إدريس حافظ الطلبي - خريطاليا.. قصة قصيرة

ما أن تصله نحنحة قوية وسعال متقطع من الغرفة المجاورة ، حتى يستجمع وقفته ويرمي بالبطانية جانبا دون تثاؤب أو طرطقة عضلات ، يرتدي الجلباب ويضع الطاقية على رأسه يهب نحو المذياع الذي يطلع منه صوت مذيع يتحدث عن الصيد البري ومباهجه . لم يترك للمذيع فرصة لإتمام رحلته عبر غابات الدنيا . أدار المؤشر نحو محطة أخرى لم يسمع إلا خشخشات وطنينا حادا. أغلق المذياع وندم على ثمن البطاريات التي يستولي عليها هذا المستهلك الجحود . ولا أغنية جميلة تزيل عنه كوابيس الليلة الماضية ولا كلاما جميلا يدخل البهجة على قلبه الحزين وتقوى على رد نحنحات أبيه المقصودة ، هذا الرع الجديد الذي يرابض بالمنزل يتربص له ويحرسه ويرصد كل حركاته .يجب أن يفعل شيئا ما ، كأن يكتري غرفة لنفسه خارج هذه الدار المرصودة فما يفعله السيد أبوه لا طاقة له به .
ما معنى أن يتنحنح ويكح بدون مناسبة؟
ما معنى أن يحمل المقراج حتى بعد أن يكون قد أنهى الوضوء وصلى وتنفل؟
ما معنى أن يمكث في المرحاض أكثر من ساعة وكأنه في قاعة عمليات جراحية..؟
كل شيء مقصود إذن . ولا بد من المواجهة . ولكن مع من ؟ مع أبيه . هل يشكو الأمر إلى أمه المكومة في إحدى الأضرحة منذ مدة بعد أن فقدت عقلها بين يوم وليلة . هل يكتب رسالة أخرى إلى أخته الزاهية التي توجد بديار الغربة بعد أن أغواها النصراني العدو الكافر بالله . وأقسم لها بالإنجيل بأنه سيردها كلبة ويمسح بها أرض الطاليان إن هي كتبت رسالة أو حاولت الاتصال بالبقية الباقية من أسرتها .
النصراني ولد الكلب عندما جاء عندهم أول مرة كان مثل الملاك كما كانت تقول أم الزاهية , لا يفعل أي شيء حتى يشاور الزاهية فيه . كان يترهبن . ولد اللخ – حتى تمكن وها هو الآن تفرعن وتسلطن ، قطع البحر ونشفت مؤخرته . ولكن حتى أخته الزاهية قادرة أن تفعل العجب . ستجعله يتعثر في تلابيبه وستطعمه الأحذية و" التلاميط" وتحرق له " الشراويط" ، إنها خريجة مدارس الشعوذة , وسحر المسلمين أقوى من سحر النصارى كما كانت تقول أمه . ولا بد أن تعود الزاهية لتضع حدا لمشكلته مع أبيه . تحمل كلام الناس وصبر على وخزاتهم : هل أعذرتم النصراني الذي تزوج الزاهية ؟ هل يساعدك في الحصول على الأوراق لكي تسافر إلى ايطاليا ؟ لقد أصبح موضع سخرية الكل يشير إليه هذا هو أخ الزاهية البنت التي ضحك عليها الطالياني .
حتى هو عاف نفسه يشتمها ويؤنبها كيف سمح بهذا ؟ كيف أصبح قوادا بأوراق رسمية ؟ ولكن الأيام المنكوحة هي التي جعلته يتساهل منذ البداية ، أغرته القفة المملوءة بشتى أصناف اللحوم والخضر والفواكه ، وهو الذي لم يألف اللحم حتى أصبح له منه موقف خاص . النعمة جاءت إلى دارهم في حبال الكتان المعطر هل يردها ؟ وهو الذي كان كلما عاد إلى المنزل إلا وسمع نفس العبارة : أن عشاءك في البراد وغذاءك في البراد حتى أطلقوا عليهم في الدرب – دار البراد- كيف يأتي النصراني محملا بما لذ وطاب ويرده ويقف وقفة رجل شهم أبي ويقول له : يا أيها النصراني اذهب لتلعب أمام باب داركم وإن لم تذهب سأفرج فيك أولاد المسلمين . أنا أزوج أختي لكلب جمدت رجولته أكوام الجليد! الكرامة ، الشرف ، النخوة ، وهل سيأكل الكرامة محمرة محشوة بقليل من النخوة في صحن من شجاعة؟! ، فسيارة الطالياني كانت كاليخت وهي تشق مستنقعات درب الزاهية .. سامح الله الناس وكلامهم هكذا هم إن لم يصلوا شيئا قالوا أف ما لنا به حاجة . حل الخير وتدفقت البركة بدار الزاهية بمجيء الطالياني أرسل السي إبراهيم إلى الحج . وأغرق الضاوية . زوج الحاج إبراهيم في وسخ الدنيا ، أما أخ الزاهية فأصبح يدخن أرفع ما في أكشاك الدخان ومرة مرة يسوق سيارة الطالياني ويرافق أخته: حج وزيارة!
إن التقى أحدهم وسأله عن الأحوال يقول له: لم تبق لي إلا أيام معدودات وسأكون وسط روما . ويستدرك لكن هناك بعض الإجراءات الروتينية ويغير مجرى الحديث ويقدم للسائل سيجارة من العلبة المعلومة كأمارة من أمارات التحول المفاجيء .
وتوادعوا مع الزاهية وزوجها ، بكى من بكى وانتحبت من انتحبت إلا هو لم يبك ولم ينتحب ولكنه أوصى الطالياني وأكثر بلغة متعثرة وإيماءات مفضوحة كأنه ممثل صعد الركح لأول مرة .. أعطى الزاهية كل أرقام الهواتف التي يعرف أصحابها وأوصاها بأن تتدبر الأمر . بمجرد ما أن تطأ رجلاها أرض البابا , جواز السفر موجود النقود ,للا الضاوية في الذمة .
الزن الدارالبيضاء الطق روما ... ونبينا عليه السلام.. والطائرة تفك جميع المشاكل ما شأنه هو والباخرة وعمالها المضربين حتى إسبانيا لا يحبها أما الفرنسيون فهم ثرثارون !!!. عندما سيكون داخل الطائرة يستطيع أن يتمخط.. عليهم المهم هو أن يصل إلى ايطاليا عند – إخوتنا – كما كان يسميهم : لقد عانوا من الجوع والمرض والفقر وعندما أسعفتهم الأيام لم ينسوا ذلك يتألمون للمريض ويحبون الفقير ويعطفون على المحتاج هذا هو السبب الذي جعله يحب الطاليان . الطاليان . ولا شيء غير الطاليان... ومر الأسبوع الأول على رحيل الزاهية لم يتلق خلاله أية مكالمة أو رسالة بدأت الوساوس تنهشه . ولكنه وجد لها المبررات . ربما أخته مريضة . ربما مات أبو الطالياني .. لا محالة سيأتي ساعي البريد يحمل إليه ورقة الخلاص . المهم الآن هو الذهاب فكل من دخل ايطاليا فهو آمن يؤكد هذا لكل من التقاه واستفسره عن أحواله وعن سفريته القادمة ، معلوم كل من دخلها آمن . فما معنى أن تذهب أول الأمر وزادك جواز سفر وحقيبة يد بلاستيكية وقليل من البقشيش وتعود بعد عام وأنت تركب سيارة كالسمكة مكوما داخلها وفوقها كل ما تعشقه النفس دواليب من خشب نفيس ، زرابي تركية ثلاجات أطقام الصحون الطاوسية والملاعق الفضية بالإضافة إلى الليرة وما أدراك ما الليرة التي ستفتح لك الطريق من أول مخفر عبور حتى دوارك المتواضع , لتصبح رجل أعمال في رمشة عين وإن مررت في شوارع مدينتك أو أمام ثانوياتها سيقولون عنك : هذا هو الولد الذي كان ربنا خلقتنا !!.
هذا هو الولد الذي كافح وذهب إلى "الجنة" وعاد وهو يزين عنقه بسلسلة ذهبية يتوسطها صليب منقوش و يرسل على كتفيه ظفيرة كأنه متعهد حفلات لإحدى الفرق الغنائية المبتدئة . يضع في كل أصبع من أصابع يديه خاتمين ذهبيين وإذا كان الناس على سجيتهم يزيدون في تقولاتهم لقد تصاهر مع رئيس المافيا . أو كتبت له طليانية في آخر أيامها كلما تملك وقالت له : أنت أنت ولا أحد غيرك منك الموت ومنك الحياة، وبعد أن تكون قد ذاقت حلاوة هذا الآتي من فضاء حار !
أكحل الرأس يكذب كذبة ويصدقها . ولكن من فتح منقاره فكل الطرق تؤدي إلى روما . والله يرحم الشيخة التي قالت : مزينها عومة فيك ياروما . ماذا من شبان مشاو للطاليان فهل كل من نفخ بالكير يعد حدادا؟؟؟
ايطاليا ياولد المنسية لأصحاب الأكباد القاسية !!
هل تستطيع أنت أن تأكل لحم الخنزير؟؟ هذه قد تفعلها يا ولد " الإيه " أعرفك لا دنيا ولا دين !!
انتظر؟ ! هل تستطيع أن تنام مع قبيلة داخل غرفة عرضها عرض علبة سردين ؟؟
أجبني إذن يا ابن الفاعلة هل تستطيع أنت أن تمرر توأمين عبر الحدود التي لا ينام حرسها بجواز سفر واحد ؟
لماذا أدرت خيشومك ؟؟ هل في قدرتك يا عيفة الرجال أن تصدر أطفالا في أعمار الزهور وتشتتهم على أعتاب الكنائس وفي الطرقات وفي المساء تضرب ضربتك وتنفح الصبيان بقطع من الشوكولاطة فات أوان استهلاكها ؟؟
قد تقول هذه شطارة زائدة !!! فلتعلم أنه إذا ما كان أحد زائد فوق هذه الكرة الأرضية فهو أنت . فوقر أسيادك وملط فاك وقاك الرب شرور الغربة وأتعاب السفر .
هل في مقدرتك أنت أن تجلب آخر ما أبدعته المصانع من سيارات كل شهر وتنشيء سوقا بسماسرته ومواقفه ؟؟
. قلت لك يا أخا الزاهية أن ايطاليا خلقت للقلوب القوية .
أما أنت يا أبن أمك فارتزق من عرق الخصية .. حتى يزيح الرب عنك الحمى التي ركبتك ورابض بالمقهى دخن السجائر بالتقسيط وقارن بين مؤخرات الخارجات من الحمام أيهن اكبر ؟ استظهر نفسك لعل ذاكرتك المثقوبة تسعفك لحل شبكة من شبكات الكلمات المتقاطعة كحظك المقرفص . ونظر للهجرة وأثرها على الاقتصاد العالمي والتنمية الاجتماعية والتحولات الجنسية . انظر إلى بعض بنات حواء وهن يتأملن أرقام السيارات فإن وجدنها تحمل أرقام محلية رفعن رؤوسهن وتمنعن ولو كان السائق خريج كلية فضاء . وإن كانت السيارة تحمل أرقام " الجنة " التي دوخت عقلك يفتحن الأبواب ويركبن .. أعرف .. ستقول فاعلات طازجات و.. والزاهية ماذا تفعل هناك ؟ ! تصلي على سجادة النمر !!!
آه لو جاء ساعي البريد ماذا كان سيحدث ؟ أي كرم ستجود به تلك الديار ; لعنة الرب على الطالياني والزاهية الفاجرة كل هذا الوقت من أجل الورقة العفريتة سينتظر العمر كله أما ايطاليا فلا بد منها ولا مفر .
هو الوحيد الذي لا يصدق ما يقال حول الهجرة إلى بلاد العجم التي لم تعد راغبة في المزيد من الأفواه الباحثة عن فرصة حياة والأيادي الجميلة التي تنظف المواسير من روث الروم .
يا له من زمن غدار !! استيقظ يا جدي يا من لا حقت المستعمر لترغمه على الخروج من البلاد وانظر إلى حفيدك المبلل الكتفين الذي سخي بكل شيء من أجل الذهاب إلى هناك وامسح دموع هذا الذي يبكي من أجل هذه الإيطاليا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى