صنع الله إبراهيم - الثعبان...

هكذا بدا الطريق فجأة. وكان ذلك عندما أبطأ السائق من سرعة السيارة، وانحنى على مِقوَدها في توجُّس. ومضى يصعد بها المرتفع ثم يدور مع الطريق وهو يُطلِق نفيره في صوتٍ حاد. لم يكن هناك من شبحٍ لكائنٍ واحد على مبعدةِ عشراتِ الأميال في كل اتجاه. وما كان أحدٌ ليتوقع غير ذلك في هذه الصحراء المترامية النائية. ومع ذلك كان على السائق أن يحذَر المفاجآت عند كل منحنًى أو مرتفع.

وحبس الطبيب أنفاسه وهو يتطلَّع من النافذة إلى الصخور الضخمة كالقلاع التي برزَت على كل جانب، وخفَّت الضجَّة ثم تلاشت داخل السيَّارة. وقد انحنى كل الركاب على النوافذ يتأملون في جزع الهوَّة الضخمة التي تَهبِطُ على جانب الطريق مباشرة. وعند المنحنى كانت السيارة قد ازدادت بطئًا حتى أوشكَت على الوقوف، ومضت تتقدَّم في خطواتٍ بطيئة كالزحف. وكانت هناك أعمدةٌ خشبية قصيرة طُليتْ باللونَين الأحمر والأسود وثُبِّتتْ على حافة الطريق تحذِّر من الهاوية. وكان اثنان من هذه الأعمدة مُلقيَين على الأرض. وتجاوَزَت السيارة المنحنى وانحدَر الطريق إلى أسفل، فاعتدل السائق في مكانه وترك السيارة تنساب هابطةً دون أن يغيِّر سرعتها؛ فقد كان هناك منحنًى آخر. ودار الطريق من جديدٍ صاعدًا، والتمعَت الشمس على الصخور الضخمة وبدت كُتلُها مزعجة. ولوى الطبيب عُنقه إلى الوراء ليتأمل الجزء من الطريق الذي خلَّفوه وراءهم. وإلى أسفل كان الطريق الطويل الضيق يمتد وسط الصحراء في شريطٍ أسودَ لا نهاية له، ويلتوي على نفسه ويدور صاعدًا وهابطًا في دوائر. وأحَسَّ بأنفاس الراكب الجالس خلفَه تصطدم بقفاه في دفقاتٍ قصيرة متلاحقة، ثم سمعَه يهمس بصوتٍ خافت: «ياه .. زي التعبان.»

وعندئذٍ أخذ كل شيء يبدو كشيءٍ آخر. وقبل ذلك لم يكن هناك غيرُ الضجر بالساعات الأربع التي تستغرقها الرحلة حتى أسيوط. وكان الطريق في البداية يمتد مستقيمًا، والصحراء تنبسط يمينًا ويسارًا إلى ما لا نهاية دون أن يعترضها مرتفعٌ واحد؛ فلم تكن الجبال إلا خطوطًا بعيدة في الأفق. ولم يكن هناك ما يُوحي بأن جغرافية المكان ستتغيَّر؛ فرحلة المجيء كانت بالليل الذي أخفى تفاصيل الطريق، ولم تتكشَّف حقيقته إلا عندما بدأ ينثني ويدور صاعدًا هابطًا ويتلوَّى ويتموَّج منطلقًا إلى الأمام كالثعبان.

لم يكن هناك من طير أو حيوان أو إنسان في أي ناحية. لم يكن هناك غير الرمال والصخور. والأعمدة التي تتتابع في سرعةٍ خاطفةٍ على جانبَي الطريق، بعضها يحمل إرشاداتٍ للسائق، والبعض الآخر يحمل أرقامًا مختلفة فشل الطبيب في أن يحدِّد أيها يُعيِّن المسافة المتبقية على أسيوط، والبعض الثالث كان أقرب إلى شواهدَ حجريةٍ صغيرة تحمل أرقامًا مطموسةً وتبدو كالتماثيل الحجرية القديمة لفلاسفة اليونان والرومان التي تظهر صورها في الكتب والمجلات.

وإلى اليسار كانت أعمدة التليفون التي تربط الواحات بأسيوط تجري مع السيارة. كان عمودٌ منها تسنده أسلاكٌ متينة تُثبَّت إلى الأرض بأثقالٍ من الأحجار حتى لا تجرفها رياح الصحراء العنيفة. وفي بعض الأحيان كان العمود ينتصب مجردًا من الأسلاك أو مُثبَّتًا بسلكٍ واحد. وكان العمود ساقًا رفيعة من الخشب يعترضها قضيبٌ صغير في قمتها، فيبدو كالصليب. وكانت مئات من هذه الأعمدة بل آلاف تتسابق أمام الطبيب في خطٍّ مستقيم على اليسار، وبدَت له أشبهَ بصُلبان أُعدَّت ليُعلق فوقها متمردون ثائرون. يُعلَّق الواحد منهم من يدَيه، ويُلصَق ساعداه بالقضيب الأفقي، ويُدَق في كل كف مسمارٌ طويل، ويُربط الجسد بالعمود بحبلٍ متين كي لا يقع الثقل كلُّه على اليدَين، وتنزف الدماء من اليدَين، ثم من الأنف والفم، ثم تتصاعد رائحةٌ نتنة تجذب الذباب والصقور، ويتدلَّى الرأس عاجزًا خائرًا؛ العينان مغلقتان ولكنهما تطرفان بين الحين والآخر بنظرةٍ حائرة تتجمَّع في أعماقها قوًى خفية تُجاهِد لتتبيَّن أو تُدرِك شيئًا ما. وربما تتحرَّك الشفتان أيضًا وتطرفان مثل العينَين، لكن أحدًا لن يعرف أبدًا ماذا أراد صاحبهما أن يقول.

وكان الطبيب قد قرأ في مكانٍ ما من قبلُ عن الصُّلبان التي أقامها الرومان في إحدى الطرق المؤدِّية إلى روما منذ ألفَي سنة، وعُلِّقتْ فوقها أجساد ستة آلاف عبد. وكان أولئك العبيد قد ثاروا وقاتلوا ثم هُزموا وظلَّت أجسادهم المصلوبة مصدر متعة ولذَّة لأحرار الرومان بعض الوقت أما الصلبان فلم تشبع أبدًا منذ ذلك الحين؛ كان الرومان قد نقلوها عن مستعمراتهم ووُجد من نقلَها عنهم بعد ذلك. وخطَر للطبيب أن الصُّلبان كانت متقاربة بلا شكٍّ كهذه الأعمدة، وأنه لا يزال هناك من يستمتعون بمنظر الدماء والصلب، ولا يزال هناك أيضًا العبيد الذين يثورون ويقاتلون ويُهزَمون. مثل الرجال الذين جاءوه بهم عندما كان طبيبًا في السجن، ووقفوا أمامه في سكون وقد تدلَّت رءوسهم وعرَّوا صدورهم وظهورهم، فبدَت جراحهم كأنما أنزلوا لتوِّهِم من فوق الصلبان قبل أن تنهشَهم الطيور الجارحة.

كانت الصلبان تسابق السيارة، تُسرع إذا أسرعَت، وتُبطئ إذا أبطأَت، والأسلاك التي تصل بينها تهتَز بين الحين والآخر إذا هبَّت الرياح، لكن الهواء كان قد أصبح عزيزًا. وتوهَّجَت الشمس، وبدأ السائق يُبطِّئ من سيارته قليلًا. كان يجلس في هدوءٍ دون أن يعبأ بشيءٍ حوله، ولا بد أنه كان يُحِس بمللٍ فظيع؛ فأي لذة في أن يظل رائحًا غاديًا في هذا الطريق الطويل الذي لا يتغير به منظرٌ واحد. أعمدة التليفون هي هي، والصخور وأرقام الكيلومترات والاستراحتان الخاليتان وسيارة النقل التي أوقفَها صاحبها على جانب الطريق ونام فوقها. وهذه الخيمة الوحيدة .. لم يكن بها من أثَر للحياة، كأنما هجرها أصحابُها فجأةً لسببٍ ما، أو افترسَتْهم الوحوش ولم تتركْ منهم شيئًا. لكن شخصًا ظهر فجأة على باب الخيمة عندما اقتربَت السيارة منها، كان يرتدي ملابس الجنود وعلى رأسه بيريه أزاحَه إلى الخلف، وظَهرتْ قطراتُ عَرق على وجهه وعنقه. وعندما فتَح سُترتَه بدت منها فانلةٌ متسخة، وكان يحمل دفترًا صغيرًا في يده، وتقدَّم على مهل من السيارة التي توقفَت تمامًا، واتجه إلى باب السائق وقد تقلَّصتْ ملامح وجهه في ضيق، وأدرك الطبيب أنها نقطة مرور. وعلى باب الخيمة ظهر جنديٌّ آخر يحمل بندقيةً في يده ولا يرتدي شيئًا في قدمَيه، ووقف يتطلع إلى السيارة في غير مبالاة وعيناه تدوران بنوافذها تبحثان بلا شكٍّ عن وجه امرأةٍ يرطِّب قليلًا من جفاف الصحراء. وفكَّر الطبيب أنه لا يُوجد أحدٌ غير هذَين الجنديَّين هنا، وحاول أن يتصوَّر كيف يقضيان الوقت طول النهار وطول الليل، وكيف يحصُلان على طعامهما. وخطر له أنهما لا بد يقاسيان الليل؛ فبرد الصحراء مثل حرها لا يُطاق، ولا بد أنهما ينامان أيضًا متجاورَين، وربما شعر أحدهما بالبرد والوحدة ذات ليلة فالتصق بزميله؛ ففي الليل — عندما يشتد البرد وتعجز الأغطية القليلة عن مقاومته وعندما تبدو السماء هائلةً صامتة وتَعوي الذئاب والوحوش التي لم يَرَها أحد — عندئذٍ لا تعرف ماذا يمكن أن يحدث.

وكان الطبيب يستطيع أن يتتبَّع الشعور بالبرد والوحدة في أي إنسان، وربما كان السبب في ذلك أنه قضى شطرًا كبيرًا من حياته العملية في السجون؛ ففي تلك المباني القاتمة — الصفراء من الخارج المظلمة من الداخل — ترى كل شيء عاريًا. وعندما كان السجناء يأتون إلى غرفته ليُوقع عليهم الكشف كان يتأمَّلهم في فضول، كانوا مساكين جدًّا، مرضى وعواجيز ومحطَّمين، لا تستطيع أن تميز بينهم بملابسهم الزرقاء المتشابهة ووجوههم اللامبالية، بعضهم مريض فعلًا وقاسي كثيرًا حتى وصل إليه والبعض الآخر يحشد كل ما أُوتي من دهاء ليفوز منه بكوب من اللبن أو قطعة لحم أو بطانية، لكن الطبيب كان يرى الخوف والألم على وجوههم جميعًا.

وفي البداية — عندما كان شابًّا مليئًا بالحيوية وعندما كان كل شيء يبدو بسيطًا واضحًا كما كان الطريق يبدو هذا الصباح قبل أن يتلوَّى ويتعقَّد ويتموَّج كالثعبان — كان يظُن أنه يستطيع أن يقهر الألم، لكنه كان واهمًا؛ فقد كان الألم كالسرطان تستأصله من مكانٍ فيظهر على الفور في كل مكانٍ آخر. وأصبح يستيقظ من نومه كل ليلة صارخًا بعد حلمٍ واحد لا يتغير، وفي هذا الحلم كان يرى نفسه جالسًا إلى مائدةٍ صغيرة وسمَّاعته معلَّقة في رقبته وخلفه سجينٌ يحمل إناءً به سائلٌ أحمر أدرك أنه دماء، وكان يغمس أصابعه في هذا الإناء بعد كل كشف، وعلى جانبَيه يقف عملاقان كالحُراس في ملابس التمريض البيضاء، وهو تحتهما ضئيل جدًّا، وأمامه صفوف من السجناء يقتعدون الأرض لكنهم لا ينظرون إليه؛ فبصرهم معلَّق بأحد العملاقَين الذي يلوك شيئًا بين أسنانه وقد شردَت عيناه وتبدَّت ملامح وجهه غاضبةً شرسة تُنذِر بأنه قد يعود إلى وعيه مزمجرًا في أية لحظة. ويأتي المتعهد السمين باللبن — الذي يشربه مرضى السجن — كي يفحصه الطبيب، ويضع الرجل إناء اللبن أمامه ثم يصُب فيه دلوًا من مياه الغسيل القذرة، ثم يدخل آخر حاملًا الذبيحة التي سيأكُل منها السجناء، ويُقرِّبها منه ليفحصها، ويُريه وهو يبتسم الأجزاء المهترئة المريضة ثم يحملها وينطلق إلى الداخل. أما هو فيُلوِّح بيدَيه ويودُّ أن يصرخ ويحتجَّ ويرفض ويهدِّد، لكن الصوت يحتبس في حنجرته ويتخبَّط هناك ناشبًا أظافره في سقف الحلق.

ولم يكن من الممكن أن يستمر هذا إلى الأبد؛ فقد كان شيئًا يحطِّم الأعصاب.

وكانت أعصابه هادئة الآن، لكن معدته كانت قد بدأَت تضطرب من أثَر المطبَّات؛ فرغم أن الطريق مضى على شقه ورصفه أقل من عامَين إلا أن الرصف أُصيب بالتلَف في أكثر من موضع. وفكَّر الطبيب أن شَقَّ الطريق لم يكن بالأمر الصعب؛ فقد كانت الصحراء منبسطة كالسهل إلا في مكان أو اثنَين. وكانت السيارة تقترب الآن من أحد هذه الأماكن الوَعْرة، وهو شبه نفقٍ وسط جبل تبدو عليه آثار عملٍ حديث؛ فلم يكن هناك شكٌّ في أن الأيدي والآلات هي التي شقَّت هذه النفق وسط الجبل، كان السفحان قريبَين جدًّا بصخورهما الحمراء. وسارت السيارة ببُطء في النفَق، فاصطَبغ الجو كله باللون الأحمر، وعاد السائق ينحني على المِقوَد في توجُّس، وتطلَّع الركَّاب من النوافذ في رهبة إلى الصخور الضخمة المعلَّقة على السفح على بُعد ذراع كأنها موشكةٌ على السقوط بين لحظة وأخرى.

وكان الطبيب يتأمل السفح والقمة في فضول وترقُّب كأنه يتوقَّع أن تبرز رءوسٌ ملوَّنة تصرخ وتهجم عليهم كالجراد، وتُمطِرهم بالسهام المسمَّمة كما يحدث في الأفلام، أو ينطلق الرصاص فجأة من كل مكان يُصوِّبه أعداءٌ مجهولون يتربَّصون. ولم يخطر للطبيب أنه يحلُم أو يتخيَّل؛ فقد كان يعرف أن شيئًا مثل هذا يحدث في الناحية الأخرى من الصحراء عَبْر البحر. وربما في هذه اللحظة بالذات كان هناك جبلٌ مثل هذا الجبل، له صخور وتجاويفُ وكهوف يختفي فيها القتلة. وربما كان هناك جنديٌّ يجلس على حافته، ومن خلْفه يتسلَّل عدة رجال أنصاف عُراة يحملون الخناجر ولا يعرفون شيئًا غير القتل، ويهجُمون على الجندي في صمتٍ وتنهال عليه الطعنات، ويتدحرج على التراب ودماؤه تترك خطًّا أحمر من خلفه، سرعان ما يتجمَّد ملتحمًا بالتراب ويتدحرج بسرعة، والغبار يرتفع فوقه حتى يستقر في القاع. وفي أعلى يستمر القتال الوحشي، ثم يتوقَّف بعد أن يتحقق النصر، ويبدأ التعمير، وتُشَق الطرق، وتُبنى المصانع، وتُقام دور السينما، وتُؤلَّف أغاني الحب وتُذاع من الراديو. ولن يسمعها الجندي القتيل، ولن يرى شيئًا من هذا كله؛ فهو لن يبارح مكانه أبدًا في الصحراء.

وفي الصحراء كان يركب السيارة متضجرًا من الحر والملَل، وكانت ساعته تقول إن السيارة قطعت نصف المسافة. وكان يفكِّر أنه كان يجب أن يُحضر معه راديو صغيرًا يتسلَّى به. وفي القاهرة كانوا يأكلون الجلاس ويشربون أكواب المانجو المثلَّجة ويتفرَّجون على التليفزيون. ومن جديدٍ مرُّوا بسيارة نقلٍ انتحت جانبًا من الطريق وتكوَّم سائقها على ظهرها وراح في النوم، وأمامه كان يجلس شابَّان أنيقان. وكان أحدهما يعتقد أن الطريق الذي يمتد أمامهما وسط الرمال يُذكِّره بطريق الإسكندرية، وكان ذلك رأي الثاني أيضًا الذي وقعَت له حوادثُ عجيبة في ذلك الطريق عندما كان يعبُره بسيارةٍ صغيرة اسمها كيكي. وإلى جوار الطبيب انكمش راكبٌ ضئيل الجسم فوق مقعده الذي يعلو غطاء عَجَلة السيارة وتضاءل في مكانه، وكان غارقًا في التفكير كأنه يحسب حسبة حياته، ولا بد أن أفكاره لم تكن مشجِّعة. وليس هذا بغريب؛ فعندما يكون المرء وسط الصحراء والعَرق يتصبَّب على وجهه والطريق أمامه لا تبدو له نهاية، وعضلاتُ فخذَيه تؤلمه، وأعصابه بدأَت تئن، وهو يتقلَّب في مكانه بحثًا عن ناحيةٍ يمكن أن يرتاحَ عليها — وأيضًا عندما يكون قد تجاوز الأربعين — عندئذ لا يمكن أن تكون أفكاره وردية، وفي هذه اللحظة يتمثَّل له الموت نهاية لكل شيء.

وعند أي طبيبٍ يكون الموت شيئًا مألوفًا، ولو أنه يبعثُ على التفكير أحيانًا. وهذا ما حدث بالأمس؛ فعندما كان يتجوَّل في أنحاء مستشفى الواحات وهو ضيِّق بالذباب والغبار، كان يفكِّر في أن الموت هو مصير كلٍّ منا، وأي مريضٍ لا يضيره أن يموت اليوم قبل غد، ما دام ذلك سيحدُث بالتأكيد في يومٍ ما. وكانت هذه الفكرة بسيطةً ومغرية، وكان معناها أن يُنهِي هذه المهمة الثقيلة بسرعة ليلحق بحجرة المحافظة المكيَّفة الهواء.

وكان هذا أمرًا سهلًا. وفي الأعوام الأخيرة لم يكن بذي بال على الإطلاق؛ فيكفي أن تجعل داخلك باردًا لا يهتز وألا تعبأ لكي يبدو كل شيء يسير ويمر ببساطة. كانت الأرض قذرة لم تفلح جرادل المياه التي صُبَّت فوقها على عَجَل في إزالة قذارتها. وكان الممرضون يرتدون أرديةً بيضاء ناصعة، لكنه كان يعرف أنهم سيخلعونها عندما يوليهم ظهره. وكانت الملاءات تغطي الأَسرَّة نظيفة، ولكنه كان يستطيع أن يتصوَّر ما يختفي تحتها. لكن ذلك لم يكن بذي أهمية؛ فيكفي أن كل شيء يبدو على ما يُرام وأنه يستطيع أن ينصرف على الفور.

وكان المرضى يرقُدون فوق أَسرَّتهم في ملابسهم المتماثلة التي تُقارِب لون وجوههم صفارًا، وكانوا يُتابعونه بنظراتهم، ولولا عيونهم هذه لخالهم جثثًا خالية من الحياة، ومن نظراتهم أدرك أنه لا يجب أن يعطي أحدهم فرصة وإلا لما انتهى. ولهذا التزم جانب الممر الرئيسي وسط الأَسرَّة وتحاشى أن تلتقي عيناه بأحدٍ منهم، فكان يُدير ظَهْره لهم، ويرفع عينَيه إلى السقف، ويضع يدَيه في جيوبه، ويحني رأسه إلى الأمام ليتأمل شيئًا ما على البلاط العاري. لكنه كان دائمًا يشعر بالعيون مسلَّطةً عليه، قوية مسيطرة تشُده رغمًا عنه، وتُجبِره على أن يتحوَّل إليها ويُواجِهها مبهوتًا. كانت فجواتٍ واسعة غائرة لكن شيئًا غريبًا كان يتجمَّع في أعماقها، شيئًا يشُد ويأْسِر ويُكبِّل، شيئًا قديمًا مألوفًا لا يمكن تجاهلُه.

•••

استرخى الطبيب في مقعد السيارة، ومضى يتطلَّع من النافذة المواجهة التي جلس السائق أمام لوحها الأيسر. كان يعرف أن الثعبان يمتَد من الخلف؛ فمن أمام لم يكن هناك شيء. ولم يكن يبدو من الطريق أكثر من عدة خطوات؛ فقد كانت الصحراء تُخفيه في عناية ولا تكشف عنه إلا جزءًا جزءًا، وكان الطريق يصعد أحيانًا فلا يُرى منه إلا خطوةٌ واحدة. ويضغط السائق على نفيره محذرًا، وعندما يتلاشى المرتفع ينبسط الطريق خاليًا تمامًا. ويُوشِك الطبيب أن يبتسم من الخدعة التي تتكرَّر دون توقُّف، وتجوز على السائق في كل مرة. أما من الخلف فقد كان الثعبان يلتوي بوضوح تاركًا ذيله بعيدًا بُعد الواحة. أما الرأس فكان يزحف إلى الأمام بسرعةٍ محمومة، يشرئب بعنقه في شوق ولهفة ليرى ماذا بعدُ، وتبدو الجبالُ فجأة وكأنها تسُد الطريق. ويتساءل الطبيب لحظة أين سيمضي السائق وكيف سيُفلِت، لكن رأس الثعبان لا يلبث أن يشُق طريقه بمعجزة في مكانٍ ما بجوار الجبال.

كان الطريق خاليًا إلا من المطبَّات. وكانت السيارة تنطلق بسرعة وخفَّة، وأرقام الكيلومترات تتتابع؛ فقد استطاع الطبيب أن يحُل لغز هذه الأرقام ويعرف أيها يشير إلى ما تبقَّى من مسافة. وكانت المسافة الباقية على أسيوط لا تتجاوز الخمسين كيلو مترًا، وران الصمت على السيارة، وأسند بعض الركَّاب رءوسهم إلى ظهور المقاعد المواجهة لهم واستغرقوا في النوم. وبلغ الضجر بالطبيب القمَّة؛ كانت عيناه مشدودتَين إلى الأرض التي تتموَّج من النافذة، وعند كل انحناءة أو مرتفع كان يمنِّي نفسه بأن تظهر بعدها منازل أسيوط ومبانيها، ولكنه يُفاجَأ برمال ومرتفعاتٍ جديدة. وبدا الطريق بلا نهاية، وازداد الكيلومتر طولًا، وأصبح ينتهي بشِق الأنفس، وظل رقم الأربعين ثابتًا لفترةٍ طويلة. وقرَّر الطبيب في النهاية أن يتجاهل هذه الأرقام ولا يتابعها ببصره وذهنه، وأن يفكِّر في شيءٍ آخر يقطع به الوقت، وعندئذٍ ظهر الخط الداكن الطويل.

كان يمتد بعيدًا في الأفق، ولكنه كان يقترب بسرعة. وفي البداية كان أشبه بسحابةٍ كثيفة في السماء البعيدة، ثم ما لبثَ أن بدا أقرب إلى الأرض منه إلى السماء. واستدار الطبيب قليلًا إلى الراكب الذي يجلس خلفه كأنما يسأله رأيه، وتَبرَّع ذلك بالإجابة على الفور فقال وهو يتنهَّد في ارتياح: «أسيوط.»

كانت السيارة الآن لا تكاد تلمس الأرض. ومر به رقم الكيلومتر فوجده الثلاثين. وأخذ الخط الداكن يتضح لحظةً بعد أخرى فيتحوَّل لونه الغامض إلى خُضرةٍ كثيفة تقترب بسرعة، ورأس الثعبان يميل كل لحظة إلى اليمين واليسار مع دورات الطريق وهي تتجه إلى الخضرة في إصرار. وبدأ الركاب يفقدون استرخاءهم ويعتدلون في أماكنهم، متطلِّعين في اهتمام وارتياح إلى الحقول البعيدة. وكانت تلك هي اللحظة التي ظَهرتْ فيها الألواح البيضاء الكبيرة التي صُفَّت بشكلٍ مائل بحذاء الحقول. وانحنى الطبيب إلى الأمام وهو يتابعها ببصره متسائلًا عن أمرها. وتَبينُ بعد لحظة مبانٍ حجرية كبيرة كالمصاطب بعضها من عدة درجات مثل هرم سقَّارة المدرج، ولم يكن عددها كبيرًا، وكانت متناسقةَ الأحجام متساويةَ الجوانب مصقولةَ الحوافِّ، أو هكذا بدت من بعيد. وكان بعضها يحمل خطوطًا وأشكالًا ساذجة باللون الأحمر كتلك التي يرسمونها على بيوت الحُجَّاج في القرى والأحياء الشعبية من المدن ويكتبون عليها بخطٍّ رديء: حجٌّ مبرور وذنبٌ مغفور.

وتمَلمَل الطبيب في مكانه حائرًا، وقال الراكب الذي يجلس خلفه وكأنما أدرك حَيْرته: «جبَّانة أسيوط.»

ارتسمَت ابتسامةٌ واهنة على شفتَي الطبيب، وفكَّر أنه لم يَرَ مثل هذه المقابر من قبلُ على كثرة ما زار من قرًى ومدن. ودارت السيارة إلى اليسار، وقد تضاءلَت سُرعتُها، وبدأَت تَعبُر جسرًا حديديًّا. وظهَر الناس فجأةً في كل ناحية وكأنما انشقَّت عنهم الأرض. وأخذ الفلاحون يتطلَّعون إلى السيارة وركَّابها في دهشةٍ كدأبهم دائمًا. وسار ثلاثة طلبة صغار السن في نشاط على جانب الجسر وقد شمَّروا أكمامهم وضغطوا على كُتبهم، وتابعَهم الطبيب في أسًى. وعبَرتِ السيارة الجسر وتحوَّلتْ إلى شارعٍ عريض تُظلِّله الأشجار، وانسابت مياه النيل على اليمين عميقةً رحبة. لم تكن الرحلة قد انتهت؛ فلا زالت هناك بضعة كيلومترات على المدينة، لكن الطريق الثعباني كان قد اختفى. وعندما استدار الطبيب إلى الخلف ليتأمله لم يعثُر له على أثَر؛ فقد كان إذ ذاك مدفونًا في رمال الصحراء. وبالمثل لم يتبيَّن المقابر الغريبة؛ فقد كانت أشجار الكافور الضخمة العالية تحجُبُ كلَّ شيء خلْفها، وكانت صفوفٌ من هذه الأشجار قد شَرعَت تجري مع السيارة وتُسابِقها.


سجن المحاريق
بالواحات الخارجة
١٩٦٣م
أعلى