محمد عبد الرحمن يونس - ملاحات وعيون مسمولة

رفع حاجبيه عالياً.. سماء من السحب والضياء تسافر بعيداً .. المساء رطب.. المدينة هادئة تستمتع بالموسيقى، ونسمات سيدي بوسعيد ولا كانيا والبلفيدير، عينان باهتتان صغيرتان مليئتان بالقذى يتوسدان هذا الوجه الأصفر. ووجه منمش بحبيبات قديمة ورثها عن الأجداد الذين يكرهون السفر ويحكون لنسائهم حكايات ألف ليلة وليلة، إذا ما انتصف الليل وغاب القمر.. رغم بحار الملح المتراكمة فوق عينيه لم يسقط منهما دمعة واحدة.. وأحسّ أنه يرتحل وملاحات العالم في عينيه، يخبىء في قلبه سيوف الأجداد وسيرهم.. عند أول مقعد رآه في الحديقة العامة تهالك عليه كسجين خارج لتوه من سجن سياسي.. وقد سلخ ظهره ويداه واقتلعت أظافره.. عاين الفراغ الموحش شعر بغصة مرة في حلقه.. أسراب السيارات والنساء تمر أمامه بنمرها المختلفة قاطعة شارع الحبيب بورقيبه، صوب الشاطىء والأحلام البعيدة التي تمتد إلى سوسه وبنزرت.. وصفارة رجل البوليس الواقف عند مفترق زوايا الشارع تدق قوية في أذنيه.. غشاء الطبل في طريقه إلى التمزق.. يتألم.. كالعذراء.. وتساءل كيف تتألم العذراء حينما تفض أشياؤها السرية ليلتها الأولى.. لكنه لم يجد تعليلاً مقبولاً لهذه الظاهرة.. لم يستطع أن يركز بصره على زاوية معينة أو مساحة ضوء.. تدور الزوايا وتهرب مسرعة وتدخل مقهى نزل تونس الدولي لتحتسي البيرة.. تعب أعمى في عينيه.. واستغرب لماذا هذا التعب المبكر رغم أنه لم يتجاوز الرابعة والعشرين.. وأخرج قطارة ووضع في عينيه عدة قطرات منها ، وفتح زجاجة وتناول جرعة من كبسولات "سيتامول" وتعجب مستغرباُ من قائل القصيدة الشعرية التي حفظها أيام كان طالباً في الجامعة.

"أيها المشتكي وما بك داء كن جميلاً ترَ الوجود جميلاً".

أي متفائل هذا القائل الذي يوزع على عشيقاته سكاكر أعياد الميلاد وزجاجات العطر.. أيّ بالونات هذه المخدرات التي ينفخها من يظنون أن البحر والشط والحيوانات والناس بخير..؟ رفع رأسه باتجاه السماء والنوارس والغربان.. كان بوده أن يقول شيئاً للعظيم خالق الكون والسماء المغروسة بفقاعات بيضاء وسيوف مثلومة... لكنه أحس لسانه مشدوداً يعاقر صمتاً أبدياً موحشاً.. وهل هذا الغفور الرحيم سيستمع إليه وأخفض رأسه.. لم يكن يوماً ما قديساً ولا ولياً صالحاً.. لكن ّجدار الله لم يسقط في نفسه أبداً .. غير أنّه في حيرة عاصفة من هذه الجدران.. استغفر ربه من أفكاره السوداء المضطربة الملحدة.. وأغمض عينيه وكانت قطرة الدواء تحرق عدسة العين.. لم هذا العالم يطعنه؟.. يقتلعه من جذوره بلا شفقة.. يحرمه من عينيه وطفولته وشبابه؟ .. الفراغ يحيط به من جوانبه عدا تداعيات وذكريات مبهمة غامضة .. لا يستطيع تحديد بواعثها.. يبتلعه ثم يلفظه وحيداً.. أصوات السيارات تئن، ونساء يتلوين على أنغام "خوليو" . ريح شمالية عاصفة تقتلعه من رصيف الشارع فيفرش جريدة ويجلس عليها أمام المسرح البلدي.. ترتجف أوراق الأشجار وتعانق أمها باكية .. تهتز الفنادق العالية أمامه.. يحس أنها تميل تدريجياً.. وبعد قليل ستسقط كلها دفعة واحدة على رأسه. لا شكّ، أنا وحيد منبوذ .. من يقول عكس ذلك مخطىء.. وتأمل نفسه والناس .وقال: يبدو أن لي خلاناً وأحبة وشيوخاً ومريدين منهم وتؤلمهم عيونهم مثلي.. ارتجفت عينه طالبة قطارة الدواء.. يبدو أن الدواء غير ناجع في حالات تراكم الملح.. شكر الله .. توسل رافعاً يديه: رب اغفر لي ولأجدادي ومشايخي يا تواب يا رحيم.. تحسس عينيه.. باغته الفرح.. ستدمعان دموعاً ساخنة.. رفع يده إلى وجهه ليتأكد، لكن الدمعة لم تسقط.. قلما تسقط من عينيه.. فالملاحات التي تحاصر البؤبؤ سرعان ما تمتص الدمع، وتنقله إلى شغاف القلب.

ورث عادة الملاحات واللابكاء عن أبيه الذي أحبه وتخاصم معه كثيراً حول الجواري والنساء والسرو والأرض، ومحي الدين بن العربي والحلاج.. ما شاهده مرة يبكي.. كانت جواريه ونساؤه العشرون بما فيهن من مطلقات وحرائر لا يزلن تحت ظله، وأمه معهن يغسلن كآبته وهمومه بضفائرهن الطويلة وأجسادهن المصقولة كأعمدة رخام.. منذ سنين خلت رآه باهت الوجه عندما فقد أخاه وأحد جواريه في حادث سيارة.. كيف له أن يعزيه بوفاة عمه وخالته الجارية؟. لا يدري ماذا قال في تلك اللحظة الراعفة .. بدأ لسانه وقد حاصرته تأتأة وذهول.. ومع ذلك تقتضي اللياقات أن ينسى الفرد حساسيته التقليدية وخصوماته حين يحضر الموت والسيف وهامات الأجداد وخيولهم المغبرة .. ودّ أن يقول شيئاً ما، وكان يعرف مسبقاً أنه لا قيمة لما سيقوله.. تقدم وسط جمهور المعزيين.. سلّم عليه.. قبّل يده، وقال بصوت مكسور: العوض في سلامتك.. رحم الله عمي وخالتي: ثم تراجع بحياء..

وفي المساء قال الرجل لزوجته: ولدك الجاحد عزاني.. يبدو أن الله سيهديه.. وقالت المرأة: بحق سيدي ومولاي "خضر الأخضر" أن يصلح بينكما.. يا رجل نحن على أبواب آخرة, والدنيا دار فناء. صالحه .. لا تدعه يطفش.. ولم يتجاوز الأسبوع حتى تزوج جارية جديدة وكتب لها مهراً عشرين فداناً وشقة جديدة.

وطفش الولد الصائع الجاحد.. محتضناً أملاح عينيه.. وصباباته المغدورة وبحره ونخيله وزوادة من خبز ذرة أسمر وسلسال ذهب أهدته له صديقته المعلمة قائلة: الغربة كربة.. خبّئه ليومك الأسود.. وأتى اليوم الأسود والأغبر.. وباع السلسال في أسواق البزّ والنساء ، وانتهت زوادة الذرة.. وعلّق مكان السلسال المباع عيني صديقته، ورمشها ووداعة أمه وصفاء عينيها.. وخيبتها.. ونكران الخلان والأحبة والأقارب وخطيبته التي تزوجت بعد شهر من أطول سماسرة المدينة.. وطفش.. ولا يعرف كم تطول طفشته.. وغزا عينيه ملح البحر وغبار الدروب والبطالة في بلاد الله الخيّرة ومقاهي وأرصفة الدرجة العاشرة.

ـ 2 ـ

عندما تسلم برقية بضرورة الحضور الفوري.. استدان ثمن التذكرة.. وسافر على طائرة "سوبر كارافيل" .. كانت طول الطريق ترتجف وقد أحاطتها غيوم سوداء.. أمّا المضيفة الشابة فقد كانت تطمئن الركاب وتقدم لهم أقداح الخمر الحلو وزجاجات البيرة المثلجة.

ـ من فضلك يا آنسة كأس ويسكي.

ـ باردون.. سي فيني.. هل تشرب "أولد براندي"؟.. قبض الكأس.. كانت علقماً.. "براندي مرة" .. وتأمل الأراضي الفسيحة والقرى التي تهجع تحت سماء الرب العريضة.. والغيوم السوداء من النافذة.. وسرعان ما شعر بانقباض حاد.. أحاطه هاجس.. قريباً تلتهمه هذه السحب والطائرة.. أغمض عينيه وكانت ذرّات الملح تخدشهما، وأفرغ قطارة الدواء فيهما.. ودعا الله: يارب.. لا تأخذ عبدك الطافش قبل أن يرى أمه الجارية مرة واحدة.. يا رب وبعد ذلك لا يهمّ الموت.. وتحسس موضع سلسال صديقته المعلمة.. همس خافت موشى بذكريات حب قديمة يرقد مكانه.. إذا سقطت الآن.. مرابط خيلنا فوق أثينا.. وكيف سينقلون هذه الجثة، من سيعرفني؟ وكيف ستستقبل أمه ولدها الحلم الطافش أبداً؟..

وبحركة عصبية ضغط الزر الأبيض فوق رأسه.. حضرت المضيفة الشابة.. قذفته بابتسامة سريعة وببعض مفردات اللغة الباريسية بغنتها.

لم يكن يعرف ماذا يريد.. ولماذا دعاها.

ـ هل لك أن تجلسي قليلاً؟. أرجوك.

تأملته.. حالة حصار أسود يغطي ملاحات عينيه.. جلست.. قدم لها سيجارة "إلهام" الجزائرية.

قالت: أنا لا أشرب إلاّ المارلبورو الأبيض.. لتكن أمه.. أخته.. صديقته.. امرأة رقيقة نبيلة من هذا العالم الموحش الشاسع.. طالما أن العاصفة ستلتهم هذه الطائرة قريباً ولن يشاهد أمه أبداً ولا أقرباءه الشامتين.. وطالما وهذه المضيفة سيسقطان جثتين فوق مدينة الأباطرة والحكمة.. لتكن والدته لدقائق معدودة.. يعانقها العناق الأبدي.. آخر أنثى يدغدغ مسكوناً بالرهبة يديها الناعمتين، وحلمة عينيها.

ـ من أين الآنسة؟

ـ من سيدي بلعباس.. ياخويا.

ـ .......

ـ أتعرف سيدي بلعباس؟

ـ جيداً.. من أي الأحياء؟

ـ من "فيلاج تيار"*

"فيلاج تيار" ... يا لله ما أبدع المصادفات التي تأتي هكذا فجأة كما ملح البحر، وماء المطر .. فيلاج تيار زهرة البنفسج.. واحة الظامئين المعطاءة.. السنونوة المعانقة خمائل الله وغدرانه.. البحر والجدول النهر.. والسماء الصافية والزرقة وشجيرات البرتقال الأليفة التي تحتضن أسطحة المنازل القرميدية .. والنوارس المغتربة.

ـ إذاً .. أنت من "فيلاج تيار".

ـ لماذا اضطربت؟ وتعرف "فلاج تيار" أيضاً؟ يالعفريتت.

ـ كما العصفور عشه يعرف، وكما الوردة أكمامها.

ـ آه.. يادين الرب.. ياالكلوشار، يالعاشق. فضحتك.

ـ من تعرف في "فيلاج تيار"؟ (*)

ـ لي بعض الأصدقاء.

ـ هيا قل لي.. لا تكذب.. هل أعجبتك نساء سيدي بلعباس ... آه.. يالحلوف أنت تذهب إلى سيدي بلعباس.

وقالت الفتاة بشكل عفوي: سيدي بلعباس مدينة النساء، والمجاهدين، والبرتقال، والقوادات والقحاب أيضاً، مدينتي وأعرفها أكثر منك.

وأحس أن هذه المرأة التي تتحدث عن مدينتها بهذا السيلان، تفجأ حبه وعشقه للمدينة. وقال لها: أنت تظلمين الناس وصفاء المدينة. أرجوك أن لا تتحدثي عن مدينة أعشقها حتى الثمالة بهذه الطريقة الفجائعية.

ـ أي صفاء هذا.. ياولدي.. مامعنى أن يحب غريب مثلك سيدي بلعباس.. أنت عاشق للبورديلات السرية .. آه يا لحلوف.

وأقسم لها برأس والدها بأنه لا يعرف أن في المدينة بيتاً واحداً للدعارة وقال لها:

ـ هل لك أم؟..

ـ في فرنسا تزوجت من فرنسي بعد أن مات والدي.

ـ هل تريدين أن تكوني أمي؟.

ـ "وقيلا أنت أحمق" (*) .. أنت أكبر مني أليس لك أم؟

ـ لم أشاهدها منذ زمن .. مريضة في المطار تنتظرني.. لكن الطائرة لن تصل.. انظري الغيوم تفترسها.. قريباً ونسقط معاً هنا، أيتها المرأة فاتحة النهايات والبوابات وأسرار سيدي العباس.

ـ آه يا ميمتي.. "فال الله ولا فالك ياشيخ".. أبعد هذا الوسواس أرعبتني، سأصحبك الى سيدي بلعباس (*) تتخذ خليلة ، وأماً، وستعرف أني لا أكذب عليك.

وهي تتأمل عينيه الغارقتين بالترحال والكآبة، وجسده النحيل، والشيب المفترس مساحات الرأس، وشعوره بأن الطائرة ستسقط قالت له:

ـ وكل الله.. اقرأ الفاتحة والكرسي ويس.. أكيد أنت شربت أكثر من اللازم.. هات الكأس. وربتت مكفهرة على كتفه، ونهضت لتقدم زجاجة لأحد الركاب الذي أصرّ على إحضارها في الحين.

ـ 3 ـ

لا يزال يفترش درجات المسرح البلدي.. يتزاحم الناس... يركضون كلما لاحت حافلات الوردية وسيدي بوسعيد.. ولكنهم سرعان ما يعودون لأخذ مواقعهم.. سيدات بشعور سوداء طويلة لا ينتظرن أحداً ولا يصعدن الحافلة.. ولا يعرف لماذا ينتظرن.. منذ ساعة وهو يراقبهن. بدون كتماثيل رخامية وهن يسندن جدران المسرح البلدي.. لكي لا يفكر بالسقوط.. مرت أمامه فتاة ترتدي سروال جينز، بدا صدرها نافراً ولأول مرة يشاهد صدر امرأة يصدم الريح والضباب والسيارت والمقاهي ولا يخاف رجال الشرطة: وتذكر مقطعاً من أغنية عربية :

"ياناس.. قولوا لبويا.. كبر نهدي.. شق ثوبي.. ياطول وجدي من رقادي وحدي".

نهدها يتشامخ كالعمّ "سام" .. وكأدغال أفريقيا السمراء.. يا ناس زوّجوها فالأرق يقتلعها.. وهذا النهد المشاكس سيشق الثوب وأشياء أخرى إن لم يجد من يضمّخه بالغار وتوابل الأجداد.

يقابله فندق "ميريديان" منتصباً كتنين صاعد من البحر الأسود المتوسط.. ويجاوره البنك العربي الدولي. عبثاً يحاول عدّ طبقات الفندق، فالملح كثيراً ما يمنع مساحات بصره من الرؤيا.. لكن عينيه تزوغان في اتجاهات أخرى.

في أحد الطوابق القريبة امرأة تراقب الشارع.. تأكد أن صدرها عار... لكنه لا يستطيع التأكد فيما إذا كانت جميلة أم لا.. وقدّر المسافة بينهما.. لاشك أنها سنة ضوئية من الأحلام والمنى التي تؤرقه في أحيان كثيرة.. وتساءل: من يرقد الليلة فارداً جوعه وفحيحه في سريرها.. من هذا القادم من بوابات الصحراء التاريخية، سابحاً فوق بحر من الذهب، والذي سيعطيها شيكاً مصرفياً دولياً تذهب به ذات يوم إلى البنك العربي للانماء والتعمير لتصرفه؟. ما أكثر مصائب العرب.. أموالهم تضيع وتسافر بين أفخاذهم وأكفالهم.

لماذا لا نبني اقتصاد الأمة ونعيد مجدها الغابر، ونصقل سيوف الأجداد. لا تزال هذه الأرض تحتفظ بإمكانات هائلة للأبناء؟.

كمن يلقي خطبة في الوطنية والصراع الطبقي وظروف القهر.. أحسّ برغبة في التقيؤ.. ما أسخفني من سياسي مبتدئ .. يتعلم كيف يتقن فن المزاودة.. لو كنت رجل سلطة كبير لرفعت راياتي البيضاء، وحجزت غرفة في طابقها، ولرشوت موظف الاستقبالات وعامل التنظيفات كي يساعداني، ولا يبوحا بسري, ولذهبت فارداً قلبي وسلطتي وهمومي أمام فخذيها الناعسين وجياد شعبي وخيراته.

ـ 4 ـ

تذكّر مرّة وعندما كان طالباً يشترك في المظاهرات الثورية والتقدمية.. أنه فكّر بالانخراط في أحد الأحزاب السياسية ، دافع غريب مجنون أشعله.. هذيانات عامة، وساوس بالثورة والعدل والآفاق المفتوحة.. فتقدّم بطلب كتب عليه: لي الشرف أن أحظى بقبولي عضواً في حزبكم الطليعي وتابع، ووقع في نهاية الطلب. وبعد عدة اجتماعات تبين أن مسؤوله المباشر والذي لا يزال في خطواته الأولى باتجاه الثورة.. والذي ما فتئ يصرخ راسماً آفاقاً واسعة لدولة علمانية عريضة تقوم على العدل والمساواة.. وأشياء أخرى لم يستوعبها بعد، هو من كبار تجار المدينة.. وله أسهم مهمة في شركة "شفروليه" المحدودة المغفلة لبيع السيارات واستيرادها وله أسهم أخرى في أحدث مشروع سياحي لإنشاء مدينة يؤمها الأوربيون، لينعموا بالشمس والدفء والبحر والخمور الوطنية والأجساد المحلية والضيافة العربية التقليدية وله أرصدة في البنوك، وتبيّن له أن ثلاث رخص لشراء الغاز وبيعه باسم زوجته سليلة السيوف التاريخية وتجار الحرير، وأن ابنته المحروسة "كارمن" لا تذهب إلى ثانويتها إلا بمرافقة سيارة خاصة مع سائق وحارس وكلب "سلوقي". وتذكّر فجأة وهو يتأمل الفندق المتشامخ خطاباً ألقاه أحد القادة السابقين : لعنه الله على من يمدّ رجله إلى رجل آخر مثله وربما أفضل منه ليمسح حذاءه (*). لقد أصبحت مدننا الأثرية الطحلبية غاصّة بماسحي الأحذية من مختلف الأعمار وتذكر... وتذكر . ياسيد الخطباء.. أمّا من خطاب آخر؟

ـ 5 ـ

شابة راعشة العينين تتهادى كصيف إفريقي وكرياح الشمال ساعة يعربد البحر لافظاً أبناءه وأحبته.. مرفوع ثوبها إلى أعلى ركبتيها.. تتقدم بأناة. ظنّ أنها قائد فيلق عسكري يخطط لمعركة بعد عناء يوم شاق من التدريب والمناورات .. أحّس برغبة عميقة لدعوتها إلى كأس بيرة في مقهى "باريس" .. ولو أنّ في ذلك مخاطرة . كان يعلم أن الجنرالات العسكرية لا تشرب البيرة في المقاهي العامة، فشرف الوطن والجيش، أن يشرب قادته في نوادٍ خاصة وفضاءات حمراء وخضراء مغلقة تشحذ الذاكرة وتنقيها ، حتى يستطيعوا العمل بإخلاص ووطنية بعيداً عن الرعاع والهمج والطبقات الدنيا التي لا تعرف كيف تقدّر عظماءها التاريخيين.. فكّر بدعوتها ثم رجائها أن تسحب أسلحتها الفتاكة, وتؤجّل استعمالها لوقت آخر.. تحسس جيوبه بأصابع مرتعشة.. لم يجد المبلغ الكافي، قد تطلب أكثر من زجاجة.. وهنا تكون المصيبة.. تركها.. ابتعدت تهتزّ بتناسق، وخطوات عسكرية متزنة على أنغام صالة "ميرديان" "يا أرض اشتدي ما حدا قدي".

صوت زميله كمال الشايب ،هذه الواحة الخضراء المضيئة من طبرقة حتى جندوبة، والذي ينتظره منذ أكثر من ساعة ونصف يخطفه من ذكرياته المتداخلة.

ـ آسف لتأخري عليك.. أنت تعب وقلق .. تعال أنعش روحك الظامئة.. وخذ زجاجتين من "سلتيا "(*).

نهضا مسرعين.. سارا باتجاه حانة تربض كسروة في إحدى الزوايا، وترصد الناس والفضاء الرحب وطيور المساء التونسي.. غابا بين جموع السكارى وكانت لوحات سريالية تثقب تداعيات أفكاره وألم عينيه وبحرهما، وطفشه الدائم.أمّا الموسيقى في نادي "الميرديان" فقد كانت تعلو مبتهجة معلنة رحلتها صوب القامات الممشوقة والعيون الخضراء وجنرالات الجيش الشرفاء الذين عرفوا بتذوقهم للموسيقى الشفافة، وللجمال الساحر والمؤخرات الناعسة.

كتبت هذه القصة في تونس العاصمة
فندق سيدي بلحسن

إشارات
فيلاج تيار : أحد الأحياء الجميلة في مدينة سيدي بلعباس الجزائرية التي تقع في الغرب الجزائري.
وقيلا أنت أحمق : ربّما أنت أحمق .
• هذا المقطع من خطاب ألقاه الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة .
• سلتيا : نوع من البيرة التونسية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى