محمد محضار - زَمَنُ البُرشمان.. قصة قصيرة

لم يَشْتَرِه أقرنَ ، ولا أملحَ، ولا ناعِمَ الفروةِ ، بل اكتفى بالمرور أمام مرائبِ المدينة ، والتفرج على جمهرة المتهافتين على شراء كل أنواعه من سرديّ، وبركيّ، وبجعديّ، ودمّاني، وكذلك وكيليّ، وتلك عادة درج عليها منذ سنوات، يكتفي دائما بعيش أجواء العيد، دون ممارسة طقوسه .
هو يمارس لعبة الحياة ، بإيقاع خاص ، ويحاول أن يبقى اِجتماعيا في الحدود الدنيا،حياته فقدت الوهج منذ أن ترجّلَتْ زوجته عن قطار الحياة ،واَختار الأبناء البقاء خارجَ البلد ، طلبا لرزقٍ مُفْتَقَدٍ في وطنهم،بَقِيَّ وحيدا في شقته الصغيرة بزنقة الفرات ، يعيش على الذكريات ِ، معاشه المُحوّل من بلاد "اولادعيسى"، كما يحب أن يسميهم ، يكفيه طوارق الزمن ، وتكاليف العيش ، ومصاريف العلاج.
قادته قدماه ، إلى مقهى بتقاطع شارع سقراط ويعقوب المنصور ، اختار الجلوس بالباحة الخارجية ، وقعت عيناه على اسم المقهى مخطوطا على زجاج الواجهة ، قرأه مبتسما : " مقهى البُرْشْمَان"،
من غرائب الصدفِ، أن البرشمان نال حظه ونصيبه كاملا ، فصارت له مقهى باِسمه، لعَلَّ مالكها خيّاط ماهرٌ،يتقن الاِشتغال بالبرشمان، وبَرَع في اِبتكار موديلات لقفاطين ، وجلابيب نسائية ، تتهافت عليها بناتُ حواء.
جاء النادل مبتسما ، ووقف بمواجهته سائلا:
- ماذا تشربون ، سيدي ؟
رد بصوت خافت:
- قهوة سوداء خفيفة ، في الفنجان.
غاب النادل برهة، ثم عاد يحمل طلبه ، وضع الفنجان على الطاولة ، ومعه قارورة ماء معدنيّ صغيرة، ثم انقلب على أعقابه ، عائدا، .
ناداه دون تفكير مسبق :
- انتظر لحظة يابنيّ ، لدي سؤال تافه إذا سمحتَ.
عاد النادل أدراجه وهو يقول :
- نعم ياسيدي ، مرحبا.
هَتف ضاحكًا :
- قل لي بحقّ السّماء ، هل مالك المَقهى خياط ؟
اِبتسم النَّادل، وردَّ بِصَوت ساخرٍ:
- بل قل مَالكتَها، هي رَاقصَة شعبيّة مَعرُوفة .
عَلّق وهو يُزَوي مابين حاجبية:
- هي إذن شِيخَة عصرية
تَابع النَّادِل :
- إنها تملك مقاهي أخرى للشيشة ، ومطعما للوجبات السريعة .
تذّكر خَربُوعة ، التِي مَاتت ، وهي لا تملك قوتَ يومها، ورفع رأسه محدِّقا بالنَّادل الشَّابّ ثم قال:
-عذراً بنَيّ ، أرجو أن تَغْفر لي تطفُّلِي ، فالبرشمان جرّ لِساني ، وكما يقولون : الحديث ذُو شُجون، أرجو أن يُبارك الله لكَ في عمَلك .
انصرف النادل إلى عمله، وأقبل هو على فِنْجانه ، يَرْشُفُ بِفرحِ طِفْل قَهْوته.


محمد محضار 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى