كتاب كامل نـمر سعدي - غبارُ الوردة.. ايقاعات نثريَّة - (تابع1)

أحمد حسين.. شاعرُ حيفا المعذَّبُ بجمالها

بترجُّل شاعر ملاحم الحبِّ ومطوَّلاتهِ المتمرِّد الفلسطينيِّ البهي أحمد حسين يفقدُ الشعر الفلسطيني والعربي صوتاً شعريَّاً استثنائيَّا بالغ العذوبة ومن أصفى الأصوات في الشعريَّة العربيَّة الحديثة، حالم كبير يتناقصُ برحيلهِ منسوبُ الفتنة في كل غواية، ويتغيَّر طعمُ الأشياءِ الجميلة المعجونة بالحنين والتلفُّتِ إلى الوراء.
كانَ أحمد صديقي وكنتُ دائم التواصلِ معه وكنتُ أجد فيه عبقريَّة شعريَّة ونقدية لمَّاحة ومتفتِّحة، كان يتابعُ قدرَ ما يُتاحُ له ما ينشرُ من شِعر في الصحف والمجلَّات الأدبية المحليَّة والعربيَّة ويُبدي رأيه في هذا الشاعر أو ذاك باختصار وكان رأيه النقدي دائماً يعنيني ويصوِّبني نحو الطريقِ الصحيحة، وعندما أهديته ديوان (يوتوبيا أنثى) الصادر في ربيع عام 2005 أبدى إعجابه بهِ وكان نادرا ما يُعجب بكتابات شعريَّة محليَّة ومعروف عنهُ أنه لا يجاملُ أحداً على حساب القصيدة.
في فترةٍ معيَّنة كانَ مسكوناً بهاجس حواري روحي مع صنوه الشعريِّ محمود درويش تجلَّى ذلكَ في الكثير من كتاباته الشعريَّة والنثريَّة، مع أن أحمد لم يكرِّس حياته للشعر ولم يترهبن له لكنه كان ندَّاً قويَّاً لشعراء عرب مبدعين ومكرَّسين عاشوا كشعراء نجوم.
صحيح أن القارئ العربي لم يسمع باسم أحمد حسين وهو شاعر فلسطيني من قرية مصمص القريبة من مدينة أم الفحم في منطقة المثلَّث الشمالي، وشقيق الشاعر المقاوم راشد حسين، ولكن إذا وضعنا اسمَ محمود درويش جانباً ونحن نقيِّم الشعر الفلسطيني الحديث فإن تجربة أحمد حسين بنظري تعدُّ من أهمِّ تجارب الشعر الفلسطيني، إن لم تكن (بعد تجربة درويش) الأهمَّ والأقوى جماليَّاً وشعريَّاً على الإطلاق، ويعدُّ صوته من أصفى وأجمل الأصوات في تاريخ فلسطين الأدبي كلِّه، شاعرٌ آثرَ العزلة والظلَّ على منصَّات الضوء، آثر الابتعاد عن جو شعري غارق في الركاكة والضحالة والبؤس الثقافي والانشائيَّة.
ظلَّ منجز أحمد حسين الأدبي شبهَ غائب أو بالأصَّح بعيداً عن متناول يد القارئ العربي خارج فلسطين، فمن النادر أن تجد قصيدةً أو مادةً أدبية له أو عنه على شبكة الانترنت، ليس فقط لا تجد لهُ أو عنه مادة وافية ضافية على محرِّك البحث غوغل، بل لا تكاد تلمسُ حضوره في الذاكرة الجمعيَّة للشعر العربي الحديث، على قلِّةِ دواوينه نجد بصمتهُ وتأثيرهُ على أجيال متعاقبة من الشعراء الفلسطينيين، شاعرٌ بجمال وصفاء شاعريَّةٍ مذهل، عذبٌ حتى حدودِ الينابيعِ البريَّة، باذخٌ حتى حدائق السماء، شكَّل ديوانه الأثير (قراءات في ساحة الإعدام) الصادر عام 2004 ذروة تعبيريَّة ونقطة مفصليَّة لا على مستوى الشعر الفلسطيني فحسب بل والعربي الذي بقي أحمد حسين بإرادته وعن قناعة تامَّة خارج أسوار مدنه الفاضلة، وخارج تنظيراته النقديَّة، ديوانه هذا كأنما كُتب بضوء أزرق لجمال وروعة تراكيبه اللفظيَّة وكثافة اللغة الشعريَّة الفريدة. قصيدته وحدها هي التي تشهدُ له، قصيدتهُ التي عانقت في ديوانيهِ الرائعين (بالحزن أفرحُ من جديد) و(قراءات في ساحة الإعدام) القلق الوجودي والهمَّ الإنسانيَّ ومزجت الملحمي بالواقعي والغنائيَّ بالأسطوريِّ والتفعيلةَ والشعر العموديَّ بأجمل نماذج شعر التفعيلة وأعلاها وأصفاها، طالما قلتُ بأنهُ سيمرُّ وقتٌ طويل قبل أن تنجب فلسطين شاعراً حقيقيَّاً بقامة وبقيمة أحمد حسين الذي جدَّد في أشعارهِ بصورة أعمق وأكثر حداثةً وفنيَّةً من شقيقهِ راشد ولكن شهرة الأخير كانت في كثير من الأحيان تغطِّي عليه.
المطالع الشعريَّة العالية التي عُرف بها هي ما كانَ يُميِّز ذراهُ المجازيَّة والتعبيريَّة كما في هذا المطلع المذهل لمطوَّلته العامرة (بالحزنِ أفرحُ من جديد) وهي قصيدة تحمل دلالات كثيرة على قوَّةِ الصياغة اللفظيَّة وجمال المجازات والصور الفنيَّة.
سَأَمُرُّ مِنْ بَعْضِ النِّساءِ إِلَيْكِ، لكِنْ لَنْ أُفَتِّشَ عَنْكِ في امْرَأَةٍ سِواكْ.
أَعْطَيْتِني جَسَدًا، خُذيهِ إذَنْ!
سَئِمْتُ مِنَ الوُقوفِ عَلى غِيابِكِ تَضْحَكينَ وَتَحْزَنينَ وَلا أراكْ.
وَتُبَدِّلينَ ثِيابَ نَوْمِكِ في السَّريرِ وَلا أَراكْ.
وَتُحاوِلينَ العِشْقَ مِنْ غَيْرِ الرُّجوعِ إلى تَفاصيلِ الجَسَدْ.
هَلْ أَنْتِ عاشِقَةٌ أمِ امْرَأَةٌ تُحِبُّ بِدونِ نَهْدَيْها يُدَوِّنُها السَّريرْ
جَسَدًا بِلا مَعْنى،
مُحاوَرَةً عَلى صَيْفِ المِلاءَةِ بَيْنَ جَهْرِ السّاقِ بِالأُنْثى وَغَمْغَمَةِ الحَريرْ.
هَلْ أَنْتِ عاشِقَةٌ أَمِ امْرَأَةٌ!
تَعِبْتُ مِنَ التَّجَوُّلِ في شَوارِعِكِ الأَنيقَةِ كَالزُّجاجْ.
جَسَدي يُلاحِقُني،
أَفِرُّ إلى القَصيدَةِ مِنْهُ، أَتْرُكُهُ لِتَقتُلَهُ النِّساءُ المُسْرِعاتُ إلى المَساءْ،
يَحْمِلْنَ تَحْتَ ثِيابِهِنَّ اللَّوْزَ وَالرُّمّانَ
وَالزَّهْرَ الَّذي نَثَرَتْ عَلَيْهِ «عَناتُ» نَشْوَتَها لِمائِدَةِ الحَبيبْ.
كُلٌّ وَلَيْلَتَها، وَلكِنَّ النِّساءَ هِيَ النِّساءْ.

وداعاً شاعري الأجمل، عاشق حيفا وكرملها، ومغنيها الأعذب والمعذَّب بجمالها، طالما حيَّرتني عذوبةُ قصائدك، طالما أذهلتني بروق مجازاتك، أحتاجُ إلى عدَّة أعمارٍ كي أصلَ إلى عمقِ لغتك الشعريَّة.
عليكَ يبكي الجمالُ نفسه.

***

أن تقبضَ على الشمسِ بقلبكَ
(في وداع الشاعر الفلسطينيِّ الكبير سميحِ القاسم)

الكتابة عن شاعرٍ بحجمِ سميح القاسم صعبة.. بل صعبة جداً.. كيفُ أستطيعُ أن أصفَ علاقتي بشاعرٍ يستندُ إلى أسطورة وتغرفُ عيناهُ من قمر شاردٍ؟!
لم أصادفُ إنساناً يتمتَّعُ برصيدٍ معرفيٍّ ثقافي كسميح.. مرَّة يسألني عن تناص معيَّن وردَ في إحدى قصائدي يعانقُ جملة شعرية لشاعر فرنسي أسمهُ لوتريامون.. يقولُ لي هل قرأتهُ؟ أجيبهُ أنني قرأت نصف ديوان أناشيد مالدورور.. وتأثرت جدا بأجواء هذا الشاعر السريالي.. فيطلبُ مني أن أقرأه بعمق وأن أحاولُ أن أربط بينه وبين السريالية والرمزية باعتبارهما مدرستين فنيَّتين وشعريتين ظهرتا في القرن التاسع عشر في فرنسا.. وأن أعي الظروف التي أحاطت بهما..

لم يمنع تحمُّس سميح للجواهري من الإعجاب بشعراء كثيرين لقصيدةِ النثر العميقة والمركبَّة وقد حدَّثني مرَّة أنه كانَ في أمسية شعرية في لندن برفقة نزار قباني.. فلفت انتباهَه شاب لبناني يكتب قصيدة النثر ويحملُ دفتراً صغيراً فيهِ بعضُ القصائد التي أعجبته جدا لدرجة أنه طلب من الشاعر الناشئ أن يصعد على المنصة ويلقي شِعرهُ إلى جانب الشعراء الكبار في ظلِّ تململ نزار.. سميح لم يقل لي اسم هذا الشاعر الشاب ولكنني بعد شهور اتصلتُ به وذكرتُ له اسماً لشاعرٍ لبنانيٍ شاب أنذاك.. عرفتهُ بطريق الصدفة وكثرة المتابعات الشعرية على الشبكة العنكبوتية.. سميح لم يكن متأكداً حينَ قالَ لي ربما هو..

كانَ يحب أمل دنقل كثيراً رغم هناته العروضية في الكثير من قصائده الموزونة ويقول أن شعلته انطفأت في أوجِ توهجِّها.. وكان يعتبرُ محمود حسن اسماعيل آخر الشعراء المصريين الكبار بعد أحمد شوقي.. ويكنُّ احتراماً خاصَّا لأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر.. ولأنه كانَ التلميذَ الوفيَّ لبدر شاكر لسيَّاب الذي رثاه بمرثيَّة أبوية عندما رحل في 1964 فإنه سارَ على نهجهِ التجديدي ولم يجدِّد إلاَّ على أساس الموروث الشعري العربي.. فلم يتخلَّ حتى أواخر أيامهِ عن القصيدة العموديَّة المكتوبة بنفس حداثي جميل.. وكثيرا ما كان يفتخرُ بمديحِ الناقدة الفلسطينية العريقة سلمى خضراء الجيوسي له بأنه بتجربته الشعرية المفتوحة على تحوِّلات كثيرة وتجريبٍ متنوِّع يشكِّلُ أبهى صورة لتجليَّات الحداثة الشعرية العربية على الإطلاق.

أكثرُ ما كان يُميِّزُ الشاعر سميح القاسم في أمسيَّاتهِ الشعرية حضورُ روح الدعابةِ والنكتةِ والثقافة العامَّة إلى جانبِ الشعر الرصين ذي المعاني الإنسانية العميقة والروحِ الوطنيَّةِ في إلقائه الهادر كأنه على قمةِ الأولمب.. كان قادراً على جذبِ انتباهِ الجمهورِ للشعرِ وإثارةِ كوامنِ فرحهِ وحزنهِ وتأمله وتتبعِّهِ لآثار الجمال بقصائد طازجة وطالعة من خميرةِ الحياةِ كالزنبقِ الحارِّ. بلغةٍ أخرى كانت مهمتهُ إصلاح الخراب الذي يجتاح العالم بالشعر.. أو بناء ما ينهارُ من روح الحياةِ بالورد.

قصيدة سميح القاسم هذه لا تفارق بالي منذ رحيلهِ.. لا لحرارتها وجمالها وعفويتها وشعريتها فحسب بل لأنها أوَّل قصيدةٍ أحفظها لهُ وأنا ربما دونَ العاشرة من عمري أتلمَّسُ بعينيَّ وقلبي طريق الشِعر.. كان التلفزيون السوري يذيعها بحماسة في بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

خلو الشهيـد مكفنـا بثيابـه ....خلوه في السفح الخبيـر بما بـه
لاتدفنوه.. وفي شفـاه جراحـه ...تدوي وصيـة حبـه وعذابـه
هل تسمعون؟دعوه نسرا داميـا .... بين الصخور يغيب عن أحبابـه
خلوه تحت الشمس تحضن وجهه ... ريح مطيبـة بـأرض شبابـه
لاتغمضـوا عينيـه إن أشعـة ... حمراء مازالـت علـى أهدابـه
وعلى الصخور الصفر رجع ندائه .... يا آبها بالمـوت لسـت بآبـه
خذني الي بيتي, أُرح خدي علـى ... عتباته.. وأبـوس مقبـض بابـه
خذني إلى كرم أمـوت ملوعـا ... ما لم أكحِّـل ناظـري بترابـه

سميح القاسم كانَ صديقي..أقولها الآن بصدق.. شاعر عالمي كبير متمرِّس ومجرِّب فذ يصادق إنسانا بسيطاً مهتماً بالشعرِ من عامة الشعب ويقاسمه القهوة وسجائر البرلمنت الفاخرة ويتحدَّث معه بعفوية تامة في أول لقاء عفوي بينهما.. كانَ معي كاتب صديق في نحو الستين من العمر يجامله سميح بعفوية ومرح: راجع شباب.. نضحك ثلاثتنا لدماثة روحه.. كنت أنشر حينذاك في جريدة نصراوية وكنتُ أحملُ العدد الأخيرَ منها وفيهِ قصيدة منشورة لي.. يطلب مني أن يقرأها وبعد ذلك يقول لي: نمر قصيدة جميلة جدا ولكن انتبه هنا في هذا البيت خلل عروضي طفيف.. الأفضل أن تحذف حرف الواو لكي تتسلسل موسيقا الشطر الشعري.. كنت أظنُّ نفسي الخليل بن أحمد حينها.. ولكنه علَّمني برفق كيف ألتقط اللحظة الموسيقية وأوظِّفها في القصيدة.. منذ اتصالي الأول به كانت هناك لغة روحية مشتركة بيننا.. اليوم قدَّمت واجب العزاء لذوي الراحل العزيز وبكيت في الطريق الى الرامة الشمَّاء التي تستندُ على سفوح جبل حيدر كالعنقاء.. بكيتُ لسببين.. أولاً لأنني عانقت روح الشاعر المرفرفة في فضاء قريته الرامة.. وثانياُ لأنني لم أستطع أن أودِّعه حيَّاً وهو يذوي كمجرَّة من الحدائق والنجوم حينَ قالَ لي في آخر حديث هاتفي بيننا: نمر خلينا نشوفك.

ذكرَ لي مرَّةً أنه ذكرنا نحنُ شعراء فلسطين الشبَّان في قصيدةِ جميلة فيها سخرية لاذعة من الموت بعنوان "المستشفى" يواجهُ بها مرضَه وقالَ بأن كتابتنا تكفكفُ دموعه.

سنقول يوماً ما بافتخار أننا عشنا في زمن سميح القاسم الشعريِّ.. كما يتحدَّثُ الإسبان عن لوركا والتشيليون عن بابلو نيرودا والفرنسيون عن بودلير وملارمه سنتحدث عن شاعرنا الحبيب سميح القاسم الذي كانَ بالإضافة إلى كونهِ شاعراً عظيما إنساناً عظيماً أيضاً يمتلكُ حسَّاً إنسانياً يبلغُ أقصى درجات النبل والكمال والتواضع.. سميح يشرِّفُ وطناً ويشرِّفُ أمَّةً بأكملها.

سميح القاسم كانَ السرحة التي آوت عصافير أرواحنا وما تزال.. والغيمةَ الناصعة التي ظلَّلتنا بحبٍّ وحنوٍّ. فيما قلبه يقبضُ على شمس الشعر الفلسطيني برهافة فراشة.. لروحهِ المجد والخلود.

*******

بدر شاكر السيَّاب.. أسطورةُ شاعر

قبل نصف قرنٍ وبالتحديد في الرابعِ والعشرين من ديسمبر مات الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السيَّاب في المشفى الأميري في الكويت وشُيِّع في يومٍ ماطرٍ ليوارى الثرى في مقبرة الحسن البصري في مدينة الزبير بجنوب العراق في جنازةٍ كادتْ أن تخلو من المشيِّعين.. مات فقيراً معدماً إلا من جذوةِ الشعرِ الذهبية ونارهِ المقدَّسة الخالدة.
ما الذي سيبقى من شاعر المطر بعد كلِّ المياه التي جرت تحت جسر الشعر العربي والانقلابات الشعرية والتطورات الدرامية التي حصلت بعده على مستوى القصيدة العربية؟ مجازياً يبقى كل شيء.. رائحةُ المطر الخريفي.. عطرُ آب.. اللغة الحالمة الرومانسية.. الألوان الجميلة الخلبيَّة.. برزحُ الأحلام.. لسعةُ الاغتراب الجميلة.. الواقعية الشعرية الجديدة.. كلُّ شيء تقريباً.. ولكن هذا السؤال ربما سيظلُّ مفتوحاً على مصراعيه رغم مئات الدراسات التي حسب ظني لم يحظَ بمثلها أي شاعر سواه والتي كُتبتْ عن تأثير هذا الشاعر المبدع الفذ الذي عرفَ كيفَ يغرسُ وردة القلقِ والجمال في رمادِ قلوبِ حوَّارييه الكثيرين.. في تجارب شعراء الحداثة العرب الذينَ خرجوا من معطفهِ وشكَّل لهم بدر أباً شعرياً استثنائياً.
رحلَ بعدما طوَّف مع جلجامشَ في مغامراتهِ وشبعَ من الحياة بعدما عاشَ طويلاً وصاحبَ عوليسَ في ضياعهِ على حدِّ تعبيره.. ليسألَ في النهايةِ : ألا يكفي هذا؟
السيَّاب بكوكبه الشعريِّ المتوهج لا يزالُ يشعُّ بقوَّة حتى بعدَ نصف قرنٍ من الزمن على رحيلهِ ولا زالت شظاياه تلمعُ في ليلِ الشعرِ العربي وعلى أصابعِ أتباعهِ وستلمعُ إلى الأبد.
أتذكرُّ خريفَ عام 1996 حينَ بدأتُ أتعرَّف على تجربتهِ بعمق كيفَ كانَ يأخذني بحركة سحريَّةٍ ناعمة إلى عوالمهِ الموسومة بالضبابِ الضوئي ولغته الرومانسية الثائرة المليئة بالصور البديعة والملتقطة بحساسية عالية لأوج اللحظة الشعورية.. حينها لم أكن قد تخلَّصتُ بعدُ من تأثير كثيرين على رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي وأرستقراطية صوتهِ الشعري.. في هذه السنة قرأت بدراً أكثر من مرَّة وفرحتُ بمنجزه الشعري المختلف في ديوانهِ الصادر في جزئين عن دار العودة وسرعان ما اكتشفُ أنني أنتمي إلى لغةِ بدرِ الحالمة وقصائده المنفعلة وحميمية الخطاب الشعري الذاتي.. الانفلاتُ السيابي من طوقِ التفعيلة الخليلية كان يعجبني فهو بالنسبة لي شكَّلَ بوابةَ لحديقة الحداثة الشعرية ولاستيعاب شعريَّات عربية لاحقة.
كانَ بدر يكافحُ الموتَ بالقصيدة أو كمن يبعدهُ بها عن جسدهِ النحيلِ ليكتبَ حتى انطفاءِ النفَس.. وأعتقد أن أجمل وصف أسطوري للسيَّاب هو ما قالهُ أنسي الحاج عنهُ بأنه (جاهلي بدوي فولكلوري خرافي انكلوسكسوني على واقعي هجاء ورثّاء مدّاح بكّاء، يسيل به الشعر سيل قريحة فارطة، ويسيل معه الشعر حتى الموت).
يقول يوسف الخال في تقديمه لكتاب عيسى بُلّاطــــــة، بدر شاكر السياب، حياته وشعره:"... السياب، في حياته وموته، مأساة قلما عرفها الشعر في كل تاريخه. وكم كان يذكرني بأيوب.." فيما يقول بدرعن مهمة الشاعر "لو أردتُ أن أتمثّل الشاعر الحديث، لما وجدتُ أقرب الى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا، وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها اخطبوط هائل".
لا أعرف لماذا ربط بدر في قصيدته الجميلة (ليلى) الحبَّ بالأخوَّة والأمومة غير البيولوجيتين؟ هل لأنه كانَ يبحث عن تلك التي تحبه بعطف الأخت وحنان الأم التي حُرمَ منها صغيراً وهو ابنُ السادسة..؟ كانَ بطبعه الطفولي يحسُّ أن هناك عاطفةً ما تنقصُ قلوب اللواتي تعلَّقَ بهنَّ عبثاً وقد كنَّ كثيرات.. تكشفُ لنا الدراسات الكثيرة والمهمة عن السياب وشِعرهِ كم كان يحترم العلم ويوليهِ أهميَّةً في الكثير من قصائدهِ.. وكانَ يعني جيِّداً ما يقولُ.. وقد لمستُ ذلكَ في الكثير من أشعارهِ وأخصُّ أنشودة المطر والمومس العمياء.. تماماً كما يعني أي شاعر مغاير.. استفزازي ما يريد قولهُ حتى ولو لم يفصح..
أستعيرُ عدةَ أبياتٍ من قصيدتهِ التي كتبها قبل نصف قرنٍ والتي أصمتُ أمام روعتها.. واشعرُ كأنَّ حقيقةً علميةً أخرى متواريةٌ فيها..
ليلى هواي الذي راح الزمان به
و كاد يفلت من كفيَّ بالداءِ
حنانها كحنان الأم دثرَّني
فأذهبَ الداء عن قلبي و أعضائي
أختي التي عرضها عرضي و عفَّتها
تاجٌ أتيهُ بهِ بين الأخلاءِ
السيَّاب قالَ كلمتهُ ومضى تاركاً الكثير من عواصف النقدِ خلفهُ ولكنهُ في نظري أحد أهمِّ الشعراء الذينَ صنعوا أسطورتهم الذاتية بكل حذق ومهارة وذكاء فطري.

********

حالةُ النشرِ في فلسطين

طالما ألحت عليَّ فكرة الكتابة عن صعوبة نجاح وانتشار الكاتب الفلسطيني المقيم داخل الخط الأخضر، لا لأنها ترسم تلك الإشكالية بين النصّ والمتلقي فقط، بل لأنها من جانب آخر، تعزِّز العزلة التي تُضرب حول أصوات عديدة لها فرادتها وتميّزها وجماليتها في الكتابة الفلسطينية الجديدة. من هذه الفجوة نستطيع أن نحدّد المسافة الفاصلة بيننا وبين الفضاء الإبداعي العربي بكثير من الحسرة وخيبة الأمل، لا بل أن نقوم بمقارنات موجعة.
يسعى الكاتب الفلسطيني دائمًا إلى البحث عن دار نشر عربية، تكفل له انتشاراً وشهرةً خارج نطاق المطابع الضيّق والمحدود الإمكانات، الذي تنقصه الخبرة والطرق الذكية والحديثة. فهو، أي الكاتب، قد جرَّب على جلده في الماضي ما معنى أن يقوم بوظيفة دار النشر أيضاً من طباعة وتسويق وتوزيع وترويج. فلا شكّ في أن مسألة اللجوء إلى دار نشر كبيرة، ذات مكانة مهمّة، وتمتلك آليةً لتوزيع الكتاب الورقي وتسويقه، لها دور فعَّال في نجاح الكثير من أصحاب التجارب الإبداعية الحقيقية، بالإضافة إلى قيمة العمل ومستواه، إلا فيما ندر.
وهذا ما حدا بي إلى نشر دواويني الثلاثة الأخيرة في القاهرة، وبالتحديد لدى دار النسيم للنشر والتوزيع. بعدما عانيت من غياب وسائل التوزيع والتسويق. إذ في ما يخصّ دواويني المطبوعة في فلسطين، فقد قمت بتوزيعها بنفسي على مؤسسات ثقافية وعلى بعض المكتبات الجامعية المحلية والعالمية، وعلى أصدقائي المقربّين الذين يبادلونني مثل هذه الهدايا. ولاحظت عبر طوافي على مكتبات كثيرة، مدى تنكّر أصحاب المكتبات التجارية للكتاب المحلي. كما لو أنّه سيجلب لهم سوء الطالع.
في حيفا هناك مكتبة "كل شيء" وهي دار نشر عربية، من سنوات السبعينيات، تهتمّ بالكتابات الإبداعية والثقافية. وكثيرًا ما تعاونت مع دور نشر عربية مهمّة مثل المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمّان، ومنشورات ضفاف والدار العربية ناشرون في لبنان في مجال إصدار الكتب. لكننا لا نكاد نجد دار نشر أخرى شبيهة بها في الجليل، في شمال فلسطين. بينما نجد الكثير من المطابع التي تتوزّع على عرض البلادِ وطولها. ومنها من يقوم بطبع عدد قليل جداً من النسخ لا يتجاوز المائة نسخة ليقينه أنه لن يفلح في بيع هذا الكتاب.
أصبح الكاتب يتولّى مهمة تسويق كتابهِ، وإقامة أمسيات التوقيع على حسابه الخاص، وتوزيعه على المؤسسات الثقافية والمكتبات العامّة والقرطاسية، وأحيانًا الجامعية وكلّ ذلك على حساب وقته وجهده.
وهذا ما جعل شاعرًا كبيرًا يطبع أيضًا كلّما نوى السفر خارج بلده، عدّة نسخ لأحد دواوينه، لا تتجاوز العشرين نسخةً، ليهديها لأصدقائه الذين يودُّ لقاءهم في البلد المضيف، بعدما نفدت نسخ طبعات ديوانه الكثيرة من السوق. وروى لي كاتب معروف أيضًا أنه يتعامل مع دار نشر خاصّة تطبع له عددًا محدودًا جدًا من كتبه الشعرية والنثرية، لا يتجاوز في أحسن الأحوال مئتي نسخة، بينما يقوم هو باستلامها من المطبعة وتوزيعها على أصدقائه القليلين، ونادرًا ما تحظى بأمسية توقيع أو بندوة بحث أو بـ "أصبوحة" شعرية أو بالتفاتة عابرة في صحيفة أو موقع إلكتروني.
يذكّرني هذا الشيء بالذي كان يجري في فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي دول الاتحاد السوفييتي السابق، وبعد انهياره تحديدًا، حينما كان الكاتب أو الشاعر يطبع على نفقته عددًا محدودًا جداً من كتابه، لأسباب كثيرة منها الفاقة وكساد سوق القراءة، وانكسار روح الأمل وسطوة المادة وتوّغلها في الإنسان.

********

حرائقُ أدونيس

لا يزال صاحبُ (أغاني مهيار الدمشقي) يثير الجدل الثقافي والفكري أينما حلَّ.. سؤاء في مهرجانات وندوات فكرية أو معارض دولية للكتاب.. فمنذ مطلع ستينيات القرن الماضي وهو بصورة أو بأخرى يدير دفَّة الحداثة الشعريَّة ويتشظَّى صوته الصافي في عشراء الأصوات النادرة التي حلَّقت بالشعر العربي الحديث في فضاءات أرحب وأنقى وأجمل.
اذا استثنينا محاولات سلمى الخضراء الجيوسي الأولى في تناول موضوع الحداثة فأدونيس أحدُ أهم الشعراء العرب الذينَ رسموا خارطة الشعر العربي الحديث وحرسوا شمسهُ من الانحدار. والكثير من الدراسات فيما يتعلَّق بالتنظير للشعر وللحداثة العربية استندت بشكلٍ كُلِّي وواضح على كتاباتهِ النقدية وطروحاته الفكرية.. فهو رغم ما يؤخذ عليه من أفكار ومواقف تكاد أن تكون مغالية في بعض الأحيان بنظرتهِ للموروث الفكري العربي المعاصر أو للمنجز العربي الكلاسيكي.. مدرسةٌ شعريةٌ حداثيةٌ مهمَّةٌ. نرى أن أدونيس مولعٌ بالحداثة الغربية وبأفكار سوزان برنار التي تأثَّرَ كثيراً بمفاهيمها حولَ قصيدة النثر ونظريَّة الحداثة الشعرية في الغرب عموماً وفي فرنسا تحديداً. بالإضافة إلى عشقهِ اللا محدود لنثر العرب الصوفي المتمثِّل بتجربة النفرِّي والحلاج وابن عربي.
شخصياً أعتبرُ الشاعر أدونيس شخصيةً فكريةً إشكاليةً ومختلفةً فهو من الشعراء العرب الذينَ كانَ لهم فضل تغيير مجرى نهر الشعر العربي بعد ريادة بدر شاكر السياب وزملائهِ من الشعراء العرب المعاصرين مثل عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني..
حاولَ أونيس برفقة اللبناني يوسف الخال أن يسيرَ باتجاه مخالف لحداثة السياب رغمَ تأثرهِ بتجربة بدر في بداياتهِ بعض الشيء من حيث تنويع البحور الشعرية وطرق موضوعات جديدة في القصيدة ولكنه ذهب أبعدَ مما ذهبَ بدر حينَ حاولَ أن يضيءَ عوالمَ مظلمة ويكتشف مناطق جديدة تستند على حسِّ فلسفيٍ وملامسةٍ للعابر واليومي أكثر.. كل هذا الى جانب إغراقٍ في الأسطورة والموروث الثقافي العربي.. واستعمالٍ لإشارات ورموز وأقنعة دينية وتاريخية عربية وعالمية.
نستطيع أن نفهم طروحات أدونيس عندما يقول في لقائه الأخير على هامش المعرض الدولي للكتاب في القاهرة أن الحداثة العربية لا زالت غائبة وهي ليست أمامنا بل وراءنا وأن الأطروحات الفكرية في القرن الثاني الهجري مثلاً أهمُّ من أطروحاتنا في زمننا الراهن وأنضج. وقالَ ما معناه أن العرب لم يقدموا فكرا جديداً ولا أدباً يضاهي آداب الشعوب الأخرى طوالَ ما يقارب الألف عام أي بعد القرن الثالث الهجري. وأنه لم يظهر شاعرٌ عربي حاولَ أن يصف العلاقة بينه وبين المدينة بشفافية وحميميَّة وأحدث قطيعةً مع ما قبله على نحو ما فعلَ الشاعر العباسي أبو نواس.. ثمَّ يأتي على ذكر الشاعر أبو تمام حبيب بن أوس الطائي فيقول أنه لم يظهر في الشعر العربي شاعرٌ غوَّاصٌ على المعاني الجديدة أعادَ العلاقة مع شعريَّة الأشياء وصاحب كشوفات وفتوحات شعرية مثلهُ وهذه في نظري من مبالغات أدونيس بالرغم من احترامي لعبقرية أبو تمام الشعرية.. ويعرِّج أخيراً على المعري ليقول أنه لم ينبغ شاعر عربي مثله حتى يومنا ليفلسف الشعر ويعالج قضايا وجودية دينية وفلسفية ومسائل غيبية كبرى ويشكِّك في مسلَّمات ثابتة.. بعد ذلك ينفي أن يكون للعرب تاريخا مدوَّناً كما للشعوب الأخرى وأن ابن خلدون كانَ خاتمةَ المؤرخين العرب الكبار.. ولكن لا نستطيع أن نتخيَّله ينزلقُ في النهاية ليصرِّح بأن ما نراه من إرهاب جديدٍ اليوم ليسَ إلا تنويعاً على إرهابٍ قديم وأن الاسلام يجبُّ ما بعدَه ضمناً كما يجبُّ ما قبلَهُ وأن المهاجرين الأوائل مارسوا سطوةً ما على الأنصار او البلاد التي فتحوها.. وقالَ أنه لا يوجد في الإسلام ما ينص على أنه دولةٌ بل رسالةٌ فقط.. ربما يوافقه البعض عندما يقول أنه خلال التاريخ الإسلامي كلِّه لم يهدأ غبارُ حروب العرب ضدّ بعضهم ولكن بالنسبة لكلِّ التأويلات التي تتطرق بجرأة واضحة للإسلام وللنص القرآني الذي يفسِّرهُ أدونيس كيفَ شاءَ هواه أريدُ هنا أن أسأل من أين يأتي بهذا الكلام وهل هناك حقائق علمية واضحة تثبت كلامه الأخير؟ ثمَّ ألا يعرف أن كلامه هذا مرجعية مقدَّسة عند البعض..؟
حاولتُ أن أنشر التساؤل الأخير في صفحتي على فيسبوك فاحتدمَ جدل ضارٍ بينَ فريقين الأول يؤيِّد أدونيس ويعتبره رمزاً عربياً فكريا كبيراً والثاني يعتبرهُ مجرَّد داعٍ إلى التخلي عن أمجاد وأحلام عربية بخطابٍ يدين بشكلٍ أو بآخر الدين.. لم أستطع في غضون دقائق معدودة أن أوفِّف بين الفريقين وعندما رأيت أن النقاش سينحدر إلى دركٍ من الشتائم والسبابِ والعبثية واللا موضوعية قمتُ بحذفِ المنشور.. لأنني أدركت هذه الحساسية في الموضوع في مجتمع يفتقر إلى قبول الرأي المعاكس برحابة صدر.
في النهاية مهما نختلف حول أدونيس وقضاياه الفكرية وآرائه فإننا لا نستطيع أن ننكرَ فضله في حمل راية التجديد بعد السياب في ظلِّ تراجع رفاقهِ أو انشغالهم بالمنافي ومسائلَ أخرى.. ولن نغفل خطى بروميثيوس الشعر الحديث التي كلما مرَّت بغابةٍ آمنةٍ تتركُ الكثير من الحرائق الفاتنة في فضائها المعرفي أو دحرجت بعض الصخور العظيمة في بحيرةِ الشعر العربي الراكدة.

****

عبد الله رضوان.. الشغفُ الأبيضُ بالقصيدة

الكتابةُ عن شاعرٍ راحلٍ تستدعي في الكثير من الأحيان الإمساك بلحظة بيضاء تختزلُ ذاكرةً شعريَّةً ما.. وإذ يصعب علينا الإلمام بجوانب هذه الحياة المنفلتة انفلاتَ الماءِ من بين أصابعنا بسرعة الضوء الهارب من مجرَّة نهرع بكل ما لدينا من نوسطالجيا وحنين ومطر دافئ إلى إعادة قراءةٍ ولو على عجلٍ لموروث الراحل.. هذا ما جرى معي حين أتاني نبأ رحيل الشاعر والناقد الأردني الكبير عبد الله رضوان الذي قرأت مؤخراً عدَّةَ قصائدَ له متناثرةً في الشبكة العنكبوتية فوجدتُ في تجربة صاحب (كتاب المراثي) نفساً شعرياً أصيلاً ولغة وثَّابةً إلى النور والحرية.ولمستُ أنه كان بصورة أو بأخرى يحاولُ في كلِّ مرحلة شعريَّة جديدةٍ أن ينقلبَ على ذاتهِ الشعرية القديمة فهو ينتمي شعرياً إلى جيل السبعينات. الذي حافظ على رونق قصيدةٍ ذات جرس عربيٍّ محضٍ يشي بكثير من الفرح الغامض والجمال السريِّ من غير تفلتٍ محموم من نظامِ التفعيلة على حساب ذهنيةٍ نثريةٍ أو أسلوب تقريري مباشر.. ولقد سار من حيث الصياغة المتينة والتركيز على الصورة الشعرية وتواتر النفس الملحمي في ضوء الروَّاد في تطوير قصيدةِ التفعيلة التي أظنُّ أن الشعر الأردني الحديث رفدها بأجمل الأصوات وأصفاها وأغناها وما زال يرفدها. هناك هواءٌ جبليٌّ نقيٌّ في غاية النقاء طالما تنفسناهُ في هذهِ القصيدة التي حلَّقتْ بصورة جليَّة في سماء مليئة بغيوم وردية وأقحوان صباحيِّ وحبق لا يذبل وترجيع جبليٍّ لأغاني الرعاة.
ربما الحديث عن عبد الله رضوان الناثر والناقد الموضوعي والباحث والأديب يتطلَّبُ مقاماً وحيِّزاً آخرين نتركهما لذوي التخصُّص. فلن نستطيع في هذه الإطلالة العجلى على عالم الشاعر أن نحيط بكلِّ شيء. وأن نسبر غور تجربة ابداعية مترامية تركت أكثر من عشرين ديواناً شعرياً وأكثر من عشرةَ كتب نقدية عالجت الكثير من تجارب عربية لافتة ومهمَّة بمهارةٍ وذوقٍ أدبي نادرين.
ما يلفت نظري في تجربة هذا الشاعر المتأنق هو جمالُ انتقاء كلماته بحسٍّ بارع وموسيقا تراكيبه الشعرية المتسلسلة في الأذن كأنها غناءُ نهرٍ أو رنينُ أجراسٍ في حديقةٍ أو جزيرةٍ استوائيةٍ بعيدةٍ.. لنفهم الحزنَ المتغلغلَ في نصه علينا أن ننصت بعمقٍ وجوديٍّ إلى هذا المقطع الذي يقولُ فيه:
أخافُ من الخوف يأتي ..
يحدِّثني .. عن رجال مضوا ..
لن يعودوا ..
لأن مُسوخ القبيله..
أقاموا لهم في الطريق الحرائق.
أخاف من الخوف يأتي قوياً
يخاطبني باسم أقصى العُتاة
ليمتص نسغ الحياةِ
ونسغَ الشجاعة والعنفوان ..
يمارس قتل الأحاسيسِ
يمضي..
ليتركني واحةً من دخان.
لم يُتحْ لي الاطِّلاعُ على بعضِ منجز الشاعر الأردني المبدع عبد الله رضوان إلا في الشهر الأخير ( بعد محنة مرضه تحديداً) بالرغم من أنه صديقي فسيبوكياً ما يقارب العام ونصف العام ولكن لم يحدث أننا تحدَّثنا مرَّةً فيما يخصُّ تجربتهُ الشعرية والنقدية وذلك لقصور مني.. وهو كشاعر مدهشٍ وكناقدٍ ذي مستوى رفيع ورؤية ثاقبة لا يحتاج لأي شهادة من أحد وبلا شك أنه أحدُ هؤلاء الأفذاذ الذين نذروا حياتهم كلها للكتابة وللشعر وللثقافة بكل ما في قلوبهم من نزوع للمحبة وللجمال وللحرية.. نظرة خاطفة على آثاره الكثيرة تدلُّ على ما يشبه حمى الكتابة الجميلة التي رافقته طيلة عمره.. وبما أنني أحزن لرحيل أي شاعر حقيقي أحسُّ الآن كأن شيئاً ضروريا نقصَ من هذا الكون وبأن صرخة خفيَّة ترفرف في القلب.. وداعا عبد الله رضوان. الشاعر والناقد والصديق والانسان.

***

كأنهُ مخضَّبٌ بالنوارس
(عن الكاتب الكولومبي الساحر جابرييل غارسيا ماركيز)

لا أحتاجُ إلى أكثر من ربيعٍ عاشقٍ هادئ والى أكثر من روايةٍ جميلةٍ لماركيز.. منذ سنوات وأنا أردِّدُ هذا الكلامَ الخفيَّ بيني وبينَ نفسي.. أعترف أنني لم أقرأ كلَّ مؤلفات الروائي الكولومبي المدهش غابرييل غارسيا ماركيز.. ولكنني شغفتُ بعالمهِ ولغتهِ أيَّما شغف.. قرأت له خمسة أو ستة روايات من معجزهِ الفذ.. منها ملحمته مئة عام من العزلة وذاكرة غانياتي الحزينات وقصة موت معلن.. لكني لا أستطيع التعبير عن الجماليات السامية واللذَّات الروحية المتأتية عبر قراءتهِ.. الذي قرأ ماركيز بقلبهِ الحيِّ المتفتِّح كزهرةِ صبَّار في العاصفة لا يقوى على نسيانهِ أبدا..هو أحدُ السحرة الرائعين القادرين على اخراجك من دوامةِ حياتكَ بخفَّةِ غيمةٍ وادخالكَ عوالمَ خيالية سحرية وخالية أيضا من الهمِّ والقلقِ الحقيقين.. أعترف بكل حب أن من امتصَّ بوعيهِ رذاذ ماركيز الضوئيَّ لا يقوى على الحلمِ الآن.. ليسَ أمامه سوى أن يصمت.. أو يتأمَّل الفراشات الصفراء التى فاضت من سماءِ ماكوندو الذهبيةِ.. ماذا سأفعلُ من دونِ ماركيز؟ ماذا سأقرأ؟ ماذا سأقول؟ أما كانَ في العمرِ متسَّعٌ كي أتمَّ قراءته؟ أو أعيد قراءة مئة عام من العزلةِ من جديد في أوج هذا الربيع..؟ أرَّختُ لحياتي مرَّة بقراءةِ كتبهِ.. السنة التي قرأتهُ فيها ليست كبقيَّة السنوات.. كانَ لها طعم خاص.. ملمس خاص.. عبير خاص.. دفق يشبهُ وسوسة الندى الصيفي في زهرةِ عبَّادِ الشمس.
في الاسبانية هناك إثنان.. سرفانتس وماركيز.. هما بالنسبة لشعبيهما أكثر من كاتبين. خالطني مرَّة شعورٌ أن ماركيز خلطَ عوالمَ ألف ليلة وليلة وأساطيرَ أميركا اللاتينية بمهارة أدبية خارقة.. أو حاولَ بحذقٍ ماهرٍ أيضاً إتمامَ ما توَّقف عندهُ سرفانتس من سرد غرائبي يحلِّقُ بجناحي الواقعيَّة السحرية.
قرائتي لماركيز فيها نوعٌ خاصٌ من الرهبنةِ والانقطاع شبهُ التامِ عن المشاغل المحيطة.. قليلٌ من الكتَّاب من يفعلُ فعلهُ في ذهنيَّةِ قارئهِ المتلقِّي.. أو يضربُ سوراً من الحميميةِ بينهُ وبينَ عالمهِ المحيط.. لا أعرفُ.. هذا الكاتب خيمياؤهُ غريبةٌ.. تقولُ الفتاةُ البرازيليَّةُ لزميلها العربيِّ في محطَّةِ القطارِ.. كيفَ لو قرأتهُ بالإسبانية؟! لا تتقصَّدي تعذيبي.. يجيبها.. هل لو قرأتهُ بالإسبانيةِ كنتُ سأحصلُ على أكثر من هذا السحرِ في ترجمةِ صالح علماني؟!
لا أستطيعُ نسيانهُ.. فمنذُ أن حملني في ذاكرةِ غانياتهِ الحزينات وقبلها في مئةِ عامٍ من العزلةِ إلى أعلى قمةٍ للكثافة التعبيرية والإيحائيةِ.. منذ أن أبحرَ بي في بحر بلا ماء وأنا لا أستطيعُ الهبوطَ ثانيةً من الأولمب التصويري الخارق، لا أستطيعُ حتى المحاولة أو التفكير في النزول الصعب والمرهق.
أنجزَ ماركيز ملحمته العظيمة مئة عام من العزلة في ثلاثةِ شهور بعدما اختزن بكلِّ عوالمها وتجلياتها وأحداثها وأظنها كانت مدة كافية بعدما عاش التجربة الروحية لروايتهِ الخالدة وتمثَّل شخوصها.. وأظنه كان يكتبُ بلا انقطاع واصلا الليل بالنهارِ ذلكَ النص الحقيقي العميق الشبيه بالوثيقة السرِّية.. النص المشتعل بأوار الشوقِ الى البساطة والحريَّة وصراخِ كلمة لا في وجه الظلم والعبودية.
كلُّ نصٍّ عظيم هو الذي يأتي من حنايا الطفولةِ.. أو شغاف الحلم.. أو أقصى الحنينِ إلى الغيابِ الضروري لاستشعار الخسران.. كأنهُ مخضَّبٌ بزرقةِ النوارسِ البعيدة تماما كنص مئة عام من العزلة.. وماركيز الذي سحرَ بلغتهِ هو ذلك الطفل الأبدي المبقَّع بنور الحبر السماوي.. والذي يعيشُ في طفولتهِ مخضبَّاً بالأوهام والأحلامِ والعبثِ الضعيفِ الهشِّ.. وبوجعِ مستقبلهِ الإنساني.

***

ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود

يحتلُّ الروائيُ البيروفي المبدعُ والمثيرُ للجدلِ الحائزُ على نوبل الآداب لعام 2010 ماريو فارغاس يوسا مكانةً عاليةً ومهمَّةً على خريطة الأدبِ العالمي الحديثِ.. ويحتفظُ بلمعانٍ الأديبِ النجمِ المشاكسِ الاستفزازي والمسائل أبداً على مشهدِ الروايةِ في أميركا اللاتينيَّة خصوصاً وفي العالمِ عموماً.
فهو في نظري الذي قد أختلفُ مع غيري فيهِ من أهمِّ خمسةِ روائيين عالميين أحياء وينضمُ إليهِ في هذهِ القائمة جابرييل غارسيا ماركيز الكولومبي وأورهان باموك التركي. وهو أحد أروع الكاتبين بالإسبانيةِ ذاتِ الجرسِ الجميل والإيقاعِ المتواتر على الإطلاق.. وبما أنَّ الشاعرَ التشيلي بابلو نيرودا أقربُ الشعراءِ العالميين إلى قلبي فإنَّ ماريو فارغاس يوسا أقربُ روائي عالمي إلى نفسي الباحثةِ في رواياتهِ عن استيهاماتِ الحبِّ في مدلولهِ الجسديِّ.. وعن الجمالِ الصارخِ في كلِّ تهويماتهِ وايحاءاتهِ ورموزهِ ويقاسمهُ أحياناً هذهِ المنـزلة الساحرُ بطريقةِ سردهِ التخييلي الكاتب الكولومبي غارسيا ماركيز.

وبما أنَّ يوسا أستاذٌ في الأدبِ الإيروتيكي الذي أخذَ بالرواجِ في الفترةِ الأخيرةِ فقد اعتبرتهُ الأبَ الروحيَّ والمرشد للكثير من الأدباء والروائيينَ العرب الذينَ ركبوا هذهِ الموجة لحاجة في نفسِ يعقوب ومنهم المغربية فاطمة المرنيسي الباحثة في تاريخِ الجنسِ عند العربِ وصاحبة كتب شهيرة في هذا المجال.. والسورية سلوى النعيمي صاحبة " برهان العسل" والسوداني رؤوف مسعد صاحبُ "بيضة النعامة" والمغربي محمد شكري صاحب رواية "الخبز الحافي" الجريئة والصادمة الضاجَّة بالألمِ البشريِّ والبؤسِ الإنساني.

يتبنَّى يوسا في كتابتهِ فلسفةً تحتفي بالجسدِ الأنثويِّ وتقدَّسهُ بصفتهِ أحدَ أهمِّ الرموز التي تستندُ عليها فكرةُ السعادة الأبديَّة وبصفتهِ ملاذاً للإنسانِ المعاصرِ من أتعابِ المادَّةِ وهموم الحياة.. فماريو يوسا كاتبٌ ماجنٌ أبيقوريٌ حتى العظمِ وهذا ما جعلهُ ينقلبُ بعدَ ذلكَ على أستاذهِ الأديبِ الفرنسيِّ جان بول سارتر.. ونراهُ في بعضِ كتبهِ يذهبُ بعيداً في فلسفتهِ تلك وتعريتهِ لمكنوناتِ الجسدِ كما حصلَ في كتابيهِ الحافلين بفن الإيروسيَّةِ "مديحُ الخالة" و"دفاترُ دون ريغو بيرتو" حتى يغوصَ إلى قرارٍ لا يفصل بينهُ وبين الأدبِ البورنوغرافي الإباحي سوى خيطٍ رفيع.
يوسا يختلفُ في أفكارهِ الماجنةِ عن الكثيرِ من الأدباءِ الذينَ تناولوا الإيروتيكيَّة في كتاباتهم. فهو يختلف عن هنري ميلر الكاتب الأمريكي مثلاً فهنري ميلر رغم علوِّ مرتبتهِ في هذا المجال إلاَّ أنَّهُ يبقى سطحيَّاً وعادياً في أغلبِ رواياتهِ الإيروتيكيَّة ولا يحمِّلُ السردَ فلسفةً راقيةً أو يستندُ إلى تناصٍ ثقافي تاريخي كما يحصلُ مع يوسا في مديحِ الخالة التي نشرها عام 1988 في غمرةِ عملهِ السياسي وسعيهِ لانتخاباتِ الرئاسة في بلدهِ البيرو بلد الحالمين وعاشقي الكواكب والجبال وشخصٍ يعدُّ المواطنين بالقمر.
هنري ميلر يضربُ على وترِ الجسدِ وترِ الغريزةِ والشهوةِ الجسديَّةِ بينما يضربُ يوسا على وتَريْ الروحِ والجسدِ معاً ولهذا السببِ يغوصُ إلى أعماقنا اللا متناهيَّة ويقنعنا بما يقول.. لا سيِّما أنَّ لغتهُ ساحرة ولا ينقطعُ خيطُ التشويقِ في كلامهِ بالإضافةِ إلى ثقافةٍ شاملةٍ مذهلةٍ تقتنصُ ما طابَ لها من التراثِ الجماليِّ الإنساني
فهو مثقَّف موسوعيٌّ يجمعُ إلى الثقافاتِ القديمة ثقافةً حديثةً طالما حيَّرتني.. لهذا السبب نجدُ في رواياتهِ خلفيَّات لموروثٍ هندي أو صيني أو شرق أوسطي ونلمحُ أثر ألف ليلة وليلة واضحاً في الكثير من شطحاتهِ الجنسيَّة .

يوسا كاتب ذكيٌّ بامتياز وواصفٌ ماهرٌ ذو ابتكارٍ عجيبٍ ومثيرٍ صاحبُ طريقةٍ ومدرسةٍ في علمِ الجسدِ.. وهو أيضاً ساردٌ قلَّ نظيرهُ ينتقلُ من صورةٍ إلى أخرى ومن مشهدٍ إلى آخرٍ ببراعةٍ أسلوبيَّةٍ نادرةٍ وخفيفةٍ على القارئ.. وأعترفُ أنني أقرأهُ بتروٍّ بالغٍ لكيْ أصلَ إلى ما تريدُ عبارتهُ المجنَّحةُ والشفَّافةُ أن تحملهُ لي من رعشاتِ كهرومغناطيسيَّة باذخةِ الطاقة.
وكم اعترفتُ لنفسي بأنَّ الكتابةَ عن عبقريٍّ بحجمِ يوسا صعبةٌ للغايةِ لتفردِّهِ في عالمِ الروايةِ وتنوُّعِ خيالاتهِ وأساليبهِ وأفكارهِ.. حتى قرأتُ مقدِّمةً ضافيةً كتبها الشاعرُ والمثقَّفُ اللبنانيُّ الفذُّ اسكندر حبش لروايتهِ " دفاتر دون ريغو بيرتو" التي صدرتْ في بيروت قبلَ بضعةِ أعوام بترجمة السوري صالح علماني.. فوجدتُ فيها ارتواءً سخيَّاً شافياً وعزاءً ما عن عجزي ووجدتُ أيضاً ما كنتُ أبحثُ عنهُ من ضالةٍ مفقودة. على ضوءِ تحليلٍ نقديٍّ يحسنهُ اسكندر حبش.

لا أعتقدُ أنَّ شغفَ يوسا بسارتر الأبِّ الروحيِّ للوجوديَّة قد أضرَّ بهِ كثيراً فسرعانَ ما عرفَ الشابُ طريقهَ وكوَّنَ ذاته الأدبيَّة متفلِّتاً من سطوةِ سارتر وفلسفتهِ الداعيةِ إلى الإلتزامِ بالقضايا الكبرى سياسيَّاً واجتماعيَّاً . فقامَ بإنشاءِ مدرسةً أدبيَّةً تسعى إلى تغييرِ الواقعِ عن طريقِ المتخيَّل والحلم.

عبرَ قراءةِ يوسا نجدُ تشابهاً ملفتاً بينَهُ وبينَ أدباءٍ باروكيينَ أو شهوانيين آخرين مثل الكاتب الفرنسي أناتول فرانس أو الروائي البريطاني غراهام غرين وغيرهم. يرجعُ هذا التشابهُ في نظري إلى إعجابِ يوسا بهؤلاءِ الكتَّابِ وبهذا النوعِ من الكتابةِ الإيروسيَّة التي أطلقَ عليها بعضُ النقَّاد مصطلح "الكتابة الوقحة" ولكننا الآن نطلقُ عليها مصطلح الكتابة "الاستفزازيَّة" أو الكتابة الجريئة المتحرِّرة.

طالما ردَّدَ ماريو يوسا في لقاءاتهِ وأبحاثهِ الأدبيَّة عبارة " الحقيقة عبر الكذب" ليعبِّر عن مناخِ رواياتهِ التي تأتي من مكانٍ ما هناك بعيدٍ ومتخيَّلٍ .. أشبهَ بفردوسٍ مفقود.. ولا أجدُ أصدقَ من هذهِ العبارةِ للتدليلِ على رواياتهِ.

***

أمل دنقل.. يا فرَحَ الشِعرِ المختلَسْ

في ذكرى مرورِ ثمانيةَ عشر عاماً على رحيلِ الشاعر المصريِّ الكبير والمبدع بامتياز أمل دنقل نقفُ دقيقة صمتٍ وحزنٍ لشاعرٍ ملأَ الدنيا وشغلَ الناسَ وكانَ واجهةً رئيسيَّةً يعلِّقُ عليها الشعراءُ العربُ عذاباتهم الثوريَّةَ وهمومَ أرواحهم العالية وحزنهم النبيلَ كما لم يعلِّقوها على شاعرٍ عظيمٍ كالمتنبي..
نعيشُ في هذهِ اللحظةِ مأساة صاحبِ " مقتل القمر " و" العهد الآتي " ونستذكرُ شاعراً فذَّا ربمَّا لم يطاولهُ في زمانهِ سوى السيَّاب الكبير الذي قضى نحبهُ ونحبَ حبِّهِ قبلهُ بنحوِ تسعةَ عشرَ عاماً.
نحسُّ دفقَ الحبِّ هذا ونرى إلى اللمعانِ الورديِّ الذي تركهُ كبكاءِ الذهبِ خلفهُ أمل دنقل الشاعرُ المصريُّ الجارحُ والساخطُ والمترفِّعُ أبداً.. ذلكَ الطائرُ الغريبُ الملوَّنُ السحريُّ الخارجُ عن سربهِ... نرى إلى التصاقِ قلوبنا بلغتهِ وإلى الحميميَّةِ التي تركها في أذهاننا الغضَّةِ كما يتركُ المسافرُ معطفهُ على شمَّاعةِ البيتِ.. الحميميَّةِ التي جسَّدها صوتُ الشاعرِ الغائبِ في ثيابِ الحضورِ فندهشُ من صدى خلودهِ الذي لا يزالُ يحرِّكُ أطيافَ الذاكرة ويملأُ الوجدان.
قليلونَ همُ الشعراءُ العربُ الراحلونَ الذينَ يتركونَ بصماتهم بقوَّة وصلابةٍ على المشهدِ الشعريِّ ونستشعرُ غيابهم الاضطراريَّ بكلِّ هذا الشوقِ وهذهِ الخسارةِ التي تغزلُ أيامنا بمكر.
قصَّتي مع أمل بدأت في حدودِ عام ألفين في عهدِ الغضارةِ الشعريَّةِ قرأتهُ في ربيعٍ ممسوحٍ بأقواسِ قزحٍ وبشمسٍ نيسانيَّةٍ صديقة.. وكم أعجبتني إنسانيتهُ المتفرِّدةُ التي أثرَّت بي كثيراً حينذاك وشدَّتني صعلكتهُ الفريدةُ المنتميةُ إلى رأسِ الشعراءِ الصعاليكِ عروة بن الورد.. كم أعجبني أمل حينها بانسيابيَّتهِ ورقتِّهِ وصفاءِ عبارتهِ المنحوتةِ من صخرِ اللغةِ ومائها ولا أزالُ أتذكَّرُ ذلكَ المقطعَ من قصيدتهِ " فقرات من كتابِ الموتِ " الذي يقول فيه:
كلَّ صَباح..
أفتحُ الصنبورَ في إرهاقْ
مُغتسِلاً في مائِه الرقْراقْ
فيسقُطُ الماءُ على يدي.. دَمَا!
وعِندما..
أجلسُ للطّعام.. مُرغما:
أبصرُ في دوائِر الأطباقْ
جماجِماً..
جماجِماً..
مفغورةَ الأفواهِ والأَحداقْ!!

شغفتُ بأمل دنقل منذ نعومةِ أظفارِ قصائدي وقرأتهُ كلَّهُ ولكني لم أجد لهُ سيرةً حياتيَّةً لهُ تكشفُ لي خفايا هذا الكائن وأسرارهُ لأفهمَ شعريَّتهُ وخلفيَّتها وأغوصَ في النصِ الذي كنتُ أعتقدُ في البدايةِ أنَّ كاتبهُ أرستقراطيٌّ مصريٌّ مسكونٌ بالحزن والكبرياء.. خصوصاً عندما يستندُ في شعرهِ على التناصِ التاريخي بحكمةِ قدِّيس ويوغلُ في تعريةِ الواقعِ والمجتمع.. كلَّما توغَّلتُ في قراءتهِ تحرَّرتُ من فكرتي تلك.
بعدَ ذلكَ قرأت سفرَ الجنوبي لزوجتهِ الوفيَّةِ والكاتبة الرائعة عبلة الرويني وتوَّفرتُ على أحداث ومجريات وخيوطِ حياتهِ الغامضةِ الممزَّقة اللاذعةِ كقصيدتهِ تماماً والمدقعةِ في الثورةِ والهمِّ والبؤسِ والحرمان والفاقة.
كتبتُ لهُ قصيدة حبٍّ من بابِ التعاطفِ والمعانقةِ الروحيَّة أسميتها " البكاء بينَ يدَيْ أمل دنقل " تناصاً مع قصيدتهِ الخالدة " البكاءُ بينَ يدَيْ زرقاءِ اليمامة " وكانت تعبِّرُ عن حزني الصارخِ وتنبضُ بالكثيرِ من الوفاءِ لهُ يقولُ مطلعها :
عصفورة ً محروقة َ الجناحْ
تحلمُ في الصباحْ
أن تحملَ البحارَ في منقارها.....
أتيتني يا سيِّدي في الحلمْ
أتيتني البارحةَ.. الليلةَ.. لا أدري.. وكان النومْ
جنيّة ً سوداءْ
تبكي بعينيَّ بدمع القمحْ
حتى يجيءَ الصبحْ.....
وتزهرُ الدموعُ في عينيكْ

ورحتُ في هذهِ الصرخةِ أبثُّه الحبَّ والإعجابَ ولكن بشيءٍ من المرارةِ والأسى لحالهِ وكأني أرثي فيهِ العبقريَّة الغضَّة التي ما برحت حتى غالتها أظفارُ المرضِ والموتِ والفجيعة..
وعندها خجلتُ من عضّةِ زنبقٍ على كفيّكْ
وعندها بكَيتْ
لأنَّ أفعى الداءِ في جسمكَ لا تزالْ
راقدةً في مائه ِ السلسالِ
والطيرَ السدوميَّ الذي
أفلتَ من صوتكَ قد حطَّ على الشبّاكْ
يُنذرنا.... يُنذرُ قومَ لوطَ بالهلاكْ
لأنَّ في السماءِ ألف َ عنكبوتٍ أسود َ الدماءْ
لأنَّ هيرودوسَ لا يزالُ مخموراً... وسالومي تغنّي......
فيعومُ القصرُ في شهوتها الحمراءْ
ورأسُ يوحنّا على صينيّة الغناءْ.

لا يمكنُ أن تقرأ أمل دنقلَ من غيرِ أن تسكنكَ لحظةَ التجلِّياتِ الحقيقيَّة لانكسارِ هذا الكائنِ العربي وشموخهِ في آن معاً .. فأمل رغمَ تسييسِ بعضِ أشعارهِ الضاربة في الجمالِ أوَّلاً وأخيراً ورغمَ الصرخةِ المدوِّيةِ التي أطلقها للرئيس السادات في ديوانهِ الجميل والرافض " أقوال جديدة عن حرب البسوس " وفي صدرِ قصيدتهِ الشهيرة والمطوَّلة العامرة التي حملت نفس عنوان الديوان والتي يفتتحها بعبارة " لا تصالح " تلكَ العبارة الخالدة خلود الأمل في الخلاصِ والتي أصبحت مثلاً للرفضِ الشعري حتى أطلقوا على أمل لقبَ أميرِ شعراءِ الرفضِ .. رغم كلِّ هذا لم يكن أمل دنقل في قرارةِ نفسهِ أيدلوجيَّاً محنَّكاً "بالمعنى الحرفي" أو مسيَّساً عادياً مقتنصَ فرصٍ وشعاراتٍ سياسيَّةٍ مجانيَّةٍ.. كانَ شاعراً وشاعراً فقط قرأ ووعى الكثير من الفكر السياسي والأيدلوجي على المستويين العربي والعالمي وقادهُ التمزَّق الروحي إلى نبضِ الشارعِ السياسيِّ وقلبِ الأزمةِ العربيَّةِ العاصفةِ لكي يقولَ ما قالَ ولو بشكلٍ فطريِّ سليقيِّ بحت وجماليِّ خالص.. وأغرتهُ الانهزاميَّة العربيَّة التي كانت سائدة عقبَ هزيمةِ حزيرانَ عامِ 1967 وعقبَ لجوءِ مصر إلى مفاوضاتِ السلامِ لاستردادِ سيناءَ بعدَ الحربِ التي لم تثمر ولم تغنِ شيئاً عام 1973بأن ينطقَ رمزيَّاً باسمٍ المثقَّفِ العربيِّ المهمَّش والمقموع والمنكَّلِ بهِ في غياهبِ سجونِ الأنظمةِ الديكتاتوريَّة.

كانَ أمل صاحبَ موهبةٍ فريدةٍ وخصبةٍ لا تشوبها شائبة وهو في نظري أكبر شاعر مصري بعد أحمد شوقي. وهو رغم َعثراتهِ العروضيَّة هنا وهناك شاعرٌ لهُ وزنهُ وقيمتهُ الاستثنائية وكم نظرتُ إليهِ بقداسةٍ على حلقات مسجَّلة على موقع اليوتيوب صُوِّرت قبلَ رحيلهِ بنحو عامٍ على أغلبِ الظنِّ. ولا أعتقدُ أنَّ شاعراً نالَ أهميَّةً مثلهُ في النصفِ الثاني من القرنِ المنصرمِ من روَّادِ قصيدةِ التفعيلةِ غيرَ الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السيَّاب فمن الصعبِ أن لا تجد رابطاً شعريَّاً نفسيَّاً لغويَّاً إنسانيَّاً بينَ أمل دنقل الشاعرِ المصري الحزين وبينَ بدر شاكرِ السيَّاب رائدِ الحداثةِ العربيَّة فكلاهما من طينةٍ واحدةٍ ويصدرانِ عن المشكاةِ نفسها فهما ينتميانِ إلى الفقرِ والمعاناةِ الجسديَّةِ والروحيَّةِ ويكتبانِ بنفسِ طينٍ الحياةِ المجبولِ من أعماقِ النفسِ البشريَّةِ بخيباتها وأفراحها المختلسة.. ويجمعهما مصيرٌ واحدٌ وموتٌ بأوجِ الشبابِ والشعرِ والحبِّ على فراشِ المرضِ. هما شاعرانِ كبيرانِ حقَّاً لكلٍّ منهما مدرستهُ الشعريَّةُ التي أغنت الكثيرَ من التجاربِ الشعريَّةِ اللاحقة وحتى هذهِ اللحظةِ رغمَ كتابةِ مئات الشروح والتأويلات والأطروحات الجامعيَّةِ والكتبِ النقديَّةِ عنهما لا يزالانِ كالحصانينِ الطرواديَّينِ العنيدينِ عصيَّينِ على الريحِ وعلى نارِ النقدِ.

****

قربانُ الفراغِ وهبةُ الحريَّة
(عن الثورةِ والشعرِ والحداثة)

لم أجدْ أصدقَ من هذا التعبير المجازي لإطلاقهِ على الشعرِ في هذا الوقتِ الخالي إلاَّ من انكسارِ حلمِ الشعرِ وتقهقرِ شموسهِ الطقوسيَّةِ. لا أنمي ذلكَ لشيء أو سببٍ مُعيَّنٍ كتراجعٍ الحماسِ لقراءةِ هذا الفنِ الذي ترعرعَ منذُ فجرِ التاريخِ وصمدَ في وجهِ كلِّ الأزماتِ العاتيةِ والرياحِ الزمنيَّةِ المجلجلة.
ربما يقولُ البعضُ أنَّ هيمنةَ الروايةِ على المشهدِ الأدبي العالمي قد يكونُ السببَ في هذا الانحدارِ لشمسِ المجاز والبرقِ اللغوي.. لا أعرفُ... فهل فعلاً أنَّ الحداثةَ التي ابتدأها الشاعر الفرنسي شارل بودلير في فرنسا وأرسى دعائمها السرياليُّون والرمزيُّون من كتَّابٍ وشعراءَ ورسَّامينَ وصعاليكَ في كلِّ بقاعِ العالمِ قد أقصتْ الشعرَ عن الوعيِ الجماهيري والحسِّ الشعبيِّ العامِّ من خلالِ اشكالياتِ الغموضِ والإبهامِ في القصيدةِ المعاصرة.. حتى أصبحَ فنَ النخبةَ وتسليتَها بامتياز.

أظنُّ أن الذينَ كانوا يتهمُّونَ الحداثة بمثلِ هذا الاتهامِ الخطيرِ قد تراجعوا فيما بعد أو تكشَّفت لهم الحقيقةُ بأنَّ جمرةَ الشعرِ باقيةٌ في كلِّ العصورِ وهيَّ المحرِّكُ الأوَّلُ والأخيرُ لأهواءِ وأحاسيسِ الناسِ وهيَ الوقودُ لكلِّ تطلُّعٌ للحريَّةِ أو توثُّبٍ للإفلاتِ من نيرِ الظلمِ والقمعِ الجسديِ والنفسيِّ.. طاقةُ الشعرِ قادرةٌ على تحريرٍ شعبٍ أعزلٍ كما حصلَ في تونسَ الخضراءَ إذ استطاعَت قصيدةُ الشاعر أبي القاسم الشابيِّ " إرادةُ الحياة " أن تحرِّرَ الشعبَ التونسيَّ من جلاديهِ بعد مرورِ عشراتِ السنينِ على كتابتها.

الحداثةُ خميرةٌ مهمَّةٌ.. بل ومهمَّةٌ جدَّاً في تكوينِ نفسِ الفنانِ أو الشاعرِ وشخصيَّاً لا أعتقدُ أنَّها كانت عائقا بينَ النصِّ والمتلقي أو بينَ اللوحةِ والناظرِ إليها وكما أنَّ للكلاسيكيَّة قيماً وشروطاً ودعائمَ ومبادئَ فللحداثةُ وما بعدَها أيضا ما للكلاسيكيَّة وأكثر. يستطيعُ أن يقولَ قائلٌ أنَّ أبا تمَّام والمتنبي مثلا كانا أكثرَ حداثةً من الكثيرِ من شعراءِ العصرِ الحديثِ ولكنها مسألةُ ذكاءٍ شعريٍّ فطريٍّ في نظري ولا مجال للمذاهبِ هنا. فكما نحتفي اليوم بنصوصٍ تمزجُ الشعرَ والنثرَ والسردَ والإيحاءَ والغنائيَّةَ والرمزيَّة في بوتقةٍ واحدةٍ نحتفي أيضاً بتراثنا الأدبي والجمالي ونؤمنُ أنَّ لكلِ عصرٍ أساليبهُ وطرائقُ تعبيرهِ ولا يجوزُ أن نخاطبَ واقعنا الراهنَ بمثلِ ما خاطبَ بهِ أجدادُنا راهنهم المعيشيَّ.. لا يجوزُ لنا أن نبحثَ في المحارِ نفسهِ الذي استخرجَ أباؤنا منه الجواهرَ اللغويَّةَ التي لا تُقدَّرُ بثمن. يجبُ علينا أن نعي وندركَ الفرقَ بينَ أمسِ القصيدةِ وحاضرها وأن نؤمنَ دائماً وأبداً بأنَّ حياةً بلا برقِ الشعرِ حياةٌ زائفةٌ وليستْ حقيقيَّةً.. وأنَّ حياةَ شعبٍ بلا قصيدةٍ لا تستحقُّ التفاتةً سريعةً من تاريخٍ عابر.

تواجهنا اليومَ مشكلتان.. مشكلةٌ تتمثَّلُ بعدمِ هضمِ الموروثِ الجمالي والتراث الفكري الإنساني بصورةٍ تتيحُ لنا أن نبني نصَّا على أنقاضِ نصٍّ وعيناهُ وفكَّكنا ذرَّاتهِ واحدةً تلوَ واحدة.. وأخرى تتمثَّلُ بفصلِ الغثِّ عن السمينِ في الزمنِ الرقمي. فملايينُ الصفحاتِ على جوجل تعرضُ الرديءَ بجانبِ الجيِّدِ ونحتاجُ إلى ثقافةٍ مصقولةٍ وثاقبةٍ لنعاينَ النصَّ المنشورَ في هذا الموقعِ أو ذاك حيثُ لا محرِّرٌ أدبيٌّ متمكِّنٌ أو بصيرٌ بخفايا اللغةِ.

فالكثيرُ من الشعراءِ الدونكيشوتيين الذين يمتطون صهواتِ أقلامهم ويقارعونَ الوهمَ كفرسانِ العصورِ الوسطى يحلمون بسريَّةِ نجاحِ شعريَّةِ نزار قباني أو محمود درويش المذهلة والمرتبطةِ قبلَ كلِّ شيءٍ بأوجاعِ الناسِ والشارعِ والمتلقِّي البسيط الذي يحسُّ أن أحلامَ القصيدةِ تدغدغُ طموحهُ وتدفعهُ لحملِ روحهِ على راحتهِ والإلقاءِ بها في مهاوي الردى والثورةِ على البؤسِ السياسي والثقافي.

لقد كانَ الشعراء الكبارِ كنـزار قباني ومحمود درويش والسيَّاب وأمل دنقل يزرعونَ ما تحصدُ الشعوبُ العربيَّةُ اليومَ من ثوراتٍ وربيعٍ ومجدٍ وحريَّةٍ وانتصار.
وهذا ينطبقُ أيضاً على شعراءٍ عالمييِّن مثلَ بابلو نيرودا وغارسيا لوركا في محاولةِ التأسيسِ لمشروعِ الحريَّةِ الإنسانيَّةِ القادمِ لا محالةَ رغم غيومِ الدمِ والرصاصِ والحديدِ والجنون.

وبما أنَّ الشعرَ برقُ الروحِ وحدائقُ الحريَّة المعلَّقةُ فلا بأسَ لو انتظرنا الغيثَ مئةَ عامٍ أو يزيد ما دُمنا متأكدِّينَ أنَّهُ سيأتي وما هذا الفراغُ الذي يسكنُ مساحاتِ الكلمةِ سوى وعدٍ بيوتوبيا جميلةٍ وهبةٍ لحريَّةٍ منتظرةٍ وفردوسٍ حالمٍ بالخلاصِ الروحيِّ من أظفارِ المادَّة.. فلا بأسَ لو صرنا قرباناً أخضرَ لربيعٍ قادم.

****

ممدوح عدوان ورؤيا الدماء

(1)
حيالَ كلِّ ما يجري في سوريا من ظلمٍ وتقليلٍ وانتهاكٍ لحقوقِ الإنسانِ الأساسيَّةِ لم أجد من عزاءٍ لنفسي سوى الرجوعِ إلى دواوين الشاعر والمثقَّف السوري الكبير الراحل ممدوح عدوان الذي أصبحتُ أسمِّيهِ الرائي الأعظم فقلَّما تخلو قصيدةٌ لهُ من أطيافِ الدمِّ التي تنهمرُ اليومَ على أرضِ سوريا الصامدةِ وتدقُّ النوافذَ والترابَ والبشرَ والحجرَ والفضاءَ. الدماءُ اليومَ في سوريا تدقُّ كلَّ شيءٍ ولم تعد تدقُّ النوافذّ وحدَها كما في شِعرِ ممدوح عدوان.في هذهِ المقطوعةِ وهيَ من قصيدةِ "رصاصات بيضاء للأيامِ السوداء " يصوِّرُ لنا في الأمسِ ما سيحدثُ في وطنهِ بعدَ سنين.. أي الآن:
حين أتاني النبأُ الدامي في عَجَلهْ
لم أسألْ نفسي : مَن قَتَله ؟
فالأسئلة عن القاتل ماتتْ
منذ اختنق الأخوة تحت رداء من صمت في أيلولْ
وتعلّق عنقودُ نجومٍ بمشانق سوداء على النيلْ
منذ نضوب الماء من المُدُن العربيهْ
ورجال ، كالأشجار ، اقتُلعوا
وابتُلعوا في الرمل المتحرّكْ
غرقوا شبراً شبراً .. رجلاً رجلاً
ما مُدَّتْ لهمُ يدْ
لم يتحرك حولهمُ غير كلام كحبال يمتدْ
يتحول بعد الخنق رثاءً وأكاليلْ
وحصاراً من جوقات وطبولْ
وعلى مفترقات دروب الثورة
بين حقول الفلاحين
في الحارات المهجورة ، بين صفوف الشعب المعزولْ
يترصدنا القَتَلَهْ
ولذا لم أسأل نفسي يوماً :
من منهم سيكون القاتل ؟
بل كنت أقولْ :
من منا سيكون المقتولْ ؟

وبالرغمِ من أنني لم أقرأ ممدوح عدوان إلاَّ مرَّة واحدةً فقد وجدتُ الكثيرَ من المتعةِ وأنا أعيدُ قراءتهُ ثانيةً ذلكَ أنه شاعرٌ فذٌّ لا تستطيعُ أن تسبرَ غورَ شاعريَّتهِ من قراءةٍ واحدةٍ فحسب. وهو في نظري صاحبُ واحدةٍ من أروع وأجمل الرواياتِ العربيَّةِ التي كُتبتْ في القرنِ العشرين وهيَ روايةُ " أعدائي".
كانَ ممدوحُ يؤسِّسُ في أحلامهِ الشعريَّة العابثةِ المعذَّبةِ لخلاصنا المنشود من خللِ الرمادِ والدخانِ ورؤيا الدماءِ التي برعَ في رسمها.

(2)
وقد لجأتُ إلى موقعِ " أدب " على الشبكةِ العنكبوتيةِ لعدمِ توفُّري على جميعِ مؤلفاتهِ الشعريَّةِ.. وفي الحقيقةِ صُدمتُ ممَّا رأيتُ.. ممدوح يستعملُ كلمة دماء عدةَّ مرَّات في القصيدةِ الواحدة كأنَّ هذهِ الكلمة من موتيفاتهِ الشعريَّة المفضَّلة وبما أنني لا أرى إلاَّ الجماليَّ في قصيدتهِ فقد انزعجتُ قليلا من ترديدهِ لمفردةِ الدمِّ وحدستُ بأنَّه كانَ يتنبَّأُ بما يجري الآن في سوريا من سحقٍ لجماجمِ البشر وسحلٍ لأجسادِ الصغارِ الغضَّةِ لا لشيءٍ سوى مطالبتهم بحقِّ الحريَّةِ أو حقِّ تقريرِ مصيرهم في مزرعةٍ آل الأسد التي تعجزُ الكلمات عن وصفِ ظلمهم وحقدهم واستبدادهم حتى أنني أخذتُ على قناةِ الجزيرةِ نقلها الصورَ المريعة والمروِّعةَ للمشاهدين ومنها صورة الشهيد الطفل " حمزة الخطيب" ولكنني تراجعتُ بعدَ ذلكَ لعلَّ وعسى يتحرَّكُ هذا العالمُ الأنانيُّ الصلفُ غيرُ المبالي أو يستيقظُ من جمودِ وبرودِ سباتهِ أو موتهِ الأخلاقي.

(3)

كانَ ممدوح مسكوناً بألمٍ قوميٍّ عظيم ومغلَّفا بحزنٍ إنسانيِّ رقيقٍ لهذا السبب كنتُ أجدُ في كتابتهِ سواءَ الشعريَّة أو الروائيةِ أو حتى المسرحيَّةِ شوقاً عارماً للحريَّةِ وكنتُ ألمسُ حساسيَّة بالغةً تجاهَ الوضعِ السائد الغارقِ في القهر والتعسُّفِ في بلدٍ يتطلَّعُ إلى الحريَّةِ من وراءِ سدُفِ التنكيلِ والقتلِ والذلِّ والظلمِ وغياهبِ الدكتاتوريَّةِ.
ولهذا كانَ شاعراً ثورياً بكلِ ما تنطوي عليهِ الكلمة من أبعاد.. وكانت مسرحياتهُ وأعمالهُ الدرامية فضلاً عن شعرهِ تحملُ طابعاً إصلاحيا وروحاً كسيرةً تجرُّ الكثير من خيباتِ الأملِ في التغيير... لقد كانَ يعرِّي الواقعَ المدقعَ في الفقرِ والمحسوبيَّةِ والظلمِ بالسخريَّةِ المبطَّنةِ حيناً والمعلنةِ أحياناً.. بلا خوفٍ أو وجلٍ وبشجاعةٍ نادرةٍ.

(4)

ما يجري اليومَ في سوريا يدعو إلى الضحكِ قبلَ البكاء.. فهذهِ الروايات المتناقضة في وسائل الأعلامِ المختلفةِ تجعلكَ لا تفقهُ شيئاً فالفضائياتِ الإخبارية كالجزيرةِ والعربيَّةِ تنقلُ لكَ صوراً يقشعرُ لها البدنُ ويشيبُ لهولها الولدان بينما في التلفزيونِ السوري يصوِّرونَ الجحيمَ الذي نراهُ في جميعِ وسائل الإعلام وموقعِ يوتيوب على الإنترنت وكأنَّهُ مفبركٌ .. وكلُّ هذا الدمِ الذي يعصفُ بالبلادِ مصدرهُ حفنةٌ من المنشقِّين المتآمرين المسلَّحين الذينَ يرعبونَ الآمنين وكأنَّ سوريا فردوسٌ موعود وليست ولايةً استبداديةً يتحكَّمُ فيها طغمةٌ حاقدةٌ من آلِ الأسدِ.. يريدونها حرباً طائفيَّةً لا تبقي ولا تذر.
وأكثرُ ما يدعو إلى البكاءِ المرِّ تصريحات بعض أتباعِ النظامِ مثل بسام أبو عبد الله أو سفيرة النظام في فرنسا لمياء شكَّور. التي تصف النظام بالبطلِ وحامي حمى العروبة والإسلامِ.
أليسَ من البؤسِ الفكري أو ربما من الجنونِ المطلق أنَّه ما زال هناك من يؤمن بالنظامِ الآيلِ إلى رماد بعدَ كلِّ الفظائعِ التي يرتكبها عناكبُ الشبِّيحةِ السوداءُ باسمِ النظامِ البربريِّ الهمجيَّ الذي يطلقُ الرصاصَ على شعبهِ الأعزلِ لخروجهِ في مظاهرةٍ سلميَّةٍ للمطالبةِ بحقوقهِ.

(5)

لا عجب بأنَّ سوريا مهدُ الحضارةِ الإنسانيةِ فهيَ أمُّ الفينيقيينَ الأوائل الذين أناروا ظلمات القرونِ القديمة. وهيَ ملتقى الحضاراتِ وصاحبةُ مركز تاريخي لا نستطيعُ إغفالهُ وموقع استراتيجي لكونها قلبَ العالمِ الإسلامي. لا يستطيع أيُّ عربيٍّ أو مسلمٍ أو إنسانٍ أيٍّ كانت قوميتهُ أو جنسهُ أو دينهُ السكوتَ عمَّا يجري فيها.. وأخشى أن نتداركَها بعدَ فواتِ الأوان.. لا بُدَّ من إنقاذ سوريا أبو العلاءِ المعرِّي ومحمد الماغوط ونزيه أبو عفش وأدونيس ونزار قباني وشوقي بغدادي وعلي الجندي وحنَّا مينة وعبد السلام العجيلي ومحمد عمران وكلِّ الرائين الكبار لا بدَّ من إنقاذِ سوريا من براثنِ الوحشِ وبراثنِ الفتنةِ الأهليَّة.

*****

محمد عفيفي مطر.. عبقريَّةُ التنوُّع

أوَّلُ معرفتي بالشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر ترجعُ ربَّما إلى أكثر من عشر سنواتٍ.. كانت صورتهُ في مجلَّةٍ أدبيَّةٍ أظنُّها " الشرق " خُصِّصت لتكريمِ شاعرٍ فلسطينيِّ من عربِ الداخلِ.. فيما بعد سألتُ صديقاً شاعراً عنهُ فعرفتُ حينها أن هذا الشاعر المصريَّ الأسمرَ الذي تنتمي ملامحهُ إلى ملامحِ أجدادهِ الفراعنة أحد أهمِّ الرموز الشعريَّة في مصر والعالمِ العربيِّ بأسرهِ وأحدُ الذينَ شكَّلوا ظاهرةَ الشعرِ الستينيِّ وأغنوا تجاربها وجوانبها.
ولكنَّهُ مغيَّبٌ في طبيعةِ الحالِ لعدمِ إتقانهِ الغناءَ في جوقةِ ببغاواتِ وطواويسِ القصرِ.. حزنتُ حينها ولم أفهم كيفَ يكونُ أحمد عبد المعطي حجازي في مقامٍ ومحمَّد عفيفي مطر في مقامٍ آخرٍ وشتَّانَ شتَّانَ بينَ المقامين.

الحقُّ يقالُ بأنني لم أتوَّفر على تجربةِ الشاعرِ حتى ذلك الحين ولم أقرأ له إلاَّ قصائدَ متفرقَّة هنا وهناك. قراءةً لم تلقِ الضوءَ الكامل على تجربتهِ الشعرية بَيْدَ أنني قرأت أعمالَ مجايليهِ أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي.

أتذكَّرُ الآن أنني عثرتُ في مطبعةِ صديقٍ حيفاويِّ على ديوانهِ الفذِّ الجميل والذي شدَّني من أوَّل وهلةٍ "احتفالياتُ المومياءِ المتوَّحشة" ولكنني لم أقم باستعارتهِ لقراءتهِ.. قمتُ فقط بتصفُّحهِ تصفُّحاً عابراً ولاحظتُ أنَّهُ يحملُ في طيَّاتهِ نفسَاً متمرِّداً جديداً وتحوُّلاً خطيراً.. لا يشبهُ شعرَ أمل دنقل إلاَّ في جموحهِ وكبريائهِ وسخطهِ على بلاطِ السلطانِ الظالمِ.. هناكَ بعدٌ مميَّزٌ ينأى بغنائيَّتهِ عن قصائدِ عبد الصبور وحجازي أيضاً.. شعرٌ يحملُ النارَ المقدَّسة الطاهرةَ والخصوبة والتنوُّعَ العبقريَّ والموسيقا الوليدة التي تدغدغُ الأحاسيسَ قبلَ أن تصلها كإعصارٍ جامحٍ..
ندمتُ فيما بعد على عدمِ استعارتي هذا الديوان من الصديق ولكنني قرأتُ عنهُ كثيراً من خلالِ دراساتٍ عن الشاعرِ وتجربتهِ. ديوانُ "احتفالياتُ المومياء المتوَّحشة " كُتبَ داخلَ السجن في أوائل التسعينيَّات عندما عارضَ الشاعرُ وقوفَ بلادهِ بجانبَ القوَّات المتحالفة ضدَّ العراقِ... فزُّجَ بهِ في السجنِ وعُذِّبَ بأن عُلِّقَ من يدهِ في دهليزِ السجنِ فكانَ لا يرى إلاَّ الظلامَ ويظنُّ من شدَّةِ ألمهِ أنَّ أولادهُ معهُ في السجنِ فكانَ ينادي عليهم بأسمائهم.. وتجربةُ السجن التسعينيَّةُ هذهِ طالما حملتهُ إلى مشارف الجنون والهذيان.
يقولُ الشاعرُ واصفاً ليلَهُ في سجنِ طرة في قصيدةٍ بعنوان" هذا الليل":
هذا الليل يبدأ
دهر من الظلمات أم هي ليلة جمعت سواد
الكحل والقطران من رهج الفواجع في الدهور!
عيناك تحت عصابة عقدت وساخت في
عظام الرأس عقدتها،
وأنت مجندل – يا آخر الأسرى...
ولست بمفتدى..
فبلادك انعصفت وسيق هواؤها وترابها سبياً –
وهذا الليل يبدأ،
تحت جفنيك البلاد تكومت كرتين من ملح الصديد
الليل يبدأ
والشموس شظية البرق الذي يهوي إلى
عينيك من ملكوته العالي،
فتصرخ، لا تغاث بغير أن ينحل وجهك جيفة
تعلو روائحها فتعرف أن هذا الليل يبدأ،
لست تحصي من دقائقه سوى عشر استغاثات
لفجر ضائع تعلو بهن الريح جلجلة
لدمع الله في الآفاق..
هذا الليل يبدأ
فابتدئ موتا لحلمك وابتدع حلما لموتك
أيها الجسد الصبور
الخوف أقسى ما تخاف.. ألم تقل؟!
فابدأ مقام الكشف للرهبوت
وانخل من رمادك، وانكشف عنك،
اصطف الآفاق مما يبدع الرخ الجسور..
--------------
27/3/1991 معتقل طرة

وهو ربَّما في نظري الشاعرَ الأبرز في عصرنا الحاضر الذي دفعَ من دمهِ وألمهِ ثمنَ
معارضتهِ واحتجاجهِ ورفضهِ. ولا أقيسُ بهِ إلاَّ الحلاَّجَ أو بشَّار بن برد في صدرِ الدولةِ العبَّاسيَّة.

يقولُ عنهُ الكاتبُ أحمد الفيتوري ما يلي: وانبثق محمد عفيفي مطر في الشعرية المصرية مفردا ، تميز بشعرية ضد السائد أيا كان السائد وأنه خارج السرب ، وامتزجت هذه الشعرية بعجين الثقافة العربية المصرية ، فكانت شعرية خصوصية حتى التماهي في جوهر كل ما هو إنسان ، متخلقة وخالقة لغة الوجود الإنساني المتعين في الزمان باعتبار الزمان صيرورة الإنسان في عين مكان، وفي المكان حيث المكان من إبداع إنسان يخلق زمانه ويحقق وجوده.
وامتزج الشاعر في الشعر فكانت حياته شعره، ” سنابل ” الجهد والمثابرة والبحث والدرس وفلسفة المعنى، ولهذا كانت مجلة ” سنابل ” التي أصدرها في نهاية الستينات حيث لم يكن من السهل الكتابة فما بالك بإصدار مجلة في كفر الشيخ بلدة الشاعر، هذه المجلة التي قدمت المتميز والأصوات الجديدة والمعروفة حاليا في راهن الثقافة العربية ".

سمعتهُ بعدَ رحيلهِ يتكلَّمُ على فضائيَّةِ النيلِ الثقافيَّةِ بفيضٍ عظيمٍ من النوستالجيا عن الناسِ والحبِّ والشعرِ والأرضِ والموتِ والمرأةِ كلاماً أقلُّ ما يُقالُ فيهِ أنَّهُ فوقَ أجملِ شعرٍ في الدنيا.. كأنَّما يمتحُ كلامهُ من هوَّةٍ ومناخاتٍ صوفيَّةٍ لا توجدُ في عالمنا بل تسكنُ كيانَ الشاعرِ الطائرِ في مجرَّةٍ قاصيَّة. حتَّى أنَّ بعض المثقَّفين العرب أطلقوا عليهِ لقب نفرِّي الشعر المصريِّ الحديث ولا نغفلُ ما قالهُ الشاعر العراقيُّ الكبير عبد الوهاب البيَّاتي عن عفيفي مطر بأنَّهُ أحدُ أصفى الأصوات الشعريَّةِ العربيَّةِ في النصفِ الثاني من القرنِ العشرين.. وأنَّهُ شاعرٌ استطاعَ أن يجدَ المعادلة الصحيحة التي توازنُ بينَ اللغةِ واللونِ والحسِّ الصوفيِّ والعشقِ القتَّالِ الذي تسلَّحُ بهِ الصوفيُّونَ أبداً.. شاعرٌ استطاعَ أن يصلَ أبعدَ ممَّا وصلَ سواه.

اليومَ بعدَ رحيلهِ يوم الأثنين الفائت الثامن والعشرين من يونيو عام ألفين وعشرة أخفضُ رأسي لشاعر فارسٍ أصيل عشقَ الأرضَ كما لم يعشقها شاعرٌ آخرَ وأُقدِّمُ زهرةً بيضاءَ مخمليَّةً لطيرٍ ملوَّنِ الريشِ طالما غرَّدَ خارجَ سربهِ وكانَ نسيجَ ذاتهِ أبداً.

**

كيفَ التقيتُ بالكاتب الفلسطيني ربعي المدهون؟

صباح الخميس الموافق 2010/5/20 أصعدُ جبلَ حيفا الأشمَّ الكرملَ. أتجوَّلُ.. أقرأُ كثيراً عن الأمسيات الثقافيَّةِ التي تقامُ على شرفِ زيارةِ الروائيِّ الفلسطينيِّ المغتربِ في لندن ربعي المدهون. أقرأُ عن روايتهِ الهامَّةِ " السيِّدة من تل أبيبْ "
في صفحاتِ جوجل وأنفذُ إلى بعضِ المناقشاتِ التي يتناولُ بعضُ النقَّادِ العربِ الروايةَ بها. لا بدَّ أنَّها رواية ممتعةٌ وهامَّةٌ جداً وسأضعها على أعلى درجاتِ سلَّمِ قراءاتي الروائيَّةِ التي كنتُ مقصِّراً فيها هذا العام.ولا زالت بعض رواياتِ سراماغو البرتغالي وهمنغواي الأمريكيِّ تنتظرني تحتَ أشجار غودو.

السيدة من تل أبيب رواية رائعة تتناولُ موضوعاً إشكاليَّاً يمسُّ العلاقة التي تربطُ فلسطينيَّاً بإسرائيليَّةٍ رغم كلِّ هذا الضباب التاريخي والقومي والواقعي الذي يلفُّ المشهدَ المعيشيَّ الراهنَ في هذهِ البقعةِ.. ويسربلها بالحزنِ الوراثيِّ.
هذهِ الرواية وصلت هيَ وخمس روايات عربيَّة أخرى إلى اللائحة النهائيَّة لجائزةِ البوكر للروايةِ العربيَّةِ.. وقد أثارت صدى واسعاً في الساحةِ العربيَّةِ على الرغمِ من ذهابِ الجائزةِ إلى روايةِ "ترمي بشرر" للسعودي عبده خال الذي أعتبرهُ مثيراً للجدلِ وعميقاً في بعضِ رواياتهِ مثل روايةِ "فسوق".

كأنَّ المدهون قد بنى مجدهُ على هذه الروايةِ اليتيمةِ التي جاءت بعدما اكتهلَ صاحبها وعركَ الحياةَ وعركتهُ.. أقرأُ عن أمسيَّةٍ أُقيمت في بيت الكرمةِ في حيفا بالتعاونِ مع مكتبةِ "كل شيء".. وعن أمسيَّةٍ ثقافيةٍ أخرى أقيمت البارحة في مكتبةِ أبو سلمى في الناصرة وعن أخرى ستقامُ أيضاً مساءَ هذا اليومِ في مدينةِ أمِّ الفحم بمشاركةِ العديدِ من الأدباءِ والفنانين.

أهبطُ الكرملَ في ساعاتِ ما بعدَ الظهرِ .. أصلُ إلى "دوَّارِ باريس" في حيفا القديمةِ.. أتناولُ شيئاً لأسدَّ بهِ جوعي.. أتمشَّى بضعَ خطواتٍ غرباً وتقعُ أغربُ المصادفاتِ في حياتي.. فجأةً وإذ بي أمامَ ربعي المدهونِ وجهاً لوجهْ الروائيِّ المتميِّز بدمهِ ولحمهِ بشحمهِ وعظمهِ.. يبدو أنَّهُ أصغر من عمرهِ بكثير ربَّما بنحوِ عشرينَ سنة أي أنَّه يبدو في نحوِ الخامسةِ والأربعينَ ولا حسدْ.. قامةٌ تميلُ إلى النحولِ وعينانِ حادَّتانِ ونظارَّةٌ طبيَّةٌ وقميصٌ أظنُّهُ أبيضَ اللونِ ووقارٌ لا أعرفُ كيفَ أصفهُ... وهيبةٌ جليلةٌ تهبطُ على وجههِ النحيل الجديِّ القسماتْ.كأنَّها ريشةٌ على رأسِ حفيدٍ مدلَّلٍ لبعلٍ وعناة.

أستغربُ من سخريَّةِ القدرِ بي.. كنتُ قبلَ لحظات أفكِّرُ بهِ وبسرِّ نجاحهِ الأدبي وها هو الآن أمامَ عيني.. أنشغلُ بهِ كلَّ يومي ولا أفلتُ من سطوةِ مليونِ دانا أهوفا ملءَ الطريقِ وملءَ الحياةِ.. يتقمَّصني شبحُ وليد دهمان الذي لم أستطعْ الفكاكَ منهُ رغم فلسفةِ حبِّي الأفلاطونيَّة ورغمَ جذوري الممتدَّةِ في رمادِ المأساةِ كجذور سروةٍ عظيمةٍ.. أهبطُ من جحيمِ الحبِّ العلويِّ.. وكلُّ حبٍّ جحيمٌ.. أهبطُ من فتنةِ الكرملِ وقسوةِ صعودهِ وذكرياتهِ... أخلعُ عنِّي بعضَ أمراضِ العاطفةِ ولو للحظاتٍ معدودات.. لأجدَ المدهونَ أمامي بابتسامةٍ خضراء وأقحوانةٍ غيرِ مرئيَّةٍ ترفرفُ فوقَ نظراتهِ الحادةِّ كنظراتِ الصقور.
أسلِّمُ عليهِ بحرارة بالغة وأسألهُ عن أحوالهِ.. أعتذرُ لهُ عن عدمِ حضوري أمسيتهُ الأحدَ الفائتَ في بيت الكرمة لخيانةِ سيَّارتي لي.. وأعدهُ وعداً حميميَّاً بقراءةِ رائعتهِ التي أظنُّ أنَّها تمسُّ وجعَ كلِّ واحدٍ منَّا بشكلٍ خاص.. نحنُ الفلسطينييِّن في الداخل. الذينَ انصهرنا في البوتقةِ شئنا أم أبينا.. اعترفنا بذلكَ أم أنكرنا.
يبتسمُ الأستاذ ربعي بأريحيَّةِ ويحثُّني على قراءتها.. ونمضي كلٌّ في جهةٍ.. أنا أواصلُ غرباً وهو يمضي لشأنهِ.
أمشي بضعَ خطواتٍ وأفكِّرُ مليَّاً بربعي.. بالكاتب الذي نجحَ بعدَ بلوغهِ الخامسةِ والستِّين من العمرِ.. كم خطَّطَ لروايتهِ السيَّدة من تل أبيب؟ خلال كم من الوقتِ أنجزها..؟كيفَ اهتدى إلى المعادلةِ الصحيحة التي جعلت كتابهُ يطبعُ أربع طبعات ويترجم إلى عدَّةِ لغات..؟ حتَّى أني شاهدتُ على شاشة النيل الثقافية مؤخرَّا مترجمةً ايطاليةً جميلة وموهوبةً وشابةًّ تعتزمُ على ترجمتهِ للإيطالية.
ما هو سرُّ ربعي المدهون هذا الطالعِ علينا من سدفِ الضبابِ في لندن بأجملِ روايةٍ فلسطينيَّةٍ؟ ما سرُّ نجاحهِ؟ ما سرُّ لغتهِ؟ ولماذا لا نتعلَّمُ منهُ نحنُ الشباب؟
لماذا لا نصبرُ ونعملُ في الظلِّ؟ لماذا لا نتعلَّلُ بالأملِ؟ نحنُ هنا نعيش بعقليَّةٍ شرقيَّةٍ حتَّى في مجال الكتابةِ.. دائماً نريدُ كلَّ شيء بينَ عشيَّةٍ وضحاها.
يتلاشى الضبابُ أمامي.. ضبابُ الحياةِ وضبابُ البشرِ وضبابُ الأدب.. ويبقى المدهونُ الكاتبُ الستينيُّ الشامخُ بابتسامتهِ الوديعةِ كحمامةٍ جليليَّةٍ واليانعةِ كحبقٍ حيفاويٍّ.. يبقى مطلاًّ من حدائقِ الشمالِ عالياً زاهياً راسخاً شامخاً فكراً وروحاً لغةً وعاطفةً.. فيزدادُ رهبةً في نفسي.. في خضَّمِ هذا الاهتمامِ النقدي العربيِّ والإجماعِ على علوِّ قامتهِ الروائيِّةِ... أخفضُ رأسي وقلبي لريحانِ يديهِ.. وأبعثُ لهُ من ضفافِ حيفا التي يحبُّ ومن أعالي روحِ الكرملِ الأخضرِ ألفَ قبلة.

***

سميح القاسم.. المخلصُ الأبديُّ للقصيدة

مساء الجمعة الثلاثين من نيسان عام ألفين وعشرة... يحاصرني قلقٌ لا يُفسَّرُ ولكنَّهُ قلقٌ جميل.. أجدُ نفسي أهبطُ إلى جنَّةٍ معلَّقةٍ على أطرافِ النبوءةِ.. أقصدُ حيفا التي أقاسمها خبزَ الألم.
أسيرُ بسيارَّةٍ ذاتِ محرِّكٍ متداعٍ نحوَ حيفا لحضورِ أمسيَّةٍ شعريَّةٍ للشاعر الكبير سميح القاسم. أتذكَّرُ بعضَ شعرهِ الذي لا يغيبُ عن قلبي:

سوفَ آتيكِ بطفلة
ونسمِّيها طللْ
وسآتيكِ بدوريِّ وفلَّة
وبديوانِ غزلْ

برغمِ القلقِ الغامضِ أجدُ نفسي منتشياً بلقاءِ سميح.. مطمئناً كاطمئنانِ هذا الشاعرِ المستندِ إلى جبلٍ حريريٍّ إلى حقيقةِ ما حقَّقهُ من مجد.
القاسم في نظري آخرُ الفرسان الفلسطينيِّين الذينَ مهروا قصائدهم بدمهم الغالي
وهو الآن شيخُ شعرائنا بلا منازع. والطلائعيُّ الفذُّ لشعرِ المقاومة. وأحدُ ثلاثة شعراء اصطبغَ شعرهم وحبرهم بقرمزيَّةِ النضالِ القومي والمواجهةِ الرافضة للظلمِ في الأدبِ الفلسطيني بالإضافةِ لمحمود درويش وتوفيق زيَّاد.

كانَ لقائي بقصائد القاسم الباذخةِ منذ الطفولةِ عندما كانَ التلفزيون السوري يبثُّها ويشيد بقوميَّتها وعنفوانها. وها أنا اليومَ على موعدٍ مع هذه النبرةِ البطوليَّةِ ضمن احتفاليَّةِ بيت الكرمةِ هذا العامِ لتكريمِ شاعر الهمِّ القومي وشاعرِ المقاومة.
حيثُ حلَّ الشاعر ضيفاً على حيفا التي أحبَّ في أمسيَّةٍ شعريَّةٍ ولقاءٍ أدبي آخرَ في الثالث عشر من أيَّار هذا العام.. ولقد كنتُ حاضراً في كليهما... ولمستُ بعضَ وفاء وإخلاص القاسم لقصيدتهِ المتجذِّرةِ في أديمِ البهاءِ والكلامِ النابض.
لمستُ إخلاصَ القاسم لتجربتهِ وإخلاصَ الجمهورِ له ولشعرهِ.

حاولتُ مرارا أن أنفذَ إلى أبعدَ من نكتتهِ الحاضرةِ أبداً.. وبديهيَّتهِ المتوقدةِ كالجمرةِ الهائلةِ وراءَ تجربةٍ تمتدُّ إلى أكثرَ من نصفِ قرنٍ في الكتابةِ والهمِّ الثقافي.. سألتُ القاسمَ عن سرِّ نجاحِ الشاعرِ أو نجاحِ القصيدةِ.. فقالَ أشياءَ كثيرةً وعميقةً وركَّزَ على مسألةِ الوفاءِ والإخلاصِ للتجربةِ مضيفاً الموهبة والمران والثقافةَ والتكرَّسَ كعناصر لا بدَّ منها ولكنها لا تصنعُ كاتباً عظيماً.. قالَ أنَّ نصَّاً رديئاً لا يعيشُ طويلاً مهما كان.. أو يضمنُ لصاحبهِ مكاناً بحجمِ نقطةِ الضوءِ في بحرِ الظلام.. ولكنَّنا ويا للأسفِ في زمنِ الديجيتالِ وقتِ اللا وقت وقت اللا قصيدة وقتِ اللا محبَّة ووقت اللا وعي وقت الهذيانِ المحمومْ.

سميح من أهمِّ المخلصينَ للقصيدةِ إن لم يكن عربيَّا وعالميَّا ففلسطينيَّا بامتياز.. وكم آلمني عادل الأسطة حينَ كانَ يحاولُ تقزيمَ حجمِ الشاعرِ بالمقارنةِ مع مجايليهِ.. ففي نظري هو عالمٌ قائمٌ بذاتهِ ولا يجوزُ لنا أن نقارنَ بينهُ وبينَ غيرهِ بهذهِ الصورةِ المجحفة.
منذُ أواسط الخمسينات وسميح لا ينفكُّ يستدعي القصيدةَ.. يُراوغها ويخاتلها وهيَ تنقادُ حيناً وتستعصي أحياناً.
منذُ تفتُّحِ وعيي الشعري وأنا أرى في القاسمِ قامةً شعريَّةً باسقةً وجذوةً تلتقي في نهايةِ النفقِ مع الكبار من سدنةِ الجمالِ والثقافةِ.. أدونيس.. الماغوط.. درويش... المقالح... عبد الرحمان منيف... نجيب محفوظ... أحمد شوقي.. نزار قبَّاني...

هو شاعرٌ كبيرٌ حقَّاً برغمِ كلِّ الأقزامِ التي تحاولُ غمطَ حقِّهِ في أمارةِ الشعرِ الفلسطيني.. والتقليلَ من شأنهِ الأدبي.

أكثرُ ما يُميِّزُ القاسمَ في أمسيَّاتهِ حضورُ روح الدعابةِ والنكتةِ إلى جانبِ الروحِ الوطنيَّةِ.. ترى شاعراً قادراً على جذبِ انتباهِ الجمهورِ وإثارةِ كوامنِ فرحهِ وحزنهِ.. يملكُ حاسَّةً فريدةً في فنِ الإلقاءِ.. قصائدهُ طازجة وطالعة من خميرةِ الحياةِ كالزنبقِ الحارِّ.. بتواضعٍ جمٍّ وشفافيَّةٍ مرهفةٍ ينثرُ جمانَ معانيهِ بصوتٍ مشحونٍ بالنبرةِ الحماسيَّةِ ومخزونٍ بالحبِّ الصافي.
في كلِّ مرَّةٍ ألتقي فيها القاسم أُكبرُ هذهِ الروحَ الفضفاضةَ المتألقةَ بالشعرِ.. وأُكبرُ هذا الطموحَ العنفوانيَّ إلى إصلاحِ العالمِ بالشعرِ والصدقِ عن طريقِ الإيمان بالحبِّ.. إنَّهُ يبني ما تهدَّمَ من روحِ العالمِ بالوردِ.. يا لهُ من ساحرٍ..
الشعراءُ بحاجةٍ إلى نقطةِ إخلاصٍ واحدةٍ وحقيقيَّةٍ من محيطِ القاسمِ الزاخرِ لمحاولةِ الحلمِ بإنباتٍ وردةٍ يانعةٍ في سهوبِ الرماد.. وبإصلاحِ العالمِ الخربِ المنهارِ بابتساماتِ أوفيليا.
عمليَّةُ الحلمِ هذهِ بحاجةٍ إلى مياهٍ آخذةٍ بالنضوبِ يوماً بعدَ يومٍ.. في وقتِ الفضائياتِ والمذهبيَّةِ والطائفيَّةِ والعولمةِ الشرسةِ والرقصِ على جثثِ الضحايا الأبرياءِ.. في وقتِ اللا وقت.. في زمنِ الجنونِ وضياعِ القيمِ الإنسانيَّةِ.

تحيَّة حب صادقة لسميح القاسم فارسِ القصيدةِ الجامحةِ الأخيرِ المطلِّ علينا على فرسِ الشنفرى حاملاً تمرَّدَ جدِّهِ أبي الطيِّبِ المتنبِّي.

***

رائحةُ القرفةِ اللاذعةُ جدَّاً للروائيَّة السوريَّة سمر يزبك

روايةُ رائحة القرفة للكاتبة السورية سمر يزبك من أجملِ الروايات القليلة التي قرأتها مؤخَّراً وأعجبتُ بها كثيراً لما تحتويهِ من خميرةٍ لغويَّةٍ مرَّكبة ولأنها قبلَ كلِّ شيء تنتمي إلى تلكَ الرواياتِ الرائعة والمكتوبةِ بجرأةٍ نادرةٍ وشجاعةٍ إنسانيةٍ عجيبة . فهيَ تتقاطعُ من هذهِ الناحيةِ مع بعض كتابات الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا مثلِ روايتيهِ امتداح الخالة ودفاتر دون ريغو بيرتو والكاتب المغربي الشهير محمد شكري في روايتهِ الرائعة الخبز الحافي.. روايةُ تعريَّةٍ من الصعبِ أن تُفلت من تأثيرها لأيَّامٍ عدَّة لحرارةِ الوجعِ النفسي المسفوحِ على بياضِ صفحاتها ولأنها لا تحفلُ كثيراً بمشاهدِ الجنسِ المبعثرةِ رغمَ فداحتها هنا وهناك في حناياها بقدرِ ما تطفحُ بالمرارة والغربةِ الإجتماعيَّةِ وبذورِ المأساة... ولأنها تقفُ على فوَّهٍ مُلتهبةٍ حاولَ الكثيرُ من الروائيات العربياتِ الوقوفَ عليها في الآونةِ الأخيرة.. ونستطيع أن نرى في موضوعها الإشكاليِّ المتمثِّل بالمثليَّة الجنسيَّة بعضَ الشبهِ الذي تتقاسمهُ مع روائيات خليجيَّات مثل ليلى العثمان ومصريَّات كنوال السعداوي مثلاً .

تقفُ الكاتبة في هذهِ الرواية أمام مرايا الحياةِ المشروخةِ في المجتمعِ السوري وتعالجُ ازدواجيَّةَ المعايير فيهِ على حدِّ قولها من خلال التعرِّضِ للعلاقةِ المثليَّةِ السحاقيَّةِ التي تنشأُ بينَ السيدةِ الثريَّةِ حنانِ الهاشمي وخادمتها عليا فتحاولُ تصوير العلاقة المعقَّدة بينَ هاتينِ الشخصيتين بمهارةٍ دقيقةٍ وبراعةٍ في استجلاءِ مكنوناتِ النفسِ البشرِّيةِ عن طريق مونولوج داخلي.. وأيضاً بالكثيرِ من الإنتقادِ الواضحِ للطبقيَّة وتداعياتها في المجتمعاتِ الفقيرة.. وقد أفلحت في نظري بنقلِ الواقعِ بكلِّ ما فيهِ من آلام وحزن وقسوة ومرارةٍ بسردٍ ساحرٍ أخَّاذ .
تحكي هذهِ الروايةِ قصَّةَ عليا التي تعيشُ مع أهلها في حيِّ الرملِ المدقعِ في الفقرِ في طرفٍ من أطرافِ دمشق.. حيثُ بيوتُ الصفيح وشظفُ العيشِ وقسوةُ الأبِ الجنونيَّةُ وتسلُّّطُهُ المفرطُ في الأنانيَّةِ على أهلِ بيتهِ حتى أنَّهُ لا يتورَّعُ عن ضربِ ابنتهِ عليا الكبرى حتى الشللِ في مشهدٍ من أكثرِ مشاهدِ الروايةِ مأساويَّةً لأنها كانت تعدُّ النقودَ سرَّاً مع أمِّها من دون أن تسلِّمها إليهِ.. الأمر الذي أدَّى في النهايةِ إلى اغتصابها على يدِ عبود ابن الجيران وانتحارها في الأخير بعد أن علمَ الناسُ ما جرى لها على يدِ ابن جيرانها.ماتت إذن عليا الكبرى لتأخذ مكانها في المأساةِ عليا الصغرى التي تشكِّلُ الشخصيَّة الرئيسيَّة في الرواية.

تبدأُ أحداثُ الرواية باكتشافِ السيدة حنان الهاشمي بخيانةِ زوجها أنور الهاشمي لها بعدَ أن فزعت من الكابوس المريع الذي شاهدتهُ في نومها من أنها قد تحوَّلت إلى امرأةٌ بثلاثةِ أثداء وخمسةِ أذرع. فهبَّت من نومها وكانَ الضوءُ المنفلتُ من فرجةِ بابِ غرفةِ زوجها الشيءَ الوحيدَ الذي قادها إلى غرفةِ النوم لتكتشفَ خيانةَ عليا وزوجها لها خصوصاً وأنهما كانتا في علاقةٍ مثليَّةٍ حميمة.. وهذا ربمَّا أغضبها أكثر لأنَّها كانت تريدُ امتلاكَ جسد عليا وحدها.. ليكونَ متنفسَّها الوحيدَ بعدَ أن سئمت من رياءِ ونفاقِ نساءِ الطبقةِ المخمليَّة. لذلكَ وافقت أن تكونَ هيَ السيدةَ المتنفذةَ في النهار بينما تكونُ خادمتها سيدَّتها في الليلِ... لكن سرعان ما تتوتَّرُ العلاقة بينهما عندما نسيت عليا نفسها معها حتى صباحِ تلكَ الليلة المشئومة فأمرتها أن تغادرَ غرفتها بعصبيَّةٍ وغرورٍ واستعلاءٍ واضحين فأضمرت لها الخادمةُ سوءَ النيَّةِ وأخذت تلتفُّ على زوجِها حتى استطاعت في النهايةِ الإيقاعَ بهِ والتسلَّلَ إلى فراشهِ .
تستندُ الروايةُ وتقومُ على طريقةِ استعادةِ الماضي فهي زمنيَّاً لا تمتدُّ إلاَّ لبضعةِ ساعاتٍ قليلة أي من لحظةِ خروجِ عليا مطرودةً من فيلا حنان الهاشمي إلى وقتِ ضحى ذلكَ اليوم حينَ انطلقت السيدة للبحثِ عنها في أزَّقةِ دمشق المغبرَّة.
وقد كانت عليا في في طريقها إلى المجهولِ بعدَ طردها من الفيلا تستعيدُ اللحظات المريرة منذ أن كانت طفلةً تتشاجرُ مع الصبيانِ من أجلِ الحلوى التي لطَّخت وجهها ذاتَ يومٍ وسبَّبت لها مشكلةً مع والدها بسببِ شجارها مع أحد صبيةِ الشقاء في حيِّها.. ومنذُ كانت طالبة متمرِّدةً إلى تلكَ اللحظةِ التي اغتصبها فيها رفيقها في جمعِ ما حسنَ من حاويات النفاية ساسوكي. لتعودَ في اليومِ التالي لتُعملَ سكينها في ظهرهِ انتقاماً منهُ.عليا إذن تعلَّمت كلَّ أساليب الدفاعِ عن النفسِ في هذهِ البيئةِ الدمشقيَّةِ الملأى بالمخاطرِ والقلقِ والفقرِ والخوفِ من الآتي.

تظلُّ عليا في البيتِ منذ تلك الحادثة إلى أن يقودها أبوها ذات صباحٍ للخدمةِ في منـزلِ السيدة الثريَّة حنان التي تستعيدُ هيَ الأخرى بعدَ طردِ خادمتها ذكرياتها الأليمة مع أمها التي لم تعبأ بمشاعرها الطفوليَّة والتي أرادت لها أن تتزوَّج بلا حبٍّ من أنور ابن عمِّها الذي يكبرها بسنوات عديدة لتنجبَ لهُ ابنهُ الذي انتظرهُ طويلا منذ زواجهِ الأوَّل.
ولكنَّا تنفرُ منهُ وتسميِّهِ التمساحَ المتفسِّخ الخالي من أيِّ عاطفةٍ وحرارة.
تتذكَّرُ حنان كيفَ أن أمها قد أخذتها عندما كانت طفلةً إلى حمَّامِ النساءِ لتعبثَ بجسدها هناكَ أصابعُ امرأةٍ ممهدَّةً بذلكَ لولعها الخفيِّ بالجسدِ الأنثويِّ في مجتمعٍ محافظٍ وظالمٍ لا يولي المرأةَ ومشاعرها أيَّة أهميَّة.لا أريدُ أن أعرض في عرضي القصيرِ هذا إلى فلسفةِ هذهِ الروايةِ بل أحببت أن أشير إلى أنَّها حشدت صوراً حيَّةً حقيقيَّةً للواقعِ السوري وسلَّطت الأضواء على عوالم خفيَّة وتقاليد يجهلها الكثيرُ من الناس خصوصاً تلك التي تضعُ فيها المستحمَّةُ إبريق قرفةٍ على النارِ ليغلي وتشتمُّ هيَ بدورها رائحة بخارِ القرفةِ المنبعثة.. ربمَّا يكونُ السبب من وراءِ هذا الأمر تقويةَ الرغبةِ عند المرأة وفي ظنِّي أنَّها وُفِّقت كثيراً في اختيارِ عنوان الروايةِ بعدَ أن كانَ اسمها في البدايةِ عليا كما يتضِّحُ من نصٍّ منها منشورٍ في موقعِ الحوارِ المتمدِّن قبلَ صدروِ الروايةِ بطبعتها الأولى عام 2008.
هنالكَ ترديدُ بعضِ العباراتِ في الرواية مثل " ظل الضوء المائل " وهذا الشيء يعملُ كثيراً على الجانب السايكولوجي لدى القارئ وهو موجودٌ في روايات عديدة مثل رواية ميرامار لنجيب محفوظ ونلمسهُ في الرواية العالميَّة أيضاً لدى بروست وكافكا .

أودُّ أن أشير في النهاية إلى أنَّ رواية رائحة القرفة رواية جادَّة وضَّاجةٌ بالألمِ الإنساني... توظِّفُ مشاهد الجنس والإيروتيكا ليسَ لإيقاظِ غرائز الشهوة بل لتسليطِ الضوءِ على بؤرةِ ظلامٍ دامسٍ ونقل الصورة الحيَّة إلى الإنسانِ القارئ أيَّاً كانَ دينهُ أو كانت قوميَّتهُ. رائحةُ القرفة في هذهِ الروايةِ لاذعةٌ جدَّاً ومن الصعبِ أن يتلاشى طعمها من فمكَ بسهولة.. هيَ صرخةٌ مدوِّيَّة وجريئة وفتحٌ جديدٌ في الروايةِ العربيَّةِ وتستحقُ منَّا الإلتفات والإهتمام.

***

جدليَّة العشقِ والتمرُّدِ في شعرِيَّةِ الفلسطيني يوسف أبو لوز

كقارئٍ ممسوسٍ بالشغفِ إلى اكتشافِ كلِّ جديدٍ في العوالمِ المختبأةِ في الكتبِ والموروثِ الإنساني فإنني أدينُ لفطرتي السليمةِ في أحيانٍ كثيرةٍ. وأدينُ دائماً لذائقتي النقيَّةِ التي قلَّما تخطئُ في اختيارِ المجموعات الشعريةِ اللامعة.
فأنا دائبُ البحثِ عن الدواوين التي تحملُ في طياتها الرؤى والأساليب الجديدةَ والتقنيَّات العالية والمبتكرة لصياغة القصيدة العربية الحديثة وتلك المتفلِّتة والمتطلِّعة إلى ما وراء الحداثة.
وقد كانَ ديوان الشاعر الفلسطينيِّ الأصل والأردنيِّ النشأةِ يوسف أبو لوز والمُسمَّى " ضجرُ الذئب " أحدَ الدواوين الشعرية التي أفدتُ منها كثيراً وفتحت شبابيكي على عوالم ومناخات طالما حلمتُ بها.. ذلكَ أنَّهُ من الكتب الشعرية القليلة التي بهرتني بقيمتها النوعيَّةِ العظيمة. من دون أن يكون لصاحبها ذلك التقديسُ في المحافل الأدبية هنا وهناك.. ذلكَ أنها شكلَّت مفصلاً أساسيَّاً في مسيرةِ صاحبها الشعريةِ.
عدم معرفتي بالشاعر الجميل روحاً ونصّاً يوسف أبو لوز جعلني أتردَّدُ في البدايةِ باقتناءِ الديوان ظنَّاً مني أنهُ لا يحملُ الضالة التي أبحثُ عنها.. ولأنني ربمَّا أصبحتُ أميلُ إلى الأسماءِ المكرَّسةِ كغيري من الشعراءِ العربِ الذين لا يريدونَ أن يجهدوا أنفسهم بالبحثِ عن الشعريَّات الجميلة المستترة وراءَ حجابٍ رقيقٍ من الخجلْ.
ولكنني في النهايةِ غامرتُ وراهنتُ على جودتهِ بعدَ قراءةِ بعضِ سطورهِ القليلة.. وهكذا اشتريتهُ ولم أكن بعدُ قد إطَّلعتُ على ما أثارهُ هذا الديوان من ضجَّةٍ أدبيةٍ ودويٍّ شعريٍّ.. ولم أكُ أعلمُ أيضاً أنهُ حصَدَ جائزة عرار الأدبية في الأردن فور صدورهِ عام 1992 عن إتحادِ الكتاب الأردنيين والمؤسسة العربية للدراساتِ والنشر. مما حدا ببيت الشعر الفلسطيني أن يصدرهُ بطبعة ثانيةٍ أنيقةٍ بعدَ ذلكَ بسنوات.

ديوان ضجر الذئب في نظري يُعَّدُ تتويجاً حتميَّاً لمسيرةِ أبي لوز الشعرية التي بدأها عام 1983 بديوان "صباح الكاتيوشا أيها المخيَّم" ليصدرَ بعدَ ذلكَ "فاطمة تذهبُ مبكرة إلى الحقول" و" نصوصُ الدم " الذي كانَ مقدمةً لضجر الذئب مشروع الشاعر الجدِّي من حيثُ أنهُ احتوى على بعض التجديد في الأساليب والصور الشعرية البديعة.
نلمحُ في ضجرِ الذئبِ عباراتٍ مركَّبةً وأطيافاً ملوَّنةً لنصِّ ما بعدَ الحداثةِ. ونسمعُ أصداءً ملحميَّةً عظيمةً يفتتحُ الشاعر بها الديوان في مطوَّلتهِ العامرة "مجرَّةِ القتلى".
فنلمسَ هناكَ التواترَ اللفظيَ الجامحَ والخيالاتِ البريَّةَ والنبرةَ العالية والغوصَ على التراكيبِ الشعريةِ الباهرةِ للأذهانِ والتي تأسرُ العقولَ والقلوبَ معاً.. ونطربُ لوقعِ الموسيقى المارشيّةِ الهادئةِ حيناً والهدَّارةِ أحياناً في تجريبٍ ومغامرةٍ تجاوزت تجاربَ العديدِ من الشعراءِ العرب في تلكَ المرحلة التي امتدَّت من أواخر الثمانينات حتى بداية التسعينياتْ وكانت من أكثر المراحل أهميَّة على مستوى الشعر الفلسطيني الأردنيِّ الذي تمثَّلَ بشعراء كثيرين كتبوا تفعيلةً وغير تفعيلة مثل طاهر رياض ويوسف عبد العزيز وزهير أبو شايب وعمر شبَّانة وأمجد ناصر.
مجرَّةُ القتلى إعجازٌ تفعيليٌّ محض وقصيدة ثائرة على الأنماط الشعرية البسيطة بينما ضجر الذئب إعجازٌ نثريٌّ فريد ونشيدُ إنشادِ عشقِ صاحبهِ لامرأةٍ من زرقةِ البحرِ.. وقد جاءت قصيدة ضجر الذئب خاتمةً للديوان.. وبين هاتين القصيدتين يرتفعُ أداءُ الشاعرِ ولا يسفُّ أبداً كأنهُ صقرٌ يطيرُ عموديَّاً نحوَ النورِ والمجدِ.. يعالجُ موضوعاتٍ عديدة في حياتهِ الشخصية ويجعلُ اليوميَّ العابرَ يصبُّ في صميمِ الشعرِ.. الشاعر يعبِّرُ عمَّا يجيشُ في صدرِ شاعرٍ فلسطينيٍّ شاب لم يأخذ نصيبهُ من الشهرةِ والأضواء رغم علوِّ كعبِ شاعريَّتهِ..

أبو لوز شاعر مطبوع يراوحُ بينَ التفعيلةِ المكتوبةِ بوعيٍ عالٍ ورصانةٍ تعبيريَّةٍ وجدَّةٍ تصويريَّةٍ وأناقةٍ لفظيةٍ وبينَ قصيدة النثرِ الحقيقيةِ التي تحتفظُ بحرارةِ دمائها وصوتها المتفرِّدْ.
أنا أنتمي إلى أبي لوز من حيثُ أنَّهُ أستاذٌ في اجتراحٍ الأخيلة والأساليبِ الفنيَّةِ غير المطروقةِ في كتابة نصٍّ حداثيٍ جديد يرتكز على موروث الفلسفة العربية القديمة وجماليات إبن عربي والنفرِّيْ والفارابي فهو مشغوفٌ بالنثرِ العربي إلى أبعدِ حدْ.
أبو لوز شاعر متمرِّد وصاحبُ نهجٍ في تطوير وعيِ شاعريَّتهِ وتطويرِ تقنياتِ فهمهِ لما يريدُ من اللغة وكيفَ يريدُ للقصيدةِ أن تبدو في الأخير. وما هيَ المناخاتُ الأفضلُ لتربيةِ هواجس ما بعدَ الحداثةْ.
ضجرُ الذئبُ ديوانٌ فريدٌ ودرَّةٌ كمينةٌ يهديهِ صاحبهُ إلى الفراغ.. لا أعرفُ أيَّ فراغٍ هذا الذي يقصدهُ الشاعرُ ولكنني أربطُ الفراغَ الذي أرادهُ وعناهُ في مطلعِ ديوانهِ بذلكَ الضجرِ الذي استبدَّ بالذئبِ العربيِّ.. ذلكَ الذئبِ الذي استعادَ أبو لوزَ صوغَ ملحمتهِ واستعارَ قناعهُ في مسيرةٍ شعريَّةٍ جبَّارةٍ... وحتى هذهِ اللحظةِ لم ينـزعْ شاعرنا عن وجههِ القناعَ الذي ربمَّا أعجبهُ.. فأصدرَ بعدَ خمسةَ عشرَ عاماً من صدورِ ضجر الذئب ديوان آخر هائل في جمالهِ بعنوان"خطُّ الهزلاج" والهزلاج هو الذئب الصغير وربمَّا يكون معنى هذهِ التسمية الجميلة مسربَ الذئبِ الصغير. ولا أعرفُ مصدرَ ولعهِ بالذئبِ المستوحى من الأساطيرِ الشعبيَّةِ بأنَّ الذئبَ يحملُ طبعاً غريباً يجمعُ الشراهةَ إلى الجوعِ اللا نهائيِّ .. وهذا يذكِّرُنا بذئبِ الفرزدقِ وقصّتهُ مشهورةٌ في كتبِ أدبنا العربيِّ.. ولكننا نلمسُ في نصوصِ أبي لوز بعداً آخرَ ميتافيزيقيَّاً ونجدُ أيضاً حميميَّةَ اللغةِ البريَّةِ المتدفةِ في لواعجِ روحهِ.. وهذا يعيدُ إلى أذهاننا صورةَ الشعراءِ الصعاليكِ فنحاولُ الربطَ بينَ أبي لوز وبينَ عروةَ بن الورد والشنفرى والسلَّيك بواسطةِ التعلُّقِ بحياةِ الصحراءِ وجموحها المطلقِ وبريَّتها المفتوحةِ على أقاصي النفسِ البشريةِ الحزينة لدى الشاعر الذي يحملُ من نفسيَّاتِ الصعاليكِ الكثيرَ.
ولا عجبَ في هذا فالشاعر ينحدرُ بأصلهِ من أسرةٍ فلسطينيةٍ من بدوِ النقبِ هاجرت إلى الأردنِ واستقرَّت هناك منذ أواسط القرن الماضي. بينما تنقَّلَ أبولوز بموجب عملهِ في بعضِ الدولِ العربيَّةِ كالإمارات والسعودية حيثُ عملَ في الصحافةِ الأدبيَةِ.

قالَ بعضُ النقَّادِ أنَّ ديوانَ الشاعرِ الثالث المسمَّى نصوص الدم هو الذي شكَّلَ علامةً فارقةً ونقطةً فاصلةً في تجربةِ الشاعر وهو الذي حملَ لصاحبهِ الشهرة والأهميَّةَ في العالمِ العربي.. متذرِّعينَ بمحاولات الشاعر الإنقلابَ على نفسهِ وذاتهِ الشعريَّة حيثُ حوى صوراً طازجةً ورؤى مستقبليةً ممسوحةً بالنبوءةْ.
ولكنني أعارضهم وأُرجِّحُ كفَّةَ الديوان الرابعِ "ضجر الذئب" لوفرةِ مادَّتهِ ونوعيَّتهِ الممتازة واختراعاتهِ وفتوحاتهِ الكبيرة فقد حاولَ شاعرنا في هذا الديوان أن يُقدِّمَ عصارةَ تجربتهِ في الشعرِ ويجلو عبقريَّةً واضحةً من غيرِ غموضٍ في مقطوعات شعريةٍ ومطوَّلتين رائعتين اعتمدَ فيها حشدَ المعاني المجنَّحة وتكثيفَ الصور.

يقول الشاعر في مطوَّلة "ضجرُ الذئب" حاشداً غيماً كثيفاً من المجازات والاستعارات
"تلالٌ من القرفةِ، والخبز المحموسِ، تلالٌ رآها جَدّي ذو الرِمّة وقالَ مصعوقاً: هذه غيمةُ الجَدْبِ، وبقي عصوراً وهو يتبعها بناقته، ولثام وجهه النّاحل مثلُ أعواد الذَرة، تلالٌ تأوي إلى قمصان الخدر الذي يشبه الموت، ولا موت لك الآن، وأنت تفتْح هذه السّواحل البروزنية، مُتسلِّحاً بنبيذٍ يكفيك سبعَ ليالٍ. لو تحلُّ فيك روحُ غابةٍ، أو رَنينُ جبلٍ، لو تندفع بجسد ثورٍ إسبانيٍّ لا يقتل أحَدَ أصدقاء لوركا.. لو تزيح هذه التلال أو تمضي إلى حتفكَ، وهناك على طرف السّاحل تتمدّد، بكامِلِ دمك الشبقيِّ، وقد طلعت من رأسك
زهرةٌ بريةٌ،
لا
تذبلْ"

أفتخرُ حينَ أقولُ أنني أنتمي إلى شاعرٍ عربيٍّ لوكونيٍّ فذٍّ مسكونٍ بالحزنِ والألمِ والثورةِ والحبِّ والأحلامِ والخيبةِ من مصيرِ هذا الشعبِ المسكين ألا وهو شعبهُ ولا أزالُ أقفُ حتى بعدَ قراءاتٍ لا تحصى أمامَ ضجرِ الذئبِ في نشوةٍ شعريّةٍ عظيمةٍ منافحاً " أتحدَّى أيَّ شاعرٍ من الشعراءِ العربِ المتأخرينَ أن يكتبَ قصيدةً بمثلِ زخمِ وجماليَّةِ وإبهارٍ مجرَّةِ القتلى.." القصيدة التي أقفُ أمامها بإكبارٍ وعزَّةٍ واحترامٍ بالغٍ ... وأعتبرها ركناً أساسيَّاً في تكوين كلِّ شاعرٍ لا زالت تدغدغهُ تفاعيلُ الخليل الفراهيديِّ ... حتى لو قرأتُ كلَّ شعرِ العالمِ فإنني أنتمي إلى يوسف أبو لوز...!

***



.../...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى