ماماس أمرير - نيتشه والمرأة

البعض حين يتعرض للفشل في الحب أو مصادفة حب مستحيل، يبدأ في البحث عن التعويض للحب المفقود، وحين يفشل تصبح كل النساء في نظره فاشلات في الحب وقاصرات فكر، لأن هذا البعض سيجد كل المبررات كي ينعت الأخريات بأنهن غير جديرات بحبه، رغم أنه في الحقيقة مسكون بحب امرأة أبدية..
هل كان نيتشه من هذه النوعية من الرجال حين أحب كوزيما زوجة صديقه فاغنر؛ حبا أبديا، حبا بدون أمل؟
وهو من كتب عن المرأة أشد النعوت قساوة :
إن حب المرأة ينطوي على تعسف وعمى البصيرة عن كل ما لا تحبه... المرأة كائن غير قادر على الصداقة: فهي لا تزال كالقطط، أو الطيور، أو الأبقار على أفضل الأحوال.

ومن إرادة القوة:
وأخيرا: المرأة! نصف البشرية الضعيف، المضطرب، المُتقلِّب، المتلوّن... إنها بحاجة إلى ديانة للضعف تقدس الضعفاء، والمحبين، والمتواضعين: أو لعلها تحول القوي إلى ضعيف-وتنتصر عندما تنجح في التغلب على القوي... لقد تآمرت المرأة دومًا مع كافة صور الانحلال ضد الرجال "الأقوياء"

وفي ديوانه الشعري كتب: "سبع أمثال عن النساء"... أمثال قاتمة حيث الصورة مغبشة وباهتة...

هل كانت هذه الثورة مجرد رد انفعالي على رفض سالومي للزواج به... أو أنه تعويض لمعاناته اتجاه كوزيما، أم هو موقف ثقافي من وضع المرأة في ذلك الوقت، حيث أن المرأة كما نعلم جميعا هي الأشد حرصا على الحفاظ على المقدسات والأفكار البائدة. أم بسبب عيشه في عائلة مكونة من خمس نساء هو الذكر الوحيد بينهن، وقد تربى في هذا الوسط تربية دينية متشددة وقاسية، أم هو المصير الروحي لتلك النفس المتعطشة للحب والنماء العاطفي والحرية، الفلسفة تقودنا لا محالة إلى أشياء عميقة ومؤلمة فكما هناك جانب إيجابي في الحب هناك جانب واقعي يتسم بالإغتراب والقسوة، لذلك تكون ردة الفعل عنيفة كمحاولة لاستعاب صدمة الواقع. وفهم أسبابه. أو لكل هذه الأسباب مجتمعة خلقت من نيتشه تجربة عنيفة ضد المرأة.

وكما تأثر فانغر بكتاب"ميلاد التراجيديا" تأثر نيتشه برائعة فاغنر أوبرا" تريستان" التي تحكي قصة فارس ألماني إسمه تريستان يبعثه عمه الملك " مارك " ليجلب الحسناء الإيرلندية إيسولده لكي يتزوجها ... لكن إيسولده تحب الفارس تيرستان ... في الطريق يتناولان مشروبا سحرياً ( إكسير الحب ) خلق بينهما حباً أبدياً ومستحيلاً أدى في النهاية الى موتهما.
والطريف في الأمر أن فاغنر نفسه وقع في حب ماتيلدا زوجة صديقه الثري الذي مدّ له يد العون وساعده كثيراً. بعد أن انتهي من تأليف الأوبرا كتب الى ماتيلدا رسالة هذا نصها: أقسم لك أنني أشعر بأني لم يسبق أن كتبت ما هو مماثل لهذا العمل من قبل. وأنا واثق من أنك ستعجبين به كثيراً حين تستمعين إليه. إن هذه الأوبرا تبدو بالنسبة إلي أشبه بالمعجزة، وأشعر أنها ستظل معجزة إلى الأبد، فأنا لا أستطيع اليوم أن أفهم أبداً كيف قيض لي أن أكتب شيئاً من هذا القبيل.

إنهما شخصيتان متقاربتان حتى أن فاغنر حين قرأ كتاب نيتشه" ميلاد التراجيديا" كتبه له يقول: أقسم لك أنني أعتبرك الشخص الوحيد الذي يعرف ما أحاول أن أفعله.
وقال عنه نيتشه: لقد كان فاغنر أكمل رجل قابلته في حياتي
ورغم ذلك حصلت القطيعة فيما بعد بينهما؟!

نيتشه الذي أحب امرأة مستحيلة كصديقه فاغنر.... نيتشه الذي عانى من جفاء الأصدقاء ومواقفهم اتجاه كتبه، لقد كلفته الكتابة حياته كلها، فقد الأصدقاء وابتعد عن حياة الناس، ولم يعد الناشرون يقبلون أن يطبعوا كتبه، فكان يضطر إلى طبعها بنفسه، منفقا في هذا الطبع المال الضئيل الذي عانى في اقتصاده أشد أنواع الحرمان، أو الذي يعطيه له بعض المشفقين عليه كي تطبع هذه الكتب، وفي آخر أيامه اعتزل كل شيء إلا حب كوزيما... حبها بقي رفيقه الأبدي والوحيد.

كتب د يسري ابراهيم: لقد كانت كوزيما زوجة صديقه الروحي فاغنر أول امرأة تحتل عند نيتشه منزلة ويرتبط بها ارتباطا وثيقا، والفرق بينها وبين النساء اللاتي سيطرن عليه في طفولته فرق كبير حتى أنه لم يستطع أن ينساها أبدا. ولقد ظهرت في أشعاره ورسائله الأخيرة على أنها "أريادنه" واعتبر نفسه "ديونيسيوس" وعلى ذلك، فإن فاجنر يلعب دور" ثيسيوس" ولم يتضح هذا إلا في الأيام الأولى لجنونه، فقد أرسل عدة رسائل كشفت لنا من تكون أريادنه، وقد تلقت كوزيما نفسها رسالة من نيتشه موقعة باسم "ديونيسيوس" تحتوي على عبارة واحدة يقول فيها: "أريادنه، إني أحبك".
وفي اليوم السابع والعشرين من مارس 1889 قال نيتشه في مستشفى الأمراض النفسية: إن زوجتي كوزيما فاجنر أحضرتني هنا. إن حب نيتشه لكوزيما كان مجرد رغبة ممنوعة وحلم خفي لا يمكن تحقيقه.

ولقد قيل الكثير عن موقف نيتشه من المرأة لكن كوزيما وحدها تستوقفنا وتؤكد لنا أن هذا الرجل مختلف تماما عما يتناقله الآخرون بالنسبة لموقفه من المرأة... رجل يخفي بداخله عشقا رقيقا وهياما أبديا في صمت تام، لكنه كلما توجع ينبش في ضعف المرأة التي لا تملك هي نفسها اتخاذ مواقف خاصة بمستقبل حياتها. فهل كانت كوزيما تحبه ولا تستطيع اتخاذ موقف حاسم؟
هل كانت كوزيما تعرف أن زوجها فاغنر يحب ماتيلدا زوجة صديقه الثري ونيتشه كان يتعاطف معها ويتصور نفسه ديونيسيوس المنقذ، أم هي المرأة التي أحبها دون كل نساء العالم، اللواتي ارتبط معهن بعلاقات مختلفة؟.
أسئلة كثيرة تدور بخلدي لفهم هذا الحب اتجاه امرأة، وهذه العدوانية اتجاه النساء، والتي تطرح الكثير من الشكوك في أن نيتشه هو عدو المرأة. لمجرد أنه مر ببعض التجارب الفاشلة، فهل لمفكر مثله أن يسقط في هذه الحفرة الذكورية البئيسة.
لا أعتقد.
وإذا كنا دقيقين فالمرأة التي ينتقدها نيتشه ليست هي المرأة التي مر معها بتجارب فاشلة في الحب فقط بل هي المرأة التي ترضى أن تعيش تحت وزر أغلال مجتمع يهينها، إنه ينتقد المرأة مجملا، المرأة التي تربى في حضنها في طفولته ويفاعته، المرأة التي رغب في الارتباط بها لكنها رفضته، المرأة التي تسببت في مرضه والتي كانت بدورها ضحية مجتمع ذكوري، وأيضا المرأة في مجتمع ذكوري حين تكون أشد حرصا من الرجال، في الحفاظ على الثقافة الذكورية التي تهين انسانيتها وترفض التحرر من قيودها.
لقد عاش نيتشه يحارب التخلف والأوهام والمقدس بقلب سليم وروح تشعر بذاتها الديونيسيوسية الرافضة للسكينة والاستسلام، وألمها الفرداني في واقع مأساوي، قلب يحرص على تقديم تجربة انسانية عظيمة لا تخضع لفكرة مقدسة بل فكرة حيوية تنبثق منها الأفكار وتتجدد. وبرغبة بروميثوسية ضارية يحترق نيتشه ويواجه مصيره من أجل البحث وتعقب النور ليمنحه كشعلة للأجيال القادمة كي تجدد وتفكر وتقرر مصيرها الوجودي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى