مجديا... أكملي ودعينا نتوكل على الله.

مسحت عينيها بردن ثوبها وزررت قميص بلال ثم أمسكته من زنده وقادته الى صنبور المياه عند الحوض قرب الباب الخارجي. غسلت وجهه وجففته بمنديل، وبينما كانت تمسح وجهه حانت منه نظرة فرأى شقيقاته من خلال الباب المفتوح كلهن جالسات جنبا الى جنب في فراشهن، واجمات وقد غطين أرجلهن بالبطانية. كن كالتماثيل الجامدة لا تبدر منهن حركة بل يراقبن بعيونهن فقط، أما شقيقه الصغير ذو السنتين فقد كان يغط في نوم عميق.

****

الماسحات تزيح يمينا ويسارا قطرات المطر التي تبدو كأنها تنبثق فجأة من الزجاج الأمامي ذاته، والسيارة الفورد ذات المقاعد العشرة تقطع بهديرها طريقها من مجمع البيوت الى الشارع العام. الماسحات، بحركتها الإيقاعية، تزيح جانبا الصورة المترجرجة للنخيل وأشجار اليوكالبتوس لتحل محلها للحظة فقط صورة النخيل واليوكالبتوس على خلفية الغبش الأزرق ثم تثقِّبها القطرات مرة أخرى. يجلس بلال في المقعد الأمامي الوحيد الذي يفصل غطاء المحرك بينه وبين مقعد السائق حيث يجلس أبوه واجما. يميل جانبا وهو يتحسس بجسده الدفء الذي بدأ يسري في الغطاء الحديدي، ويغمض عينيه تارة رغبة في النوم وتارة يفتحهما عارفا باستحالة أن ينام على هذه الحال. يستشعر خدر الجسد المحروم من الراحة، ينتبه الى صعود السيارة الى الشارع العام وكأنها تريد أن تنقلب الى الخلف ثم تعتدل وتستدير، ينظر الى الأشجار التي تحف بالطريق المعبد من الجانبين وهي تقطر وتتلألأ على ضوء مصابيح السيارة، من خلال زجاج الباب يرقب الأشكال الخضراء القاتمة تزداد سرعة وهي تنقذف مارقة ومعها أضواء دور على مبعدة تتابع، أسند صدغه الى الزجاج فسرت برودته الى جبهته، وأخذ يضرب وجهه تيار هواء لطيف. لم يكن يريد التفكير بشيء، حتى بموت جدته، كل ما كان يريده أن يسمح له أبوه بأن ينزل من السيارة ويسير على غير هدى أو غاية يبتغيها سوى أن يفضي به المسير الى برية كالتي كانت جدته تقوده اليها حين تذهب به الى أقرباء لها، برية خالية حتى من الأشجار، وبين الحين والآخر يصادف سحلية يتوقف ليراقبها تنساب بين الأحجار والحشائش أو يعبر مساحة يكثر فيها الحصى فيقرفص ليجمع حصيات ملونة أو ذات أشكال مميزة، وجدته واقفة على مبعدة تنتظره ثم تحثه على الإسراع. لكنه هذه المرة لا يرغب بجمع الحصى ولا أن يدلي بقدميه في ماء النهر الواسع فيحركهما يمنة ويسرة ويرفعهما ثم يغمرهما هكذا الى أن ينفد صبر جدته فيعبر نحوها راكضا قنطرة جذوع النخيل. لا... لا يريد سوى أن يتوجه نحو أفق تلك البرية البعيد المرتفع الذي طالما تساءل ما الذي يوجد بعده... أفق لا يرتسم عليه شيء، مجرد خط قليل الإنحناءات، وبعده الفضاء. لكن ذلك الفراغ الأزرق المليء بالأسرار بالنسبة الى عقله الغض هو ما كان يتأمله تواقا الى فضه والنفاذ الى عالم آخر غير الذي هو فيه، عالم لا يمكنه أن يتخيل ما يمكن أن ينطوي عليه، غير أن كل احتمال كان من قبل مثيرا يملأ قلبه بالرهبة هو الآن، بعد موت جدته، مطمئن، مرحب، ينطوي على خلاص مجهول.

يفز على صوت أبيه يقول:

- كما قلت لك... تنتظر سيارة ركاب آتية من ديالى تمر من مفرق تل محمد فتركب الى الباب الشرقي ثم الى علاوي الحلة. هل تذكر الحاج بداي؟ الرجل الذي يسألك حزورات دائما ويمازحك كلما إصطحبتك معي اليه. ستجده قد فتح محله للتو. سلم لي عليه وأخبره بوفاة جدتك وسيأخذك بسيارته الى أخوالك في اليوسفية ليأتوا الينا....

يسكت كأنه يمنحه الفرصة لإستيعاب كل هذه التفاصيل:

-قل شيئا... قل فهمت.

يتأتئ بلال بأحرف ويهز رأسه بالإيجاب.

يضغط أبوه على طاقيته البيضاء جيدا ليثبتها على رأسه..

-أما أنا فسأذهب نحو خان بني سعد لأخبر أعمامك... لن أتأخر.... لا بد من أن يكونوا حاضرين قبل أن نقوم بأي شيء....

يلتفت اليه ويتأمل هندامه ثم يمد يده ليعدل له ياقته...

-النقود التي معك كافية وزيادة...

ويربت بيده على جيب بلال ليتأكد من أنه وضعها في جيبه عندما أعطاها له في البيت قبل أن يذهب ليرتدي بنطاله وقميصه ويعتمر طاقيته التي لا تفارقه سواء لبس الدشداشة أو لبس البنطال والقميص.

لم يعد لدى الأب ما يتحدث به ويرين صمت داخل السيارة، صمت يطرزه هدير المحرك الذي يأتيه عبر الغطاء مع نفثات من الهواء الحار عبر فتحة ما.

****

ينزل من الفورد في مفرق تل محمد بعد أن يكرر عليه أبوه قوله المشجع:

-أعتمد عليك....عفيه إبني السبع!

ويسير بالسيارة مبتعدا باتجاه تل محمد.

لا تزال بقايا من عتمة تخالط ضوء عمود الكهرباء الشاحب في وسط المفرق، والذي يقف الى الجهة الأخرى منه على طريق الكرادة حارسان ليليان يرتديان معطفين مطريين طويلين يغطيان كامل جسميهما تقريبا وهما يعلقان على كتفيهما في وضع مقلوب بندقيتين طويلتي الماسورة. يبدوان وكأنهما ينظران اليه من بعيد عندما ينزل من السيارة ويراقبانه يقترب من العمود ويصعد الرصيف، عند تقاطع الطرق، ليحتمي بشجرة السدر من النثيث المتواصل. يصرفان النظر عنه ويمشيان مبتعدين. يجلس هو على قطعة من الإسمنت موضوعة عند جذع الشجرة ويتلفت حوله... لا شيء يتحرك، لا أحد يبين غير الحارسين السائرين مبتعدين باتجاه الكرادة، أصوات محركات سيارات بعيدة لا يراها بدأت تتناهى اليه. في تلك اللحظة يلمح على مبعدة شيئا يتحرك عند شجيرة في جزرة وسطية، يخرج الشيء وتتضح هيأته فيتبين أنه كلب، يتبعه ثان، وثالث. تصبح الكلاب الثلاثة وسط الشارع، تدور حول بعضها البعض قليلا، وتتبادل القفزات، والضربات العابثة بقوائمها الأمامية، ثم تتوقف فجأة لتلتفت وتنظر الى حيث يجلس بلال، تثبت في مكانها وترفع رؤوسها باهتمام، يقطع أحدها هذا الجمود ويتحرك باتجاه بلال، يمشي الهوينى مقتربا، يتبعه الكلبان الآخران. يعصره الخوف، ودون أن يتحرك من مجلسه، أو يحول نظره عن الكلب، يمد يده متحسسا الأرض باحثا عن حجر فلا يجد فوق الرصيف من حوله سوى أوراق الشجرة المبللة. لا يبتعد أو ينهض خشية أن يحفز الكلاب للإسراع نحوه والهجوم عليه. ينظر الى الحارسين اللذين أصبحا بعيدين، يحاول أن يفتح فمه ويصيح ولكنه لا يفلح سوى في إسماع نفسه كلمة "كلاب"!

2016
نشرت في مجلة الأديب العراقي، مجلة اتحاد ادباء وكتاب العراق، العدد الخاص بالقصة القصيرة. وفي مجموعة (فك الحزن) 2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى