علياء الداية - نورا

السماء مكفهرة ملبّدة بالغيوم, ولكنني مع ذلك مضيت إلى كشك الهاتف وسط المدينة, هذا الطقس لن يشجّع الكثيرين على الازدحام أمامه. أخيرًا جاء صوتها: آآلو...مَن يتكلّم?!

اه, يا للصوت المخيف, مشوّش, لكنه مرتجف يهتزّ في إيقاع مرعب, كأنه صوت حقيقي لشبح قادم من العالم الآخر! ماذا أفعل?

- آآآآآلو....

قررت المضي قدمًا لأنني قد أفقد الخطّ, إنها تهنئة سريعة على كل حال, ولن أطيل, ليس معي ما يكفي من قطع النقود المعدنية للآلة.

- أمي, كل عام وأنت بخير...هل تسمعينني?

- آآآه, نورااااا!

- ما....

يقاطعني الصوت القادم:

- أين اختفيت يا نورا يا ابنتي?

هل قالت نورا? ربما لم أسمع جيدًا بسبب الخط الرديء هذا.

- كل عام وأنت بخير يا أمي.

- بخير? أي خير هذاااااا? بعد أن تركتني وحيدة?

حسنًا, الخط يصبح أوضح قليلاً الآن, لاشك أنها ليست أمي, إنه تشابك الخطوط مجددًا. أهم بإقفال السماعة ولكن يتناهى إلى سمعي بكاء.

- أخيرًا يا نورا خطر في بالك الاطمئنان على أمك المريضة! لاشكّ أن لديك الآن طفلاً أو أكثر, أحفادي الجدد!

- ولكنني لست نورا, أنا بانة.

- آه, أنت صديقتها التي حرّضتها على السفر, حسنًا قولي لنورا أن إخوتها تركوني هم أيضًا, سافروا فلا أراهم سوى مرة في العام! كم أنا وحيدة وحزينة.

هل هي عجوز خرفة? ماذا أفعل? إنها حزينة كما تقول, سأحاول أن أشرح لها. لكن الخط يسوء مجددًا, وأسمع أناسًا آخرين بكلام مبهم بعيد. عبر زجاج الكشك تبدو كتل الغيوم متقاربة في مساء مارس. ستمطر, حسن أن المظلة جاهزة معي, يعود صوتها سائلاً:

- ماذا قلت? لا أسمع جيدًا.

- لاشيء, إنه الخط يتداخل مع آخر.

- أين أنت يا نورا?

- أنا بانة, إنها مكالمة خارجية.

- آه, نعم, كم أنت بعيدة إذن, ولا تفكرين بزيارتي.

ويعود صوت البكاء مجددًا - كيف أنتهي من هذه الورطة? كانت الأضواء قد أخذت تبدو أكثر لمعانًا وتوهجًا مع خيمة المساء التي تهبط على الشارع وما فيه. لم يبق معي سوى قطعة معدنية واحدة, إنه التحذير مجددًا, سينقطع الخط, أضيف آخر ما تبقى معي, لنر, سأكمل الجولة لا مفرّ.

- يا سيدتي, أنا لست نورا.

- مَن أنت? صديقتها? لماذا لا تتحدث هي معي? أريد أن أسمع صوتها...أخبريها أن...

وانقطع الخط...لاشيء الآن سوى الصمت الذي يبتلع جهاز الهاتف, هذا ما تبقى لي: تهنئة مميزة لوالدة بعيدة في عيد الأم!

أخرج من كشك الهاتف هذا, المطر ينهمر غزيرًا, بينما تمرّ السيارات والحافلات مزهوّة بأنوارها: صفراء, بيضاء, حمراء, يتطاير رذاذ مياه الأمطار مع حركة عجلاتها على الأرض. أقف بانتظار فرصة لعبور الشارع, بينما كان القطار الطويل مطلقًا نفيره المستمر الشبيه برنة هاتف حزين. عبرت بقربي فتاة احتواها الكشك ذاته, تدير الأرقام الأولى, مَن يدري? لعلها تكون نورا!.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى