كاملة بدارنة - إمتحان.. قصة قصيرة

أَفَقْتُ مُسْتَغرِبًا انزِعَاجَ أُمِّي وَحَوْقَلَتَهَا... نَظَرْتُ إلى عَقارِبِ السّاعَةِ، فَأَدْرَكْتُ السَّبَبَ .
كانَ نَومي عَمِيقًا؛ لِأنّي قَضَيْتُ مُعْظَمَ سَاعَاتِ اللّيْلِ مُقَلِّبًا صَفَحاتٍ كَثيرَةً؛ سَأُمْتَحَنُ فيها اليَوْمَ الامْتِحانَ النِّهائِيَّ لِلمَرْحَلَةِ الثّانَوِيَّةِ .
طَلَبْتُ مِن والِدَتي المُسامَحَةَ عَلى ما سَبَّبْتُهُ لَها مِنْ إِجْهادٍ في إيقاظي ... وَكَيْفَ لا.. وَهِيَ وَوالِدي قَدْ رَعَياني جيّدا، وغَرَسَا في داخِلي شَجَرَةَ مَحَبَّةِ العِلْمِ، وَسَقَياها بِماءِ التَّشْجيعِ، وَرَعَياها بِدُرَرِ الأَدْعِيَةِ ؟... وَبَعْدَما رَبَّتَتْ عَلى كَتِفي، طَمِعْتُ مِنْها بِالدُّعاءِ؛ كَي يُسَهِلَّ اللهُ أمْري " سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" .
جَلَسْتُ في غُرْفَةٍ أَحْسَسْتُ ضيقَهَا؛ رُغْمَ اتِّساعِها؛ ساحِبًا مِلَفّاتٍ عَديدَةً مِنْ مَكنوناتِ ذاكِرَتي لِلمُراجَعَةِ؛ وَقابِضًا عَلَى قَلَمي بِيَدَيْنِ مُرْتَجِفَتَيْنِ... حَتَّى اسْتَلَمْتُ دَفْتَرَ الفَحْصِ. قَلَّبْتُ وَرَقاتِهِ دونَما تَرْكيزٍ؛ كَي أُخَفِّفَ عَن نَفْسِي جَزَعَها !
بَدَأْتُ رِحْلَتي الكِتابِيَّةَ بِالوَرَقَةِ الأولى " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ".
تَنَفَّسْتُ الصُّعَداءَ بَعْدَ إِنْهاءِ تَفْكيكِ رُموزِ الوَرَقَةِ الأولى دونَ صُعوباتٍ " الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العالَمينَ" .
تَخْتَرِقُ أُذُنَيَّ هَمَساتُ جاري الذي يَطْلُبُ مِنّي الالتِفاتَ إِلَيْهِ، فيما أَفْكاري تَتَلاطَمُ أَمْواجُها في بَحْرِ حِبْرِ الأَوْراقِ . لَمْ أُعِرْهُ اهتِمامًا، فَرَفَعَ صَوْتَهُ... لا أَرْغَبُ في جَزْرِ مَوْجِ فِكري بَعْدَ هُدوئِهِ، والاسْتِجابَةِ لِإزْعاجِهِ
" اللهُ أَكْبَرُ"
لكِنَّ نَغَماتِ صَوْتِهِ الحَزينِ، وَكَلِماتِهِ التي سُمِعَتْ كَالحَشْرَجَةِ، قَطَعَتْ عَلَيَّ التَّرْكيزَ، وَأَضْعَفَتْ مَقْدِرَتي عَلى الصُّمودِ دونَ الالتِفاتِ إِلَيْهِ ... وَإِذْ بِيَدٍ ضَخْمَةٍ تُمْسِكُ راحَتُها بِعُنُقي، وَتُديرُ رَأسِي، فيما أَصابِعُ اليَدِ الثّانِيَةِ تَنْتَزِعُ اليَراعَ مِن يَدي، وَتَرْسِمُ إِشارَةَ تَنْبيهٍ وَتَحذيرٍ لي !
اجْتاحَتْني رَغْبَةٌ جارِفَةٌ في لَكْمِ الرَّجُلِ؛ لكِنَّني تَذَكَّرْتُ دُعاءَ والِدَتي لي بالاصْطِبارِ، ومُناجاتَها لِرَبِّها؛ داعِيَةً إِيّاهُ أَنْ يُوَفِّقَني... وَتُتْبِعُ دُعاءَها بِنَذْرٍ في قَضاءِ مُعْظَمِ وَقْتِها لِفَضْلِ رَبِّها حامِدَةً شاكِرَةً ." رَبَّنا وَلَكَ الحَمْدُ ".
عاوَدْتُ الكِتابَةَ بَعْدَ زَوالِ انتِفاخِ أَوْداجي ، وَتَوَقُّفِ جِسمي عَنْ تَحريكِ الكُرْسِيّ، وَما هِيَ إِلّا دَقائِقُ حَتَّى عاوَدَ جاري استِغاثَتَهُ و استِجْداءَهُ .
ماذا سَأَفْعَلُ ؟ ...أَنا لا أعْرِفُ مُبْتَغاهُ ، وَلا أَجْرُؤُ على الالتِفاتِ ثانِيَةً ... سَأَخْسَرُ امتِحاني!...
إِنْ كانَ يَطلُبُ مُساعَدَةً في الحَلِّ، فَأَنا لا أَستَطيعُ تَلبِيَةَ رَغْبَتِهِ؛ لِأَنَّ في ذلكَ غِشًّا..." لَكُم دينُكُم وَلي دينٌ".
عَزَمْتُ عَلى مُواصَلَةِ الكِتابَةِ، وَقَرَّرْتُ صَمَّ أُذُنَيَّ اللتَيْنِ يُزْعِجُهُما صَوْتُ جاري، وَأَزيزُ كُرسِيِّهِ، حينَ تَذَكَّرْتُ وُعودي وَتَعَهُّداتي بِالنَّجاحِ.
انتَهى وَقْتُ الامتِحانِ. "اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد " .
غادَرْنا القاعَةَ وَالضَّوضاءُ والجَلَبَةُ، يُضاعِفُهُما اتِّساعُ المَكانِ، وَإِذ بِطالِبٍ يُضَيِّقُ عَلَيَّ الطَّريقَ، وَيَرْمِقُني بِنَظَراتٍ غَريبَة أَو قُلْ حَزينَة ... سَأَلتُهُ عَن أَمرِهِ ، فَأَجابَ وَعَيناهُ مُغرَوْرِقَتانِ بِدُموعٍ غاضِبَةٍ، وَناظِرَتانِ إلى زُجاجَةِ الماءِ التي بِيَدي: أَسْتَكثَرْتَ أنْ تَتَكَرّمَ عَلَيَّ بِجَرعَةِ ماءٍ تُرَطِّبُ جَفافَ حَلقي، وَتُخَفِّفُ من تَوَتُّري؟!...
لَقَد نادَيتُكَ مِرارًا، وَلكنَّ حِرصَكَ وَأَنانِيَّتَكَ مَنعاكَ مِن مَعرِفَةِ ما أَحْتاجُ، وَأَنتَ الذي تَدَّعي مُساعَدَةَ الآخَرينَ! . " السّلامُ عَلينا وَعَلى عِبادِ اللهِ الصّالِحين"
هَوْلُ المَوقِفِ أَخْرَسَ لِساني، وَلَن يُنْجِدَني ما سَأُحاوِلُ التّلَفُّظَ بِهِ!. لَقَدْ خَضَعْتُ عَقلًا وَقَلبًا لِتَنبيهِ مُراقِبٍ، لَم يَتَعدَّ بِضعَ نِقاطٍ من حِبْرٍ، وَلَم أَعِرِ اهتِمامي لِنِداءاتِ زَميلي التي كرَّرَها مَلهوفًا .
لَمْ أَجِدْ مِن مَخْرَجٍ سِوى الاعتِذارِ؛ مُتَّخِذًا مِن تَهديدِ المُراقِبِ ذَريعَةً؛ وَموقِنًا عَدَمَ تَقَبُّلِهِ لَهُ .
حِمْلٌ مِن التَّأنيبِ أُلقِيَ على كاهِلِ ضَميري، وَلَمْ يُغادِرْني ...
وَصَلْتُ البَيْتَ وَحِبالُ تَفكيري تُجَرحِرُني نَحْوَ عَوالِمَ غَريبَةٍ... " أَشهَدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ" ...
تَحرَّكَتْ سَبّابَةُ أَنامِلي، فانتَبَهْتُ أنّي في المَراحِلِ الأَخيرَةِ من صَلاتي ...
وَوَجَدْتُني مُضطَرًا أَن أَعودَ وَأَبدَأؤها مِن جَديدٍ.!

* كاملة بدارنه - فلسطين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى