محمد فتحي المقداد - في المدينة (تحدي القراءة)

*المدينة غافية على أحلامها غير آبهة بالعابرين، وهم يفتضّون بكارة أحلامها المعتقة بعبق الماضي.

*غايات مرتاديها تختلف من شخص لآخر.. كل منهم متدثّر يخصوصياته خلف واجهة ملامح وجهه، وثيابه ذات الألوان المحببة له، ربما لا تروق لآخر ولا تعني له شيئا، ربما يزدريها لتعالٍ في نفسه، أو حسد لصاحبها.

* رتم الحياة السريع لا يتوقف أبدًا ليرحم المتعبين، قطار يسير بسرعة البرق إلى منتهاه، يتخلّف عنه المرضى والعجزة والكسالى، ولليائسين والمحبطين وفاقدي الأمل في الحياة والمستقبل فلهم حكايا أخرى.
* مراكز الانطلاق مثيرة للاهتمام، نظيرتها قديمًا مبارك القوافل في زاوية من سوق المدينة.
في هذه الفسحة التي تستحوذ على خدمات المسافرين، من سبل الراحة العديدة كالمطاعم والمحلات التجارية التموينية. حمامات عامة أغلبها مأجورة وهي نظيفة، مقارنة مع أخرى مجانية ليست بمستوى تلك.
مواقف منظمة للحافلات والباصات وسيّارات تاكسي عمومية، مبين عليها الجهات وخطوط سيرها على الطرق من خلال لوحات مكتوب عليها بخطوط جميلة واضحة.
ففيها تتجلى عميليات التركيب والتحليل، مجمّعات يجتمع فيها البشر.
جاؤوا إليها من أماكن مختلفة متباعدة بغرص الانتقال إلى أعمالهم وأشغالهم ليبلغوا أهدافهم في مواعيدها المضبوطة يلا تأخير، هذا الآمر لا يتوقف على مدار الساعة.

* لماذا لا يتمسك المسافرون بكراسي الحافلات والباصات والسيارات العمومية ومقاعد محطة الانطلاق او كرسي المقهى او المطعم. أهم زاهدون بالكرسي..
ولماذا يزهد المسؤول بكرسي المقهى والمطعم.. ويعمل بعناية فائقة للحفاظ على كرسي وظيفته..

* تساؤل مشروع: لماذا يترك الكرسي طواعية وبكامل الرضا.. ولا يحدث صراع عليه، كما يحدث مع الكراسي الأخرى؟.

* يتبادر للذهن من الوهلة الأولى أنه لا أهمية له في حياة الأفراد.
كونه أدى خدمة لهم خلال فترة زمنية.. عليهم المغادرة لوجهتهم دون تلكؤ. فبتركوه ليستبيحه غبرهم. وبدوره يتركه أيضا لغيره.. وهكذا دواليك.

* كيف لمن يجلس على كرسي يسمح للآخرين بتقاسمه معهم. رغم ما يقال: "الكرسي غالي".. ولكنه على كل حال، هو كرسي الباص والقطار والسيارة العمومية والمحطة والحديقة العامة، وكرسي طبيب الأسنان، وكراسي أماكن الانتظار في المشافي والعيادات الخاصة والعامة، وكرسي الحلّاق رغم ما يراق حوله كثيرا من الاعترافات والنكات المضحكة وغير المضحكة، والمؤدبة والخارجة عن حدود الآدب.
فلسفة الكراسي الماثلة في الأذهان، أنها غير قابلة للتداول السلمي خاصة في عالم الشرق على العموم إلا من شوارد قليلة عن القاعدة العامة، على خلاف تداول الكراسي في عوالم الديمقراطية، والرضا طوعا بمخرجات صندوق الاقتراع المحوط بالنزاهة القانونية. بعيدٌ بنتائجه عن قاعدة ال ٩٩'٩٩ السائدة في بلاد الدكتاتوريات الاتية.

* مجمعات (مراكز انطلاق)، (كراجات) تحتل مساحات واسعة في عموم المدن والعواصم، فمنها ما هو مخصص للانطلاق الى أحياء وضواحي المدينة فقط يحتوي على باصات النقل الجماعي الداخلي وسيارات الخدمة (التاكسي)، وهناك قسم يحتوي على تسيير رحلات فيما بين مناطق ومحافظات البلد، أو إلى البلدان المجاورة.

* الأعداد الضخمة من الناس الذين يدخلونها بشكل يوميّ، لقضاء حوائجهم وتدبير سبل معاشهم يرتادون هذه الأماكن.. جاؤوا من أماكن شتّى متقاربة أو متباعدة، اجتمعوا على غير موعد.. وافترقوا بلا وداع، يقتلهم الانتظار، لا يفتؤون ينظرون إلى ساعاتهم، ولا حرج من سؤال شخص آخر عن مؤشر الوقت، عادة ما يكون التأفّف سيّد الموقف، والألسنة تعبر غاضبة عن التأخّر عن المواعيد، ونفخ دخان السجائر مصحوبًا بأنفاس القهر.

* الاختلاف سنة الحياة.. وظاهرة طبيعية معبرة عن حالة اجتماعية صحية، إذا لم يكن تعصبًا لرأي أو فرض رأي بالقوة.
وهذا الأخير لا مجال له في محطات ومجمّعات الرّكاب حتى في المطارات فيما بين مرتاديها، إلا رجل الأمن الذي يأمر وينهي، لتوطيد الأمن وتسهيل حركة العبور والخروج أو لتفتيش الأمتعة والحقائب، ولفرض القانون الذي يراه مناسبًا بدون أي اعتراض من أحد خاصة في بلادنا نظرًا للحساسية الأمنية تجاه كل همسة أو نَفَس، لأن كلّ المواطنين متّهمين حتى تثبت براءتهم.
اختلاف الوجوه وأشكالها وألوانها، والأجسام بطولها وعرضها، والأعمار بعدد سنينها، والألبسة أيضا بأشكالها وألوانها، والعيون بنظراتها ما بين ساهمة مبهورة، وأخرى مبحلقة بنظرات حادة تلتقط كل صورة، وغيرها خائفة ظاهرة برأرأتها غالبًا ما تُخفي شيئا.

* هذه الأماكن بوتقة لكنها عاجزة عن صهر مكونات محتوياتها على الاطلاق، فلكل وجهة هو مولّيها، لا يبرح تفكيره في شؤون بيته ووظيفته، أفكار كثيرة تتناوبه، والعامل المشترك الذي غالبا ما يوحد الرجال هو وجود امرأة لتلفت الانتباه إليها من الجميع، إما بنظرات عابرة أو زائغة حدّ الاشتهاء إذا ما كانت معالم الجمال ظاهرة عليها.
ولا تنقضي التأويلات والبحث عن دلائل للتعرف عن موطنها ووجهتها.

* الاختلاف والتنوّع سنّة المكان الذي هو الرابط الوحيد الذي يجمع فيه هذه المكونات البشريّة رغم تمايزها في كل شيء.. من ينظر الوجوه.. لا يرى فيها إمّا العبوس والاكفهرار.. أو الابتسامة.. فقط يرى الظاهر للعيان.. ويختفي خلفه الفرح والسرور.. والحزن والألم.. من النادر أن يخلو منها أحد على وجه البسيطة أبدًا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى