أسماء حسين - سيرة لحساسية الكتابة..

سحب حسو أعداده من المكتبات ومنازل الأصدقاء وبيوت الجيران ليحرقها أمام جمهرة من الصحافيين والكتاب، الأصدقاء منهم والأعداء، سائلاً الجميع أن يسامحوه على إصداره لهذا "الديوان التافه". - باستطاعتي أن أعرف كيف كان يشعر حسو تمامًا الآن، وهو يقدم على ذلك الفعل - قال عنه أنه كتاب شعري سوريالي لم يبق كثيراً في متناول اليد إذ سرعان ما اقتيد إلى الحرق لرداءة الطباعة والمحتوى. أما مجموعته "الضباب بحذافيره" فقدّم لها بجملة: "هذه النصوص صالحة حتى 2015".
تلك كانت القصة التي فتنت شيئًا من قلبي كما عرفتها..
وهذا برغم أن إبراهيم حسو هو أحد أرق أبناء المخيلة الشعرية في جيله. دون زخارف ودون ضجة فارغة.
لكني أعترف بأن هذا بالتحديد ما شعرت به تجاه بعض تفاهاتي المنمقة التي نشرتها أنا الأخرى أثناء مراهقتي تحت العشرين للمرة الأولى، - وتلك كانت تفاهات بالفعل لا مجازًا للاستغناء عنها - مشحونة بالاندفاع ونزق التفكير والتفاهة ونرجسية التعاطي مع الذات، وسطحية المعرفة بالحياة. وخالية من أي تجربة حقيقية.. لكنني لم أستطع سحبها، أو محوها، أو حرقها، لذا فقد اكتفيت بعدم رضائي واعتذاري لنفسي وللآخرين عنها.. وتحرري التام من علاقتي بها.
أحيانًا قد يقول لي كثيرون "أنا أحب هذه القصاصات الصغيرة" وحينها أسألهم بصراحة تامة "ما الذي قد يعجب أحدًا في أشياء مثلها، أنا نفسي كتبتها كمجرد نزق في مباراة لغوية لمراهقة تدون ولم أشعر بنصف ما ورد بها" .. وفي وفاق مع هذا، فكرت أنه ربما نحن نبدأ صغارًا محملين بالنزق والسطحية، والأفكار التافهة والحاجة الخاوية إلى اثبات الذات، في الكتابة كما في الحياة، لكن بعض القراء قد يبدأون معنا صغارًا أيضًا، ونكبر على مهل، فلا عتب عليهم إن تحمسوا لهراءنا واحتفاءنا الطفولي بانتاج مراهقتنا !
هكذا.. حتى في مخلوقاتنا الخاصة، التي خرجت من بين أصابعنا وجاءت من أبعد نقطة في داخلنا، علينا العدل في توزيع القيمة والمحبة. وعدم الإسراف بها.

لا أحب ما أكتبه بشكل دائم، كثيرًا أيضًا ما أنقلب عليه، وأتملص منه وأتحول عنه، ولا أحبه. على الكاتب ألا يحب ما يكتب دائمًا، عليه أن يتخفف من أفكاره وكلماته التي صارت لا تشبهه كنسخه القديمة، وما يحبه هو ما يبقى من روحه.
أقرّ بذلك، لكني في كل حين سأحب ذلك النص الذي أكتبه الآن. لأنه سيشبهني دائمًا. ويشبه تخففي الأبدي. وهو من أحب أشيائي إلى قلبي.

***
ماذا يفعل غونتر غراس بعد أن ينهي رواياته؟
حنينه للشخصيات يجعله يشعر بقدرة رجلين أو ثلاثة على التذكر، فيبدأ بنحتها لتخرج من رأسه وتتشكل ويصير لها ظلًا ملموسًا، يطمئنه أنها لن تهجره أبدًا.
يعامل غونتر نصوصه كأبنائه، بعاطفة أب. وهذا ما أشعر به أيضًا، طوال الوقت. حين أحنو وأقسو وأنحاز لنصوصي أو أقوّمها بعاطفة أم. وفي اتجاه معاكس لاتجاه غراس، فإن حنيني لعاطفتي وذاكرتي الحميمة، يجعلني كغونتر غراس أحب رسم بورتريه من الهشاشة الخالصة بالكتابة لها، يجعل لتجاربي الحميمة مع الحياة روحًا ملموسة أرغب ببقاءها إلى جانبي، حتى بعد وضع نقاط النهاية لها. أرغب بأن تعيش لأطول مني. وأرى وجهي واضحًا فيها.
أنا في تصالح تام مع هذا، بيني وبين نفسي لم يعد هناك شجار، على الخسارة أو على حساسية الذاكرة، حتى الخسارات التي أرغب بصلبها على جدران لامرئية داخل ذاكرتي، وصلب نفسي عليها، كي أتذكر ألمها وعارها، أكتبها، لأحصد ما أدركته وأنا أقف على حافتها خارجة منها. أنا على وفاق كافٍ من الآن مع حساسيتي ومحطات حزني، أحب أن أحفظ ذاكرتي معهم من التلاشي والموت وأصنع بورتريهًا خاصًا لها.
لهذا ربما لازلنا نكتب.. لأننا نشعر بقدرة أشخاص عدة على التذكر الحميم، والحنين لخلق كائنات حية غير معرضة للفناء من ذاكرتنا وحساسيتنا.. لكنها أطيب كثيرًا في أثرها.
والقاعدة الأولى في نشر كتاباتك على الملأ: عليك التوقف عن كونك طفلًا ينتظر المديح. القراء ليسوا أمك. وعاطفتك ليست الواجب المدرسي.
فريدا كاهلو روت أنها ترسم نفسها.. لأنها الشخص الوحيد الذى تعرفه حقًا.
لهذا نكتب عن ذواتنا، ونكتب عن الآخرين بذواتنا.. لأننا الشخص الذى نعرفه أفضل من أى كائن آخر.. لأننا الشخص الوحيد الذى ربما نستطيع جعله أكثر انسانية مما هو عليه باكتشاف عاطفته تجاه الحياة، ومبادلتها خلال الكتابة.
ففي النهاية، يصير النص أكثر ذكاءًا عاطفيًا من صاحبه.

في نهاية الأمر، تكتب للشخص الذى تعرفه جيدًا، تكتب لنفسك.
أحيانًا أشعر وكأن الكتابة هى الشىء الوحيد الذى أستطيع فعله فى مقابل الحياة لأظل أشبهنى.
أرى وجهي واضحًا في الكتابة، أكثر مما هو عليه في المرآة.
لكنني دائمًا ما أود الاعتذار، وبقدر ملحّ ومستمر عما مضى من أخطاء، في الكتابة وفي الحياة. وكلما كتبت شيئّا جديدّا وتركت نفسي على مصراعيها حتى فرغت منه.. شعرت بعدها بالرغبة في الاختفاء. من العالم، ومن النص.
وأود لو استطعت أن أقول عن كل شيء كتبته أو قد أكتبه يومًا، أن هذه النصوص صالحة فقط حتى لحظة الانتهاء من كتابتها.. ولست مسئولة عن صلاحيتها للأبد.
لكننا لازلنا نحن للبقاء وللتذكر فنكتب كغونتر غراس.. ولازلنا نخطيء في حساسيتنا فنعتذر عما بدر منا كإبراهيم حسو.. وحمدا لله أننا كذلك.


Zum Anzeigen anmelden oder registrieren

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى