أنس الرشيد - المُتَــــرجِمة..

لم أكن أظنُّ أنَّ طريقًا دخلتُها –خطأً في قرية نائية- ستوصِلُ إلى امرأةٍ وحيدةٍ؛ اسمها (تماضر) تتحدث اللغةَ الإسبانية، وتكتبُها.. وتكتب بها.
ارتابتْ منّي في بادئ الوصْل؛ حتى برّدت القهوةُ أعضاءها. فسألتُها: لِم أنتِ مُعتزلة؟ ..فتنهّدت، وعادت تغربُ في عينٍ حمئة:
أشعرُ بفجوةِ الألم ! .....!
فشعرتُ أن أعضائي اختلطت بحبائلَ الذكريات فنطقت: ما فجوةُ الألم ! .. ابتعدتْ عنّي بخطىً غير ثابتة، تعبّرُ بها –ربما- عن المسافةِ بين العربيةِ والإسبانية؛ لهذا سقطتْ أرضًا وهي تصرخُ: أنا منهكةُ الفكرِ؛ عجزتٌ أن أسدَّ الفجوة.
قربتُ منها؛ مادًّا يديَ لأُنهِضَها؛ فسخرتْ -مُمِيلةً فَمَها-: أأنتَ وسيطٌ؟ ...
- وسيطٌ بين ماذا ؟!
-بين جسدي وفكرتك !
ابتعدتُ عنها؛ فأنا أكادُ أتخيلُها فكرةً؛ خرجتْ للطبيعةِ؛ فتحولتْ إلى روحٍ تهذي مِنْ غربةِ المُطلقِ الذي يُسقطها أرضًا .
انتفضتْ قائمة : أنا كنتُ وسيطةً بين سفارتين؛ عربية وإسبانية..؛ فهانتْ معارفي؛ إذا قرّبتُ طرفَ إحدى اللغتين؛ ضاعت الأخرى. إنهما تتآمران عليَّ؛ لسوء ما أربطُ بينهما.
تتحركُ في الغرفةِ، وتتنفسُ؛ كأنها شِفّة سُفلى غابَ عنها الجسد، وتصرخُ كغوريلا: أتعلمْ أني فحصتُ سراديبَ اللغتين حتى لم أُبقِ منها نَفس!
آآآهٍ؛ هما أفكار وأنا جسد. وحين أتحولُ إلى فكرةٍ يومًا ما، سأردّ كيدهم في نحرهم.
انتفضَ جسدي خوفًا: وما ظنُ الناسِ بربطِكِ ؟ .. فابتسمتْ؛ فتنفستُ الصُعداء!
أتريدُ أن تَعرفَ ظنَّ الناس بي ؟ ...كظنِهم بربهم؛ ليس ثمةَ يقينٌ إلا إدراكاتٌ باطنية عملية؛ تستوجب الظنَّ الحسن.
هدأتْ كميّتٍ يَنْطقُ آخرَ حرفٍ من روحه؛ فتجرأتُ لسؤالها: أوَ مِن حلٍّ ؟ .
فسمعتُ نشيجًا كأنه صوتُ عاشقٍ في غَسقِ الدُجى:
طلبتُ فيوضًا من الروح.. ويا لسخريةَ السماء بنا؛ فقد زرعتْ فيّ حُبَ أدبِ اللغاتِ المعجونِ بفكرةٍ وُلدتْ خارجَ الزمكان؛ وتلطّختْ بثقافاتٍ تشكّلت مع بدء الوجود، وتداخلت حتّى صار أخرها أولها؛ ثم تمايزت للناظر المخدوع بأحاسيسه، فصوّرها كيانًا من ثقافتِه المتوالية على مرِّ أجيالها...
دعني وشأني يا هذا .. لقد اعتزلتُ الناسَ إلا اللغة!
-إلا اللغة !
-أو أستطيعُ أن أعتزلَ مُطْلقًا يتلبّسني ويدمَّرني.. فضّني، فضّ طموحي، وألزمني قاعَ فنجانٍ مكسورٍ، سكنَـتْـهُ البصّاراتُ لآلافِ الأجيال، ودُفنتْ فيه.
قرأتْ على وجهي ملامحَ لغةٍ فانكسرت عند قدميّ : لا أريدُ –الآن- إلا كفافًا من لحظاتِ صفاء خَمركِ في دِنانِ الذهن المعتّق.
التفتُّ إلى عينيها، وقد طُمست معالـمُها؛ فجاءتني رغبةٌ في الإجهاز على ما تبقى منها؛ رغبةٌ خبيثةٌ طيَبة، مخلِصةٌ ملتوية، غريبة مستوطنة...
فقلتُ: "مِكَرٍ مِفرّ مقبلٍ مدبرٍ معًا / كجلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علِ"
أتعرفين موسى الأسواري، الذي قال عنه الجاحظ: إنه من أعاجيب الدنيا ؟.. لقد ماتَ منتحرًا بسيفِ اللغة.
....
وها أنا أزور القريةَ النائيةَ في مَطْلعِ شهر (آب) من كل سنةٍ؛ لاغتسلَ بشاهدِ قبر (الخنساء) الإسبانية:
خفّفِ الوطءَ ما أظنُّ أديم الــــــ أرضِ إلا من هذه.. (اللغاتِ)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى