نجلاء علام - في قلبي غرام

انبعث الصوت الأجش من المذياع، يعلن بمنتهى عوزه، بمنتهى قوة ضعفه، التي ألانت صوته وجعلته شجياً طيعاً حنوناً آملاً:
في قلبي غرام
مصبرني

كنتُ في المطبخ، أفرك الحلل بباطن يدي، والسلك الخشن يجرح يدي بقدر ما يترك الحلل نظيفة ناصعة، أسلت الماء على الجرح ، ولففته بمنديل، وجلست على الكرسي البلاسيتكي الوحيد في المطبخ، وشرعت في سماع الأغنية، ثم الغناء معه، وبدأ صوتي يتهدج معه كلما زاد احتياجه وشوقه.

تلمست شعري الأبيض عند مفترق الشعر ، وسرحت يدي المجروحة على وجهي، وخرجت مني:
ولِمَ الصبر؟

خرجت كأنها استفسار، كأنها الرضا به، حتى قبل الإجابة، وراح اللحن يستعذب الألم والهجر والصبر ، يلوم في وجل كي لا يغضب المحبوب ، ويعف في كذب كي لا يصدقه المحبوب، يا الله، كم قاسٍ صوته وصادق في آنٍ.

ما الذي يحملني أنا المرأة التي تخطت الخمسين، على رفع صوتي بالغناء معه، لدرجة جعلت من بالبيت ينتبه لصوتي الحاد الصارخ المنفعل بأرتام يطفئها صوته الأجش الشجي، وامتدت يد وداست على الزر، وانسحب صوته مودعاً في هدوء وسلاسة، كأنه نصل السكين ينسحب من الجسد بيد مدربة، ولكنه لم يستطع على سحب الغرام معه ، إذ بقي في القلب ، يناجي الأمل والصبر ، ويردد اللحن كلما مسحت على شعري ووجهي:
في قلبي غرام..
مصبرني.

ارتفعت يد الطبيب على اللوح المضاء تشرح الحالة للطلبة الواقفين حولي يتفرسون في الأشعة، كان اللحن يتردد داخلي مرة أخرى، بود يفتح له باباً في الذاكرة ، أكمل الطبيب:
لابد من وجود آثار لجلطات خفيفة سابقة، مع انسداد في الشرايين المغذية، وبالتالي يظهر التآكل في أنحاء متفرقة من المخ.

بدأ اللحن في الثبات داخلي، ثم بدأت أسمع الصوت الشجي يأتي من بعيد، وفجأة هدر الإيقاع داخلي:
في قلبي غرام..
مصبرني
على خصامك وطول بعدك
وأقول أنساك يحايرني
ويخلفني زمان ودك
في قلبي غرام..
مصبرني

سحب الطبيب الأشعة من على اللوح المُضاء، ووضع الأشعة الخاصة بي، ثم أكمل:
- هنا الحالة فريدة، فالمخ سليم، ومع هذا الأعراض واضحة، والذاكرة تمحى تقريبا.

وبينما يتطلع إليّ الطلبة في اندهاشة لم يستطع قلبي تحمل عذوبة اللحن، وارتفع صوتي فجأة معه:
في قلبي غرام
يفكرني
بأيام الهوى الحلوة

فانفجر الطلبة في الضحك، وحملني أحدهم إلى السرير، وضعني بهدوء عليه، بينما تربت إحدى الطالبات على يدي المعروقة المرتعشة.

هجمت عيون أمي عليّ وعلا صوتها:
- الجيران!

وامتدت يدها إلى المذياع فأغلقته، كنت أتمايل مع اللحن أمام المرآة، وأتحسس جسدي الذي بدأ في الفوران، وشعرت بأنه ينادي حبيباً أتمناه، بقي جسدي ساخناً، أما اللحن فلا أعرف من أي أبواب النفس دخل:
في قلبي غررررام.

واحتبس اللحن داخل القلب وسكن، يصحبني في الجامعة وفي العمل وفي البيت ، يتسلل أثناء النوم إلى الأحلام ، فيغلفها بقوة نبرته، رجولته التي تمنعه من تهدج صوته ، بينما تدفعني أنوثتي إليه، يا الله، كيف رواغ كل هذه السنين؟

كيف؟ وكيف خرج بكراً هكذا كأنه ما أنتظر؟ وكيف عاقب الذاكرة التي حاولت محوه فمحاها، وكيف أصبح هو الذاكرة والذكريات والعمر:
بلون الورد تفرحني
وبعد الشوك ما يجرحني
يا ريت ما هناني
ما كنش الهجر خلاني

على السرير الأبيض أتمدد، يلفني عبير اللحن، يغلق علىّ أبواب الروح، ويصحبني إلى دنياه ، ويمتلكني اللحن وأمتلكه ونصعد معاً إلى زمان الود.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى