مصطفى الحاج حسين - أردت أن أغنّي.. وبّخوني.. وضربوني بالحجارة

في طفولتي ، كان والدي يأخذني ، أنا وأخي سامي ، معه إلى الشّغل ، وأبي يعمل في مهنة البناء ..
وأخي سامي يكبرني بسنتين وأكثر . يأخذنا في أوقات العطل المدرسيّة ، وأيّامالجُمع، أو المناسبات القوميّة والوطنيّة ، أو العطلة الانتصافية .. أو العطلة الصّيفية .. وكان والدي لا يأخذنا للشغل بدافع أن يكسب من وراء عملنا ، فقد كنا صغاراً ، لكنّه كان يريد إراحة أمّي من شغبنا ، وخاصّة أنا ، لأنّ أخي كان عاقلاً ، ولا مشاكل له ، أمّا أنا .. آهِ .. لن أفضح نفسي .
ومهنة البناء - كما يعلم الجّميع - مهنة شاقّة وصعبة .. حمل أحجار .. إسمنت .. سقالة .. سلالم .. أدراج ..شمس حارقة .. أو برد شديد .. غبار .. تعب .. إرهاق .. عرق يزخّ ..
وكان أخي سامي يملك منذ صغره .. موهبة غناء : صوته جميل .. وأذنه موسيقيّة .. يعزف الموسيقى بلسانه .. لأنّه هكذا كان يتخيّل .. قبل وجود التّلفاز .. يستمع إلى الأغاني من الرّاديو .. ويظنّ أنّ الفرقة الموسيقيّة تعزف الموسيقى بألسنتها .. ياالله .. من هذا الخيال .
ولأنّ أخي يملك صوتاً جميلاً ، كان أبي والعمّال الّذين يعملون معه ، يطلبون منه أن يغنّي لهم ، إذ كانوا يعفونه من العمل ، ويطلبون منه أن يقعد في الفيء ، في ظلِّ الحائط ، وياخذ بالغناء ، وهم يشجّعونه.. وأنا الأصغر منه باكثر من سنتين ، كان عليّ أن أشتغل .. أن أحمل الأحجار الثّقيلة ، أو أسطلة الإسمنت التي تقطّع الأصابع .. وحين كنت أتكئ ، كان والدي وعمّاله يصرخون بي : هيا .. اعمل .. لا تتوقّف .. وكنتُ أغار من أخي ، رغم حبّي الشّديد له ، ورغم إعجابي بصوته .
ومرّة .. تشجّعتُ ، وقرّرتُ أن أفعل مثل أخي .. أردّتُ أن أقلّده ، وأقوم بالغناء .. وكان هو لا يغني إلّا " لصباح فخري " .. لذلك حفظتُ قصيدة " قل للمليحة " .. وفاجأتهم بصوتي ، وما إن قلتُ قُل للمليحةِ ، حتّى أسكتوني ، صرخوا بي ، وقذفوني بالحجارة : ( اخرس .. الله يلعن لك هذا الصوت ) .
خجلتُ ، وخرستُ ، وتألّمتُ ، وحسدتُ أخي ، وكرهتُ نفسي ، وكرهتُ العمّال .. وأيضاً أبي ، وأردّتُ أن أبكي ، وأن أتوارى .

ومنذ ذلك اليوم ، أنا لا أجرؤ على الغناء ، حتى لو كنت بمفردي ، وفي الحمّام .. رغم أنّي لا أنقطع عن الغناء .. ولكن بداخلي فقط .. دائماً في داخلي .. أغنّي .. وأحلم أن أُسمعَ صوتي لكلّ العالم ، ولهذا أحبّ كتابة الأغنية .

مصطفى الحاج حسين
إسطنبول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى