نور محمد مؤيد الجندلي - ظلّ في الثلج.. قصة قصيرة

أخيراً أطلّ صاحب الرداء الأبيض سخياً من السماء ، ها هو يفرضُ حُلّته البهيّة على الأرض ، فتكتسي بها بكل امتثال ، وتغدو أجمل !

قريباً .. لن أرى شيئاً سوى الأبيض النقي ..

وسيحلو لي في النهار السير في غير طريق ، وسألهو بكرات الثلج أقذفها في وجوه المارّة ، وسأضحك عليهم كثيراً وأنا أشاهد الوجوه الغاضبة ، ولم الغضب ، فالثلج يعني المرح .. !

سأقضي الليل قرب المدفأة أحتسي فنجان شاي بالليمون ، وأقرأ في مذكرات جدتي التي عثرت عليها مؤخراً في صندوق خشبي قديم ، هناك في العلّية ، لم يكتشفه أحد غيري ، ولم أخبر به بعد أحداً من عائلتي كي لا يقاسموني المتعة في قراءته ... ياه ما أجمل الحياة حين نستمتع بكل تفاصيلها ..

طلع النهار ......... من دون شمس ! ولأول مرّة أحبُّ النهار من دون شمس !

الثلج مازال يندف ، وأعمالي تنتظرني أمام المكتب ..

خرجت أتعثّر بثيابي الثقيلة ، أمشي بصعوبة فوق الثلج ، اختفت معالم الطريق الفرعي ، كيف سأصل ؟ لا يهم ، لا يهم أيّ طريق سلكت .. المهم أن أصل في النهاية .

سرتُ بمرح نحو الطريق العام ، تارة أسير يمنة وتارة أسير يسرة ، ألطخ وجوه الناس بالثلج وأقول لهم سلامٌ عليكم ، صباح الخير !!

فيكتفون بالنظر ولا يردّون ..

كانت الطريق مقطوعة ، اضطررت للعودة أدراجي في إجازة اضطرارية منحت لي بسبب الظروف الجوّية ..

لوهلة .. ظننتُ بأنّ أحداً ما يتبعني ، تلفّتُ خلفي ، لا أحد في المكان !

تابعت السّير ، أشعرُ به يسير خلفي تماماً ، ينظر إليّ ، يراقب حركاتي وسكناتي ، ترى من هذا الأحمق الذي يودّ ممازحتي بهذا الأسلوب الفظّ؟

تلفّتُّ فجأة وبسرعة خاطفة ..... لا أحد !

ارتعدت أطرافي خوفاً .. أوّلُ مرّة أشعرُ بالخوف ، وأحسبُ حساب خطواتي ..

ترى .. من يكون هذا الشبح ، وماذا يريد مني ؟ لم يتخفّ عني بهذه الطريقة ، ألكي يراقبني بشكلٍ أفضل ؟

بتُّ متأكداً بأنه ليس خيالاً ولا وهماً ! إنه ظلٌّ لشيء أعرفه ، ولكنني الآن عاجز عن تحديده ..

باتت خطواتي ملفتة للنظر ، كلما خطوت خطوة ، نظرت ورائي ، ثم تابعت سيري كالمصاب بمسّ ..!

آثار أقدامي المغروسة في الثلج أصبحت لي همّاً ثقيلاً ، تمنيت لو أدفن كلّ خطوة أخطوها كي لا يسير هو بسهولة فوق خطواتي ..

تمنيتُ لو لم أخرج من البيت ، لو لم أسِر في هذا الطريق ، ولا في أيّ طريق ، كي يكفّ عنّي ..

إنه يعرفني جيّداً ، ومنذ زمن طويل يراقبني ، يحفظ حركاتي ، يفهم سكناتي ، لكنني لم أتنبّه له إلا بوجود الثّلج ، حيث يطغى السكون على الأرض ، وعلى قلوب البشر ، فتلحظُ أشياءً ما كانت لتلحظها يوماً ، وتتأملُ الأرض بعمقٍ ، كما لم تتأملها من قبل !

كنتُ أظنُّ بأن اليوم لي هو بداية مرح ، ولهو وعبث ، خططت أن أسلك كل الاتجاهات فلا أهتم للاتجاه الصحيح أياً كان موقعه ، وأن ألهو دون مراقبة أحد ، وها أنا الآن مقيّد بقيد مخيف ، لا يمكنني حتى رؤيته أو اكتشافه ..

عدتُ إلى البيت ، ألقيتُ بنفسي قرب المدفأة ، قررت أن أتسلّح بالحذر في الغد ، قررتُ مباغتته حتى يستسلم ، فأمسكه ، وأحقق معه ، ويعترف لي بمخططاته ..

ولن يسلم أبداً منّي ...

وقفتُ قرب النافذة أرقب الثلج ، في داخلي غضب أرعن ، قهر ورغبة في انتقام ..

كان في داخلي خوفٌ كبير من اكتشافه .. أو أن يكونَ شبحاً لا يظهر إلا مع هطل الثلج ، وسيتلاشى بتوقّفه ..

في اليوم التالي .. تعمدتُ الخروج من المنزل ..

كانت السماء صافية ، غير أنّ الأرض بيضاء ترتدي حُلة الطهر ، سرتُ قليلاً حول سور المنزل ، تفقدت المكان بحرص ، وشعرتُ به يتبعني .. بل شعرت بابتسامة الانتصار قد انطبعت على طيفه ، وقد حدّ من اندفاعي وتهوّري وعبثي ..

حاولتُ الركض هرباً ، أبطأتُ قليلاً ، وقفتُ كثيراً ، وبكيتُ أكثر !

لا فكاك من شبح الثلج هذا إلا برحيل الثلج ......... هكذا اعتقدت !

بدأت تثلج من جديد ... يبدو أنه لن يتوقف هذه الليلة ، شعرت وكأنَّ الثلج يمتدُّ إلى شراييني ، ويجلّد دمي .

بعنادٍ سافرٍ وقفت ، ومشيتُ متحاملاً على نفسي إلى الداخل ، أشعلت النار ، وأغمضتُ عينيّ مسترخياً أحاولُ السيطرة على أعصابي . فكّرتُ أن أشغل تفكيري بشيءٍ آخر .. سرعان ما لاحت لي مذكرات جدتي الحبيبة ، قفزتُ إلى العلّية وأحضرتها ، ومع فنجان الشاي المعطّر بالليمون بدأت أقرأ ..

الصفحة الأولى : " إنها صفحاتٌ من حياتي .. أكتبها الآن وقد عشت زمناً طويلاً تحت سقفِ هذا البيتِ الجميل الذي احتواني بدفء وأمان ، هي خلاصة رؤى لامرأة عاركت الحياة وانتصرت عليها بكلّ جرأة وقوة ، فأثبتت لنفسها معنى النجاح ..

....... "

متململاً قلّبت بعض الصفحات لأسرّي عن نفسي .. كانت الصفحاتُ الأولى تتحدّث عن حياتها اليومية ، طفولتها باقتضاب – كما كانت تذكرها - ثم انتقلت إلى أيام شبابها وكم كانت رائعة ، أنستني نفسي ، فاعتدلتُ في جلستي وتابعتُ القراءة والصمت رفيقي ..

مرّ الوقتُ طويلاً وقد وصلتُ في المذكّرات إلى خريف العمر المعطر طيباً ، أخذت أقلّب تاريخ جدّتي بغير اهتمام وهاهو قد مثل أمامي وقد بهتَ لونه ، واهتزّت شمعته مؤذنة برحيل ..

وفجأة ..وقعت عيناي على كلمة تتوسّط صفحة في آخر الدفتر .. كلمة اهتزّ منها قلبي جزعاً وكدتُ أشرقُ بهذا الشيء الذي أحتسي .. إنها كلمة الشــبـح !

سريعاً عدتُ إليها وبدأتُ أمسح عن صفرتها بعض الغبار وأقرأ باهتمام وقد كانت تتحدث عن نفسها ..

" ........... سيظلُّ يلاحقك ذلك الشّبح الخفيّ ، ولن تلحظي وجوده إلا بعد فوات الأوان ..! "

قلّبت الصفحة الثانية وقد أسقط في يدي حين عاودني ظلّ شبح الثلج ، واسودّت الدنيا في عينيّ ، وقرأت :

" سيأتي يوم يكشف لكِ فيه عن شخصه ، لن تهنئي أبداً بمعرفته ، إلا إذا عشتِ حياتكِ مسالمة ، وكان طريقكِ مستقيماً ..

وقد يظهرُ يمثلُ أمامكِ شبحاً مريباً في أشدّ الأيامٍ عتواً ، وحين يُغمر طريقكِ بالثّلج الأبيض ، فتنطمسُ معالمه ، ستتاح لكِ فرصة الانطلاق في طرق كثيرة معوّجة ، ستظنّين بأنكِ تمتلكين العالم بين يديكِ ، ستعبثين بريشتكِ كما تشائين على لوحة الحياة البيضاء ، وقد تلطخينها بألوان منفّرة .. عندها ، لن يسكت ذلك الشبح ، سيظهر لكِ ظلّه ، يلاحق خطواتك ، يعدُّ عليكِ أنفاسكِ ، يخبركِ بحقيقتكِ البشعة ، لعلّكِ تعودين ! "

بصمت كئيب ودموع تسابقني ، لتبلل الحبر القديم ، لتلوّنه بلون الألم ، ألقيتُ نظرة على الصّفحة الأخيرة ..

" غداً سوفَ يذوب الثّلج ، وتتكشّف معالم الطريق واضحة ، لن يتاح لكِ اللهو ثانية ، ولن تتحكمي بالحياة ، فقد تسلّم قيادها أناسٌ غيرك ..

غداً .. وعندما يذوب الثلج ، وتنبتُ الحشائش الخضراء على حافتي الطريق المستقيم ، ستتجلى لكِ الحقيقة في وجهه ، وفي نظرة عينيه ، عندما يأتون إليكِ ليأخذوكِ إلى حفرة صغيرة ضيّقة ، ويقفلون عليكِ ، ويرحلون ، لن تكوني وحدك ، ستجدينه معكِ باقٍ لم يرحل ، قبّحيه الآن إن شئتِ أوّ اعملي على تنقيته بكلّ ما أوتيتِ من قوّة ، تشبّثي ببقايا عمرٍ يتساقط كما الثلج ، واجعلي منه ماءً زلالاً ، ولا تجزعي التصاقه بكِ كما الظلّ ، إنه بداية ونهاية هو أنتِ !

إنها حكايتي .. حكاية من سبقوني ، ومن سيقتفون أثري من بعدي ، حكاية بني البشر ! " .

سقط الكتابُ من يدي ..وقد خدرت ..

عرفتُ أخيراً من هو ! إنه يسكنني !

فتحتُ النّافذة رغم البرد القارس ، وسمحت لحبّات الثلجِ أن تقتحم وحدتي ..

تنفّستُ بعمقٍ أحاولُ استرجاع بقايا نفسي ، تبسّمتُ أخيراً .... ثمَّ أجهشتُ بكاءً !.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى