أنور المعداوي - جناية الفلسفة على العقول

جناية الفلسفة على العقول أمر لم نكن نؤمن به حتى أثبت لنا الدكتور الأهواني أنه حقيقة لا تقبل الجدل. . . إذا لم تصدق فاعلم أن هذا (الفيلسوف) قد آثر أن يشكونا إلى النيابة العامة بدلاً من أن يشكونا إلى روح طيب الذكر رينيه ديكارت!

وجناية الفلسفة على العقول قد تحققت بالنسبة إلى الدكتور الأهواني مرتين: الأولى حين أوهمته (فلسفته) أنه يستطيع أن يكون أديباً يشارك في هذا الذي يشارك فيه الأدباء، وناقداً يخوض في هذا الذي يخوض فيه النقاد. . . والثانية حين ألهمته هذه الفلسفة أن لقاءنا في ساحة النيابة أسلم مغبة له من لقائنا على صفحات الرسالة! ولم يفكر الدكتور الأهواني طويلا لأن منطق الفلسفة الأهوانية لا يعترف بمبدأ الإحجام عن أي أمر من الأمور. . . ومن هنا قرر (الفيلسوف) أن يكون أديباً رغم أنف النقاد، وعلى الذين لا يعترفون بمكانته الأدبية أن يواجهوا النيابة العامة!

ولم يكن هناك بد من أن نواجه النيابة العامة، أتدري لماذا؟ لأننا لم نشر إلى (الفيلسوف الأديب) بأطراف البنان وإنما أشرنا إليه بأطراف اللسان. . . ولعلك قد أدركت بفطنتك ما تحمل الإشارة الأخيرة من معان!!

وننتقل بك إلى مرحلة التحقيق أو مرحلة العقوبة والتطبيق. . . ولا تعجب إذا قلنا لك إننا قد رغبنا إلى المحقق في أن يمهلنا بعض الوقت، ليكون للضحك الساخر أو للسخرية الضاحكة أوفى نصيب! وكيف لا نضحك والدكتور الأهواني يدفعنا إلى الضحك دفعاً ويفرضه علينا فرضاً وكأنما يريد أن يشغلنا بفكاهاته عن حر الصيف ووطأة الصيام؟ سمها إن شئت فكاهة الفلسفة أو فلسفة الفكاهة. . . وقد تتفلسف الفكاهة أحياناً فلا تعبأ بمنطق ولا تؤمن بقاعدة ولا تخضع لشيء من هذا الذي تخضع له العقول!

هذه الفكاهة المتفلسفة عمادها في شكوى الدكتور الأهواني أننا قد تهجمنا على مكانته العلمية وأستاذيته الجامعية، وأنه لا تكافؤ بين الناقد والمنقود. . . فالناقد أنور المعداوي ليس دكتوراً حتى يحق له أن يتهجم على دكتور في الآداب، وليس أستاذاً في الجامعة حتى يحل له أن يتطاول على أستاذ في الجامعة، وفي هذا الاعتداء المعنوي ما يعاقب عليه القانون أو ما يجب أن يعاقب عليه! تواضع عظيم. وحسبك دليلا على هذا التواضع أن الدكتور الأهواني لم يشأ أن يتشدد مع النقاد، ولو شاء لطلب إلى النيابة العامة أن تطبق القانون على كل ناقد يتعرض له إذا ثبت أن هذا الناقد لم يحصل على جائزة نوبل في الآداب!

تواضع عظيم لا شك فيه. . . ومنطق عظيم لا شك فيه أيضاً. . . وآية العظمة في هذا المنطق أن كاتبا له مكانته كالأستاذ العقاد لا يجوز له مثلا أن ينقد صاحب الفلسفة الأهوانية، لأن شرط التكافؤ بين الناقد والمنقود يا رعاك الله. . . غير موجود. ولا يستطيع الأستاذ العقاد أن يدعي بأنه دكتور في الأدب أو دكتور في الفلسفة، أو يزعم بأنه أستاذ في جامعة الفؤاد أو جامعة فاروق. . . هكذا تريد لنا الفلسفة الأهوانية.

دكتور في الفلسفة وأستاذ في الجامعة. . . هذا حق لا يمكننا أن نجادل فيه، ولكن بقي حق آخر لا يحتمل المناقشة، هو أن (الدكتوراه) التي يحملها الدكتور الأهواني كانت أول دكتوراه فيما نعلم يحصل عليها صاحبها مجردة من مراتب الامتياز ودرجات التفوق. . . ترى هل يستطيع أن يجادلنا في هذا الواقع الذي شهدناه بأعيننا يوم أن نوقشت رسالته، وقد كانت عن (التعليم في رأي القابسي)؟!

أغلب الظن أنه لا يستطيع. . . ومع ذلك فهو دكتور يزهى علينا بالدكتوراه، وأستاذ في الجامعة يفخر علينا بالأستاذية، ثم لا يجد ضيراً من أن يجهر بعدم التكافؤ بين الناقد والمنقود. . . أو بين المعداوي والأهواني!!

إن الحصول على الدكتوراه في مصر ليس أمراً عسير المنال كما تتوهم الفكاهة المتفلسفة، وبخاصة إذا روعي في الحصول عليها ذلك (التواضع) الذي يحرص على أن تكون الألقاب العلمية مجردة من تفوق المراتب والدرجات. . .

هذه كلمة نرجو أن يقرأها الدكتور الأهواني بعناية. . . ونحن في انتظار بلاغ آخر يتقدم به إلى النيابة العامة!

أزمة القراء وعصا الأستاذ الحكيم

(قالت العصا: هل رأيت هذه المكتبة العامرة بالكتب في أشهر ميادين القاهرة، كيف تحولت أخيراً إلى حانوت للمرطبات؟! إن صاحبها هو صاحبها لم يتغير. ولكنه قلب نفسه بكل بساطة من (كتبي) إلى (شربتلي)!. . . وعندما سئل في ذلك قال: الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن. . . إنهم يريدون عصير الليمون!

قلت: هذا صحيح مع الأسف. . . وهي ظاهرة خطيرة تستحق العناية والعلاج. . . فإن انصراف الناس عن غذاء العقل نكبة كبرى لأمة في طريق التحضر. . . وما قيمة التعليم في أمة إذن، إذا كانت نتيجته تخريج زبائن للمشارب لا للمكاتب؟! إن أبقى درس وأهم كسب للطالب في المدرسة، ليس في تلك المعلومات المحددة لأنها ستنسى حتماً بعد حين، ولكنهما في غرس ملكة المطالعة التي ستلازمه في كل حين. . . لا خير ولا نفع في أرقى المدارس والجامعات إذا خرج منها الطلاب يلعنون كتبهم ويختمون على رءوسهم. . . بينما الطالب الذي ينشأ فيه حب المطالعة والاطلاع تنشأ في نفس الوقت جامعة كبرى نفسه، تزوده بالمعارف المتجددة طوال أيام حياته. . . ذلك واجب المدرسة الأول: تعلمنا حب القراءة. . . وتمرن عضلاتنا الفكرية على هضم أغذية العقل. . . ثم تدفعنا إلى الحياة نزدرد ثمرات الذهن. . .

قالت العصا: حقا. . . إن الإنسان يولد زبونا بالفطرة لعصير الليمون. . . ولكنه لابد أن يعد إعدادا ليصير زبونا لعصير الذهن!)

هذا هو الحوار البديع الذي دار منذ أيام على صفحات (أخبار اليوم) بين صديقنا الفنان الكبير الأستاذ توفيق الحكيم وبين عصاه. . . وأزمة القراء التي شغلت قلم الصديق فأجرت مداده بهذه الكلمات الطافحة بالمرارة والفياضة بالأسف، مشكلة عرضنا لها بالأمس على صفحات الرسالة محددين أسبابها الأصلية ودوافعها الطبيعية، معبرين عن مظاهر الأسف والمرارة كما استشعرها الأستاذ الحكيم!

ولا نذكر أننا التقينا مرة - توفيق الحكيم وأنا - إلا وعرجنا على هذه المشكلة وخصصناها بأكثر ما ينقضي بيننا من وقت وأغلب ما يدور بيننا من حديث. . . إنها مشكلة من مشكلات الساعة بلا جدال: جيل ينصرف عن القراءة المفيدة إلى فنون من اللهو والعبث لا تنفع ولا تفيد، ويضيق بعصارة الفكر التي تطفئ ظمأ العقل وترطب جفاف القلب ليقبل على كل ما من شأنه أن يذبل نضارة العقول ويغلق منافذ القلوب. . . هذا الجيل ماذا حدث له، وماذا نفعل من أجله، وكيف نهديه إلى معالم الطريق؟ إننا نستطيع أن ننفذ إلى مكامن الداء في جسم هذا الجيل المريض، ونستطيع أن نضع أيدينا على مصدره ونستطيع بعد هذا كله أن نصف العلاج الناجح والدواء المفيد. . . نستطيع أن نفعل هذا الذي قلناه، ولكن المشكلة التي تواجهنا ويتحول معها الأمل إلى يأس هي طبيعة المريض نفسه، طبيعته العقلية والنفسية، هذه الطبيعة التي لا تؤمن بقيمة الدواء ولا بجدوى العلاج ولا بنصائح الطبيب!!

وأين هو الطبيب المنتظر الذي يحمل الدواء إلى المريض في يد (والكرباج) في أخرى، حين يكون الكرباج هو السبيل الوحيد إلى الإقناع؟! أين هو ليجرع المريض العنيد عصير الذهن بدلاً من عصير الليمون، فإذا امتنع عن تجرع الدواء ألهب ظهره بسوط الجلاد؟! نحن محتجون إلى عهد الكرباج ليقرأ الناس. . . ولا شيء غير الكرباج يستطيع أن يقنعهم بأن الجد خير من الهزل، وأن الثقافة أفضل من الجهل، وأن النور أجمل من الظلام!

كل هذه الخواطر التي نسجلها في هذا المكان حول أزمة القراء، كنا ننتهي إليها وينتهي الأستاذ الحكيم كلما جمع بيننا لقاء. . . ويقول الأستاذ الصديق ذات يوم وكأنما اهتدى إلى علاج: ألا يكون ارتفاع أثمان الكتب سبباً من الأسباب الجوهرية في انصراف الناس عن القراءة؟ ونقول له رداً على ملاحظته المغلفة بإطار من الإيمان: لا نظن. . . فالقارئ الذي يريد أن يبسط عقله لا يقبض يده! ثم إن الكتب يا صديقي ليست هي الشيء الوحيد الذي ارتفع ثمنه في هذه الأيام، كل شيء قد ارتفع ثمنه وغلا سعره، ومع ذلك فما أكثر ما يقبل الناس ومنهم المتبلمون على الشراء ينفقون الجنيهات على المتعة الزائلة ويضنون بالقروش على المتعة الباقية. . . ينفقون على متعة الجسم والنظر ويضنون على متعة الذهن والروح. . . مائة قرش يدفعها الشاب الجامعي ثمنا لرباط رقبة، وعشرون قرشاً يستكثرها ثمنا لأثر من آثار الأدب والفن، ومن هنا عمرت محال (الكرافتات) وأقفرت من روادها المكتبات!

ويهز توفيق الحكيم رأسه هزات المؤمن بما يقول، ولكنه يريد أن يجعلها تجربة ليحكم في ضوء الوقائع المادية لا الآراء النظرية. . . ولم تمض أسابيع حتى أصدر الصديق مجموعتين من قصصه حدد لكل منها ثمنا قدره عشرة قروش بدلاً من خمسة وعشرين وعلى الرغم من أن توفيق الحكيم هو أكثر كتاب الشيوخ إقبالاً من القراء، فقد كانت نتيجة اليوم هي نتيجة الأمس. . . عشاق فنه وحدهم هم الذين أقبلوا على شراء قصصه الجديدة، نعني أن القروش العشرة لم تجذب قارئا جديداً لتضمه إلى قائمة قرائه المعجبين! والسبب. . . هو أن الذي يهوى القراءة ويعشق الاطلاع لا يهمه أن يكون ثمن الكتاب عشرة قروش أو مائة أما أولئك اللاهون والتافهون من وراد المراقص والمقاهي والحانات، فلن يقرئوا ولو حددنا أثمان الكتب بالمليمات!!

هذه حقيقة آمن بها توفيق الحكيم بعد التجربة كل الإيمان. . . ويقول لنا بعد أن عاد من رحلته الأخيرة إلى باريس. ما أعجب القوم هناك! إن حياتهم حياة. . . وحسبك أن العين قلما تقع على فتى أو فتاة من غير كتاب. . الكتاب دائماً يطالعك في أيدي الناس حيثما ذهبت: في القهوة، والبيت، والشارع، والمترو، وحلبة السباق. . لا يكاد يصرفهم عنه لهو أو متاع، في بلد كل ما فيه لهو ومتاع. صدقني ما أحسست بمدى الفارق بين الموت والحياة إلا بعد أن رجعت إلى مصر، وقارنت بين حال القراء هنا وحالهم هناك!

ولم نكن محتاجين إلى أن يقص علينا الأستاذ هذا الذي رآه، لأن بعض الحقائق تلمس بالعقل إن عز لسمها على الأنظار والأسماع. . . ومن هذه الحقائق الملموسة بالعقل أن القارئ الفرنسي يلتهم الكتب ن القارئ الفرنسي يلتهم الكتب التهاما ليضيف إلى عمره أعماراً أخرى عن طريق القراءة والاطلاع، ولولا هذا لما كانت الطبعة التي بين أيدينا من أحد كتب سارتر هي الطبعة الثالثة والتسعين. . . ولا تنس أن الطبعة الواحدة تقدر في حساب الناشرين بعدد من الألوف!!

هذا في فرسا، أما في مصر. . . فقد حدثنا الأستاذ الحكيم عن قصة صاحب المكتبة العامرة بالكتب في أشهر ميادين القاهرة وكيف تحولت إلى حانوت للمرطبات. . . وعندما سئل الرجل في ذلك أجاب: الناس لا يريدون اليوم عصير الذهن. . . إنهم يريدون عصي الليمون. . . وياله من جواب ذلك الذي يعيد إلى الأذهان أسطورة نهر الجنون!

أنور المعداوي



مجلة الرسالة - العدد 887
بتاريخ: 03 - 07 - 1950

أعلى