هاشم صالح عمر - إطار خرب

أنا لستُ مجرد إطار خرب أو قطعة بلاستيك سوداء “لستك” استغنى عنه صاحب مركبة، بعدما اهترأ ليرمى به في أقرب مكان،بل أنا منبر للثرثارين والحيارى من أبناء حي طرفي. بعدما تم دفن جزء مترهل مني على ناصية أحد البيوت.
أُرجوحة الصبيات – قبل أن تميل الشمس للغروب – اللائي يتراقصن كفراشات يوزعن ضحكاتهن حولي، ويتبادلن الدور في تسلق كتفي، كذلك ملتقى عشاق وحبيباتهن خلسة عندما تعتلي العتمة الكون، أحفظ الكثير من القصص والوعود حتى التي باءت بالانتظار والفشل،كما أدُس حكايات أغلب سكان الحي وأسرارهم، إذ أبدو كالغريب الذي لا يألفه مكان، لكن قد يمتد ظله واحة للكثيرين؛ الجماد الذي يشارك الآخرين تفاصيلهم، وأضحى جزءًا منهم،المحطة الشهيرة،الركن المعلن عنه في قصص الوعود واللقيا، ورفيق الليل للهالكين ومدمني الوحدة.
كنخلة في صحراء ممتدة لا أجهل أي منهم،فبمجرد استقرار مؤخرة أحدهم عليّ أُدرك من هو، حتى أني أشعر بالضيق وأتذمر من البدناء. قادر أنا على معرفة شعور الجالس من طريقة جلسته، من حركته أو سكونه،من تململه أو عدم استقراره.
لست منسيًا تمامًا، فـأعقاب سجائر المراهقين وتجاربهم الأولى تحيطُ بي، بقايا قصاصات شاعر محبط تتطاير حولي وبعض أوراق صحف ممزقة، أكياس بلاستيك وخرق تعلقت بي جراء ريح عابرة.
مترع لكل من يحس بالملل من حوله،محاط بكل أشكال التداعي والنقوش في سوادي، من هجر الديار إلى قصص الاغتراب، التي يسميها البشر الفكرة اللعينة التي لابد منها، كل ذلك يزين أطرافي،وأحرف وقلوب خائبين،حتى من عادوا منهم يطوفون بحنين هنا بعد غياب، ينبشون تواقيع قديمة،حينما تبادلوا قفشات وأحلام وأمنيات ربما كانت مستحيلة وقتها، كل ذلك يسكن في انحناءاتي تلك،التي ربما هي حالة عناق مع التربة المالحة.
لكني حـر من كوابح سائق لعين،من طرقات معوجة وحفر وعرة،ومسافات بعيدة مهلكة،وتهور قائد ثمل ترنح بي.
أنا حي دون أن يمسسني عجل حديد صدئ،يتذمر كلما ضغطت عليه،إذ كلما تعبر عربة من أمامي أرى توسلات إطارات صديقة،يحسدن سكوني هذا، ألوح لهم بأنها النهايات،التي مهما كانت واحدة في حيواتنا المقترضة والمنهكة بيد البشر، فالنهاية قد تكون فيها جزء من مكب نفايات، أو شعلة للتخلص من فضلات البشر، أو ربما مصدر لإشعال نار في وجه فريقين متشاكسين حول شيء، مثلما حدث لرفيقي؛ إذ تم دحرجته في شارع عريض ثم إشعاله وردمه بقطع زجاج معبئ بسائل قابل للانفجار عالياً،لكن رغم تعاستي التي تجعلني مستكينًا في مكان ثابت؛ مع احتمالي لكافة حالات التقوقع فيّ،ولأن أقدارنا دائماً بين يدي البشر، فأنا أفضل حالاً مما كنت أتوقعه، من خلال ما أعيشه والذي تعايشت معه، حيث بت اُردد ذلك.
*
في مساء ما نشب خلاف بين شخصين على من هو الأحق بالجلوس على كتفي، فتطاولا على بعضها بالسباب،ثم تصاعد الأمر لتبادل الصفع، حتى أنهما ارتطما بي عدة مرات،وفزع أهل الحي وحدثت ضجة كبيرة،على إثر ذلك تفرق الكل، إلى أين لا أدري،لكنهم تركوا دم أحدهم يتدرج بين ثناياي،ثم يتقاطر ببطء على الأرض،مما جعلني اشعر بالوخز،وگأن بصمة من آلام البشر طبعت علي، حتى كأني أعيشُ تجربة كائن يشعر بكل شيء بدقة، لكن ما فائدة ذلك؟ الشعور الذي عندما يتعامل به البشر من منطلق ضرب الآخر بدافع توجيه وجع ما،والنتيجة شيء عندهم يسمى الانتصار، أو بالأصح هزيمة الآخر.
بعد برهة علا ضجيج بمكبرات، وگأن المتحدث يجالس جمعًا غفيرًا،ثم إذ بخطى قادمة تلتف حولي تحاصرني،وبدأ جدال حاد قد علت فيه نبرات من يتحدثون، أحد ما كان يردد:

يجب أن نقتلع هذا اللعين(اللستك) لأنه سبب كثيرًا من المآسي،ركن يسكنه شيطان والعياذ بالله

وافقه آخر الرأي قائلاً:

فعلاً،من يوم زرعه على هذه الناصية ابتلى أبناؤنا به،كما أصبح مرتعًا لكل هارب من مدرسته، أو عاطل يعاكس فتيات الحي.

ثم دار نقاش وكلام متداخل. شخص ما تحدث بصوت هادئ ونطق بعبارة جعلتني اندهش،قال موجزاً:

اخلعوا إطاركم الضيق هذا، وعودوا إلى رشدكم.

ثم أضاف:

دعوا هذا وابحثوا عن الخلل الحقيقي!

تعجبت!! وتساءلت فيما بيني عن ما يقصد بذلك؟
مما ثار حفيظتي في تساؤل:
هل للبشر إطارات مثلما للمركبات،وكيف يا ترى شكلها،وهل لها نفس قدري،لما أشار بضيقها وكيف كيف؟ لكن بدون إجابات لعبارته استسلمت كالعادة، كما صنعت وكما يريدون دوما. أصغيت لهم يرمونه بسباب غريب يصفونه بالمتمرد الدائم للآراء قائلين له بصوت مرعب:

لا شأن لك .

كأنهم يرغمونه على السكات،وامتد الجدال بشدة، إلى أن بدأ ينخفض من حولي،مرت لحظات أظلم الليل بسواده المعتاد، لا حيلة لي سوى أن أصغي، بعد ذلك وكأن حركة ما حولي تحولت تحتِي،ضرب بآلة صلبة على الأرض بشكل متسارع بقوة، أحيانًا يصيب أطرافي بقسوة،بكل ما أوتيت من هزة وضيق كنت احتمل،احتمل كما دومًا نحن معشر الإطارات نفعل.
كل الذي حدث من تلاسن ومرافعات للحظات لأجل نزعي من حياتهم التي أفسدتها، لتبدو بداية اقتلاعي أيضًا بداية ربما تؤدي إلى استلقاء أخير، أو أكون بيد أطفال مشاغبين ليستمتعُ بدحرجتي بين الأزقة كما يتمنون.
بدأت حجارة صغيرة تتنافر گأنها تنكر جذوري التي عندها لتلسعني،حتى ملتُ وقاربت أن أهوي، أخيرًا سوف أرتاح من غدر هؤلاء المتسلطين،إذ لا هم لي بالتهم التي وجهت،هي بالكاد لا تعنيني بشيء كل ما يعنني أن أدرك مصيرًا أخيرًا،واثناء ذلك بدأ ينقشع نور ذهبي،مصطحبًا صوتاً حادًا،لدرجة مخيفة،مما جعل الآدميين ينفضون بإسراع ويرجون ذلك للصباح لتكملة ما بدؤوه، ويردد كبيرهم :

البركات حلت،الخريف آتى بعد جفاف طال أمده.

اللعنة لهذا الركن الذي بات بؤرة للفساد ومرمى لكلاب ضالة وقطط متكاسلة.
نزلت قطرات ماء متدافعة جدًا وكأن هواء قوي يتلاعب بها، لساعات طويلة ، وكنت معلقًا بين سقوط واهتزاز كأرملة وحيدة لا تدرك مصيرها،لا تعرف وجهة،حيث اللامصير،ثم ببطء تناثرت قطرات باردة،لكن تدافعت في نفس الوقت من الأرض وكأن أحيل لها مهمة ما.
ولأني في منحدر،وبتُ متراخيًا وعلى مشارف السقوط ،تداعيت مع اتجاه سريان الماء بالكامل،ربما هي حالة سقوط أو قد يبدو انعتاقًا من مؤخرات لا تعرف الرأفة في كل حالاتها.
ارتطمت بطين لزج، انقشعت السماء بضوئها الأخاذ تلاه صوت أشبه بانفجار ضخم،وكأن الأرض لحظتها خلت تمامًا من الكائنات،ثم رويدًا رويدًا بدأ هدير الماء المندفع بقوة يركلني قدمًا، مرة أطفو على سطحه، وأخرى أتخبط متخطيًا صخورًا وأشجارًا وأشواكًا وحواجز ترابية ، و انحدارات شديدة الوعورة، لكنها بعيدة، بعيدًا جدًا عن المكان الذي مت فيه وحييت مرة أخرى، وگأن الطبيعة أخيراً جاءت لإنقاذي وخلصتهم مني،ليت لي يد بها ألوح لكل الابتلاءات تلك التي تركتها للجدال، أو لصبية غداً قد تأتي ولن تجد أجنحة ترفرف بها ، طفل يجيء يركلني بقدمه ولن يصاب أصبع له، أو شاب ليغمرني بضحكاته الفاترة وهو يحمل آلة يتحدث من خلالها بصوت خفوت لن يتوقف قلبه عن الحب،وشوارع متداخلة ببيوت متراصة، منحنيات أزقة لا يد لها،لنفوس شريرة تقبع في زوايا تلك الكائنات،و لإطارات بشرية لم أتوقعها.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى