محمد المطرود - أنَّاتٌ إناثٌ

الصوتُ أنثىَ والصدىَ مذكّر، يقولُ العاقلُ،
أمّا المجنونُ يقول: الأنةُ أنثىَ والرغبةُ ذكر!

قالت فاطمة: انهض بأعبائك نحوي، كانت تعلم بالرجل الذي أنا وفيوض روحه. فقلت: بسيطٌ ومائي ذاهبٌ لسواك، فإذا استدارت إليّ ورمَت دَلوَها في بئري، أدرتُ وجه عمري إلى بلدي وشققتُ عِبابهُ كالمشتهي نجاة من غرقٍ أكيد في فلوات النفس وليسَ في أبحرٍ، تغيبُ فيها الفُلكُ. والحب في هذا الوقت أحجية وأمنية وسراب وعلى ولدٍ خَزّاف قبل أن يستبد به طيش أن يعجنَ الهواء بالماء والنار والنذور ويهيئ عجينة الصلصال، ثمَ من ينتظر الصلصالة اللينةَ والجسدَ الحريرَ والشامةَ البنيةَ القمرَ والتماعةَ النهدِ الفضيةِ خلف الساتان، ابتداءً من فاطمة السورية وانتهاءً بها، أن يؤمِنَ، ليأمنَ من وحشِ الجمالِ الدارجِ في الجسدِ الليلي كالعادة!. وقالَ البحر إذ رأىَ دخاناً أحمرَ في الماء، يشربُ من الأرواحِ ويرفعُ يدَهُ إلىَ السماء ليحوزها: ياربُّ تلطّف بها: صغيرةٌ وشفافةٌ وأكادُ ألمحُ في صعودِها المبكِّر روحيَ الواسعةَ ونداءَ عاشقِها وقدَ خبِر طيّات وثنيات إبطيها وفخذيها وعانتها، حتىَ إنْ ألمَّ بصوتٍ غير صوتِها وراقَ لهُ الموجُ العالي فيهِ، سيجدُ بعضَهُ يسبقهُ إلى رملِ شاطئِها الذهبي مُمَدداً كطفلٍ بكنزةٍ حمراء صيفية وحذاءٍ صغيرٍ كنوتةِ الموسيقا.

وقالت أُنْسُ الضامرةُ الرقراقةُ الينابيعُ، متحدّرةٍ من الجبلِ إلىَ السهلِ، حاملةً جرةَ الأمنياتِ: هيأتُ نفسي لكَ يافتىَ، فهاتِ بداوتك واحرِث، لعلَّ إذا سرىَ ماءكَ إلى جوفي أنْ تجمحَ خيلكَ إلى الفلاة فأنجو وتنجو وينجو عشبُ أحشائي من البردِ أو الرصاصةِ أو الأقاويلِ. ضممتُ يدَها إلىَ صدري فاشتعلتُ حتى أضيءَ قصرُ الأحلامِ، ورقصَت في فنائهِ غانياتٌ حزيناتٌ من كلِّ ملةٍ والجهاتِ، فصوبتُ عيني إلىَ نهدِها الأيسرَ وعصرتهُ بالصرخةِ لأنْ رأيتُ تفتُحهُ ونزيزَ الأبيضِ يسيلُ مثلَ ضبابٍ يلفُ القرىَ. وقالت خبرتُ الموتَ مرتين، وأشارتِ إلىَ الطريقِ الطويلِ الأسود بالذئابِ المتراميةِ على جانبيه مرة، ومرةً أشارت إليَّ وقالت: "الموتُ لذةً" فعلمتُ أنَّ الولدَ القادمَ بعدَ حولٍ ستكونُ لهُ ملامحي، وسيفتكُ بمن خرجَ خلفي يرومُ رأسي ومُلكيَ من العاطفة، وأنا امرؤ القيسِ في طلبِ المُلك، وعمرو بن أبي ربيعة فتىَ مخزوم في التشببِ، وأنا محمدٌ ابنُ أبي السوري. مثلُ أُنْس من الإناثِ لا تُخذلُ ولا تتركُ وهباً للصدفةِ، وعلىَ فتىً يجمعُ ملوكاً في ذاتهِ أنْ يرعاها، ويبرّ بجمالها وعنفوانها وصهيلها في الحياةِ وعلى السرير!.

أمّا غزالة البريةُ بوشمٍ قديمٍ كجرحٍ غائرٍ وصغيرٍ أسفلَ النَحر فوقَ النهد الأيسرِ بقليل، وضعت جركلاً نحاسياً تآلفت فيه الأصواتُ: هنا صوتٌ آدمي وهنا صوت جني وهنا ذهب يَدِنُ وهنا خلخالٌ يرنُ، وهنا رصاصةٌ تَئِزُّ، ووضعت عشبةً عربيةً عطريةً قالت أن زوجها هو النبات من أصلٍ هندي، مرّ بطريق الحريرِ فنسيَّ بعضَ مَنيّه علىَ مقبضِ الريح حتى سقطت مغشياً عليها وأنجبتْ رائحة ولها اسمٌ ووصفةٌ لُفّتْ في حِرز مكين، وقالت لي: يافتى هي الرائحة من أردتكَ على السرير الذي في أحد أحواله مقبرة وفي أحد أحواله بحرٌ وفي أحد أحوالهِ قميص شفافٌ مشجرٌ بالرغبة، فإذا مااستجركَ نحوي، زَرَرته عليكَ ضيقاً/ ضيقاً، ومسّدتُ ألفاً ممدة فيكَ صوبَ مايصيحُ بها من أولادٍ حرامٍ يلهجونَ باسمكَ ويتوزعون علىَ جسدي كعلامات مضيئة من النيون، فاقتصْ من الرائحة والسرير قبلَ أنْ تنام، وذلكَ لو شئتَ أخْذَ الثأر حُباً فافعل.. وأنيَّ فعلتُ أربعاً من الساعاتِ وربعاً من الدقائقِ، ولم أرتو، فأخذتُ أقصرَ الطرقِ إلى الينبوع ونمت هناك، نمتُ إلى أنْ جاءتِ الذئاب عمياءُ، فلم أخف من الذئب، وخفتُ من أعمىَ القلب!.


وغزالة من أمٍّ عربية وأبٍ شركسي، كما أنا من أب عربي وأم كردية، هجنة أعطت السحنة بعض البرونز والخلاسية، وصلّبَت معدننا وقوّته، فكانتْ ميالةً إلى النوم بعدَ العبثِ والأفعال في وسطِها الأسفل وكنتُ فَحلاً أحرثُ وأملأ الثغرات الصغيرة في أرضها الملساء بالفسائل وأهرقُ عليها ماء ثقيلاً فائضاً، يُعلّمُ، فلا يُمحىَ أثرهُ الجليلُ عن القميص، مثلهُ مثلُ دم يصيحُ باسمِ الضحية ويتهدَدُ القاتلَ.

غزالة الشهية والمريضةُ بعض الشيء، لها عادتانِ طيبتانِ: طريقتها في التدخين وأخذها الجانبِ الأيمنِ من السرير، السرير الذي غالباً كانَ يشسعُ ليصيرَ عالماً كاملاً بنفسهِ، وغزالة تضع علبتي الدخانِ والدواء على طاولةٍ قريبةٍ من يدِها، فإنْ تحولَت بجزءٍ من جسدِها نحوها_ كنسوةٍ كثيراتٍ انحدرنَ إلى النبعِ ليشربنَ_ بقيَّ لي منها جزءٌ" لمْ يحوّلِ".

ولها روحُها ونسيانُها وحقيبةُ يدها واكسسواراتها ومفاتيحُ سيارتها ولها مشيتُها كما لو أنّها فرسٌ، وأذكرُ قالتْ لي مرةً: يافارسي، وكانت تعي ماتقول، إذ كنتُ دائماً ألكزُها فلا لجامٌ لها ولاسرجٌ، سوىَ أني أتركُ روحها الوثابةَ تسابقُ الريحَ وغيمةً ضالةً فوقَ رأسنا! وأذكرُ أني مرةً أهديتها خلخالاً قديماً كانت أمي ورثتهُ من أمِّها، فإنْ مشَت رنَّ خلخالها فتتبعها الموسيقى، حتى أنَّ الشارع ينامُ على هدهدةِ اللحن وبقايا أثرِها على الرصيفِ وجوانبِ أعمدةِ الكهرباء.

أمّا هَبوبُ، جمعَت (البدو) تحتَ خيمتِها، وكانتِ من قبلِ ربّتْ ماعزاً كثيراً حتى استطالَ شعرهُ وفاضَ عن الحاجةِ، فغزلَت من ذلكَ الشعر الفائض والغني خيمةً لهذا الشأن، فوتدتها وأطنبتها (وونَّت) حولها، فإذا ما أمطرت، أخذ الماء طريقهُ دونَ البيت، وصارتِ الخيمةُ فُلكاً وهبوبُ بعضُ نوحٍ النبي، لم تخترْ جبلاً ترسو عليه ولاسهلاً سهلاً، واختارتْ شِعباً منخفضاً، فانخفضَت لتكونَ دوني، وإذا آنَ قطافُ مودتها أنحني عليها وأطويني كأفعىَ تسعىَ، ألدغُ حيثُ الحبَّ فعلٌ إلىَ أنْ أرىَ وترىَ طيوراً ملونةً في العتمةِ، تلمعُ كلما لمعَتْ العينُ وتأوهّت.

وهبوبُ إذ قالت فجزءٌ نشيدٌ وجزءٌ عابرٌ وجزءٌ يوصي: أنْ خُذني حيثُ تشتهي كلما شئتَ شجرةً أو تفاحةً من آدمَ إلى (سركون بولص) وغبطةِ (هاينريش بل) إلىَ الحجيجِ السوريين في فوهةِ المنفى وافتراقات الطرق من القامشلي حيث الله بظلهِ الكبير، وحيثُ الشياطينُ تنافسُ موهومةً وتفشلُ في كل مرةٍ.

هبوبُ ربعٌ ضُمورٌ جموحٌ وهيَ الريحُ في شكلها الحر وجوانيتها، نهدُها مثلُ القط والسائل والخرافة، يضمرُ خصرها لصالحِ حوضها قليلا، أمّا صدرها فكتابٌ وعيناها أغنيتان ووجها صفحةٌ بيضاء، وصوتها دعوةٌ إن غنّت أو أنّت، فلمْ أكُن الرجلَ الحُمقَ لأرفضَ أنْ أكونَ في الجنةِ أو على أطرافِها فأرىَ الجحيمَ وهولهُ فأزدادٌ ميلاً إلى جنتي وقدْ تملكتني وملكتُها.

وقالتْ السوريةُ من أصلٍ مغاربي: يممْ وجهكَ أنىَّ شئتَ فثمَّ قلبٌ وجهةٌ وسريرٌ لك، فسرتُ إليها عبرَ الكونِ كلهِ، ألتقطُّ ضحكتها في الهاتفِ وألقمها الحبَّ حبةً.. حبةْ، فإذا ماكبرُت واكتنزتْ لحماً وصارت عبطةً وشهيةً قلتُ لها: أنت الغيمةُ وأنىَّ وليتِ وجهكِ وجسدكِ فخراجُ شهوتك لي، فنامتْ في حضني مطمئنةً على نهديها يكبرانِ في كنفي ومجموع رغباتها صرنَّ رغبةً واحدةً وعلىَ البدوي/ الجنوبي كما هي بدوية جنوبية أنْ يتفهَّم شَبقَ الفتوةِ وشغبَ الفتاةِ اليتيمةِ المترعرعة قرب شجرتي مشمسٍ وتين، كانتْ إذا ضاقت عليها الحياةُ وتملكتها شهوةٌ وزادها الحنين طيباً، حفرتْ في الأرض حتى وصلتْ ماءً سمتهُ ماؤه فارتوتْ منه، وانتظرَت عطشاً آخر يعيدها إليها وإليه. ما أكثرَ هذهِ الخضراء وما أقلَّ حيلتي!

بلغنَ شأواً وشجواً، وقيلَ النساءُ نسّاءاتٌ للخطيئة وحُمّلٌ بالذي يطيبُ للحبيبِ، والكلمةُ بلسمُ وفتحٌ، وقيلَ النساءُ أمهاتٌ وبناتُ أمهاتٍ، يتدَللنَ ويُدللنَ، ولهنَّ أغانٍ وأناتٌ، ومارميتُ دلوي مقهوراً ويائساً في بئر إحداهنَّ إلاَّ ظفرتُ بالماء وعناقيدَ الذهبِ في الأحلامِ، وماكنتُ مُحبّاً للنقدِ فأكنزهُ في خوابٍ وجرارٍ حتىَ إذا استدارَ عليَّ الحولُ وسكنتُ العوزَ وجدتُ ألافاً مؤلفةً مما يطيّب ويخففُ، ويُعمي ذئباً يتربص بي، وسرداباً يُفضي إلىَ التهلكةِ، فاطمةُ وغزالةُ وهَبوب البدو والسورية من أصل مغاربي، حبيباتٌ وأصواتهنَّ أناتٌ، وهذا الغريبُ الغُربُ الذي أنا، منذ ميتاتهِ الكثيرةِ ينجو بنفسهِ والذينَ معهُ، وقيلَ_ لأدللَ عليهنَّ أكثر_ الإنثىَ حبيبة وهيَ جمعُ أمّهات، ولو جازَ في التغريبةِ لكلٍ مِنا أن يحملَ النفيسَ الأميسَ فليحملَ الأنثىَ، وينسىَ مشاقَ الأبحر والأنهرِ والغاباتِ والحَرس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى