عمر عباس - أنا أفريقي..

أنا أفريقي:
هكذا وبلا مقدمات انزلق لساني باتجاه تلك اللهجة، ووجدتني أنطقها بكل طلاقة، حتى يخيل لمن يسمعني أن يعتقد اعتقاداً جازماً ؛ أن أحد آبائي من السومريين أو البابليين، أو ممن ألقى بهم التتار في نهر دجلة، متى وكيف اتقنت كل دقائقها وتفاصيلها لا أدري؟ ومما أدهشني حقاً أصبحت أفخم حرف القاف وأجله كعظمة العراق، وكاف المؤنث أنطقها واضحة بين الجيم والشين، وحين كنت أفاصل بائع الأفكار بشارع المتنبي، وبينما أتأمل الوجوه في فضول الحجاج ، كافور، السياب، بحثت بشغف عن أرجوحة محمد خضير، ويتيمة ابن زريق ، ومرثية عبدالرزاق عبدالواحد ، عندما داهمني سؤاله بغتة : ( دا أقلك من وين الأخ) ، أجبته دون أن ألتفت إليه : ( آني من السودان ياحجي)، أردف بقوله : ( الظاهر إنك مطول هواية بالعراق)، لم أحر جواباً وقلت له بكل صدق: ( هساع جيت ياحجي)، تفرس قليلاً في جلبابي السوداني ذو الأكمام الواسعة، وخفي المصنوع من جلد الأصلة، وحدق ملياً في عمامتي ناصعة البياض، زم شفتيه وضرب كفاً بكف.
في تلك الأثناء مر موكب القائد، مصحوبا بحشد هائل من الرجال والنساء والأطفال، رأيت بوضوح البرتو مورافيا يحمل رضيعاً وهو يهتف ويصرخ وسط الحشد: ( حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب)، ومرة يردد: ( دم الشهيد دمي أم الشهيد أمي)، ثم ذاب وسط الحشد ، الأهازيج يدوي صوتها بقوة وسط الجمهرة ؛ يلحقون بعربة الزعيم مكشوفة السقف ، يقف داخلها مرتدياً بزته العسكرية في تأنق وهيبة، وهو يلوح بيده في عزة وإباء، أصابع كفه مضمومة وهو يحرك ذراعه حركة أفقية، وفي فمه السيجار الكوبي الغليظ، ألقيت ما في يدي والتحقت بهم، وسط حيرة البائع، لم يدر بخلده أننا قوم دماؤنا حارة، تطرب للشجاعة؛ تستمد عنفوانها من الايقاع الخماسي وهدير النيل ، وتستقي صلابتها من وحشة الصحراء ورهبة الغابة، استل القائد سلاحه الآلي في خفة، وبيد واحدة وطلقات متعاقبة راح يثقب الهواء من فوقه، من فرط فرحي بلا شعور انتزعت العمامة؛ ولوحت بها في نشوة وأنا أردد معهم:
دار العدوان نساويها ونخلي اسفلها بعاليها
ذول احنا سباع أي والله
وعونج ياكاع
تذكرت حينها شجاعة فرساننا في كرري والنخيلة وأم دبيكرات، وميدان الاعتصام، شجاعة شباب الثورة والكنداكات، وشجاعة جدي منصور ود باسويد؛ وهو يسير على مسامير ثبتت أسفل راحة قدميه، يمشي والدماء تنزف منهما من العكد الى بربر؛ مقاوماً للاحتلال التركي، وفي تلك الأثناء ( عاينت شوية ليغادي ) وإذا بهياكل عظمية تهرول خلف الموكب في غضب، يحملون مختلف أنواع الأسلحة، دار هرج ومرج، وحين انقشعت علالة الغبار وجدتني وحيداً امام مدرعة، وقبل أن يرتد إلي طرفي؛ وامنح فرصة لتوضيح موقفي، كان يزج بي مقيد اليدين ومعصوب العينين داخل عربة رباعية الدفع.
لم تفتح عيني إلا أمام الضابط ، وحين فكت قيودي، كنت ألف عمامتي بروية ، ففي مثل هذه المقابلات الرسمية ينبغي للإنسان أن يعكس هويته وانتماءه، هممت بالجلوس لولا أنه انتهرني في حدة ، فعدت إلى ما كنت عليه، وقد نفذ إلى أعماقي أن تلك اللغة غير مطمئنة، في تلك اللحظة لكزني باستهزاء أحد أصحاب البشرة البيضاء؛ وهو يدلف إلى مكتب التحقيق، وقد وضع في غطرسة زجاجات سوداء على عينيه، انتزعها في أنفة؛ مما مكنني من رؤية عينيه الصغيرتين الزرقاوين،
انتشلني سؤال ضابط التحقيق من لحظة الوجوم تلك :
- (تعال ليجاي ، شنو اسمك)؟
- عمر عباس.
- (انطينا اسمك ثلاثي).
- عمر عباس الشكولابي.
- (شنو هويتك)؟
- لم ادر أيقصد بسؤاله الجنسية أم هو يعني الانتماء والهوية؟، يا لهذه الهوية التي أرقت مضاجعنا، وبددت سكينتا، لا يدري أن تلك الكلمة لا تزال تُسفك الدماء في بلادي بسببها، هل نحن عرب أم أفارقة؟؟ أبناء الغابة أم الصحراء؟ حتى بعض الأعراب يسخرون من لون جلدنا الأسمر حين ندعي العروبة؛ لم يكن غضبنا على تلك الشعوب المغلوبة على أمرها، بل على أولئك المتشبثين بحبال الحكم البالية، يكفيهم خزي أنهم باعوا شعوبهم للفقر والجهل والمرض، وباعوا القدس بثمن بخس، حفنة من مال وبعض كراسي متهالكة وكل ماء الكرامة، يحيكون لنا الدسائس والمؤامرات؛ حتى في أوج ثورتنا وقفوا ضد آمالنا وتطلعاتنا للحرية، نسبة الأدرينالين ترتفع في دمي لمستوى الخطر، عندها أجبت بكل وضوح : أنا أفريقي.
- ( لك شو البلوى هاي، دا أسألك عن جنسيتك)؟ ذو النظارة السوداء يقول بنبرة هادئة ( ستيوبيد نيغر) نظرت إليه شزراً، لا يعلم ابن الساقطة.. أني أجيد الانجليزية، أسررتها في نفسي ولم أبدها، لكن هناك بعض الشرر تطاير من عيني، ربما وقع بعضه عليه، رأيت ذلك بأم عيني .
- جنسيتي سوداني.
- (وليش اجيت على العراق)؟
- بلاد العرب أوطاني ..جئت بدعوى كريمة من بعض الأصدقاء.
- (عيني يا أبو الأصدقاء ومين هم)؟
- لأكون أكثر دقة حضرة الضابط، وجدت دعوة على حائط النشر بموقع واحة القصة القصيرة، من بعض أصادقائنا العراقيين، ربما لا أذكر أسماءهم تماماً، أحدهم العيثاوي لا أدري أهو اسم أم لقب، وآخر اشتق اسمه من الرعد،.. نعم سيدي هناك أخرى كان قلبها يعتل كثيرا،وكنت أسأل الله على الدوام ان يمن عليها بالشفاء، وآخر جوهره أنفس من الذهب.
- (ما دا افتهم عليك انت عاقل لو مجنون)؟
- اتمتع بكامل قواي العقلية.
- (وشنو بالله كنيتك)؟
- أبو مصعب.
- أبومصعب الزرقاوي، قهقه حتى مال برأسه إلى الوراء، ومن ثم استعاد توازنه.
- لا يا سيدي أنت تخلط الأمور، أنا أبو مصعب العكادي السوداني.
- إذن أنت إرهابي، كلكم لكم نفس الأسماء ،البغدادي والشيشاني والأفغاني والعكادي.
- يا سيدي نحن قوم مسالمون، أدبنا التصوف وأخمد حمم صدورنا المدمرة، حتى ثورتنا كانت سلمية وشهد بذلك كل العالم.
- (هسا نوصل الأسلاك في أعضائك اللينة ودا نشوف لو انت متصوف لو ارهابي)، في تلك الأثناء صدقت شكوكي، أيكون هو؟.. كانت صيحة وا معتصماه تتداخل مع صرخات الثكالى وآهات الرجال.. لا شك أنه معتقل أبو غريب، صاح بأحد الجنود: خذوه لغرفة الفحص.
وقبل أن يأخذني الجندي، كان الخواجة يستوقفني قائلاً: قبل أن تضاء دهاليز نفسك المعتمة، أريد أن أحكي لك نكتة أيها المتعجرف، علها تنسيك بعضا مما ستواجه من متاعب، تعرف طبعاً أن العرق الأبيض متفوق على العرق الوضيع الأسود، تقول النكتة: ( أن أحد أفراد العرق الأبيض، ( الذين هم أبناء جلدتنا وأشار بعصاه في استعلاء إلى صدره) كان يتمشى ، وصادفه أحد ( أبناء جلدتكم السود وأشار بعصاه نحوي) وهو يقود كلباً، سأله لماذا تتمشى مع هذا القرد؟ قال الأسود سيدي إنه كلب وليس قرد! أجابة؛ اخرس أيها الأسود لقد سألت الكلب، ثم أطلق ضحكة مجلجلة اهتز لها كياني، في تلك الأثناء اجتاحت أعماقي موجة تسونامي غاضبة، كنت اهتز كقصبة وسط رياح هبوب، تذكرت كلمات كانت تدندن بها جدتي زينب في سعادة، لكنها تزمجر في رأسي الآن: ( دايراك يوم لقى بدميك تتوشح الميت مسولب والعجاج يكتح)، وفي لمح البصر كنت أقفز في الهواء مستديراً مائة وثمانون درجة، مخلصاً نفسي من قبضة الحراس؛ ( كالحسن ود ضبعة وهو يعرض منتشياً ؛ في دلوكة حميرا)، حتى بت بمواجهة صاحب العرق السامي، قلبته في الهواء وزرعت رأسه فغاص في عمق الغرفة، تماماً كما يفعل عمي حسين الشكولابي؛ حين يغرس سلوكته على الجرف الطيني لنهر عطبرة، وجدتني أردد (تنقد الرهيفة ان شاء الله ما تتلتق) وقبل أن يحيط بي الجنود من جديد، كانت نظراتي مسمرة تجاه تشنجات خروج الروح.
لحظات قليلة قبيل ولوجي إلى غرفة الفحص، كانت أعماقي تتضج بالضراعة، يا هو يا من لا هو إلا هو.. أتوسل إليك بأبي الزهراء.. بأبي عبدالله ، يا باز بغداد، يا رجال الله اغيثوا عبدالله، حاولت التملص من أياديهم القوية، كل محاولاتي ذهبت أدراج الرياح، وباعدوا مابين فخذي ، وحين أحاطوا أعضائي بتلك الرؤس النحاسية ، وقبل أن يسري فيها التيار، صوت أعرفه جيداً أعاد لي بعضاً من صلابتي النفسية وهو يقترب: (يا بو مصعب .. ابو مصعب.. قول بسم الله يا ولدي ، ( الليل كلو تهلوس وتكورك)، افتح عيني بتثاقل، وبعد أن استوعبت الأشياء من حولي، ومن تحت الغطاء تحسست تلك المنطقة بعينها، .. رددت في فرح: أنا إفريقي أنا سوداني.


__________________________________________
* معاني بعض المفردات الدارجة:
- كنداكات مفردها كنداكة، جاء في وكيبيديا :كنداكة هو لقب الملكات الحاكمات أو مسمى يعني الزوجة الملكية الأولى في حضارة كوش الإفريقية القديمة ببلاد السودان والتي عرفت أيضاً باسم الحضارة النوبية أو إثيوبيا التي تعني أرض السود أو السودان، وقد ذكر الاسم في العهد الجديد أو الانجيل في قصة حارس كنوز الكنداكة ملكة إثيوبيا وهو عائد من اورشليم بعد أن عمده القديس فيليب الأنجيلي عندما أمره ملاك الرب في رؤيا أن يذهب إلى الجنوب من أورشليم وغزة إلى الصحراء الجدير بالذكر أن كلمة أثيوبيا في العهد القديم والعهد الجديد تشير إلى أرض السودان الحالية، لا إلى أثيوبيا الحالية، وبعض ترجمات التوراة والإنجيل اليونانية تورد اسم السودان كما هو.
- كرري ، أم ديبكرات،النخيلة، معارك سودانية خالدة.
- دلوكة : آلة ايقاع تصنع من الفخار والجلد.
- حميرا: مغنية شعبية اشتهرت لدى قبيلة الجعليين.
- الحسن ود ضبعة : من أعيان قبيلة الجعليين يضرب به المثل في الكرم والشجاعة .
- السلوكة: (أو السلوقة) آلة تصنع من الخشب مدببة من الأسفل لتغوص في الأرض، تستخدم في الزراعة.
- ( تنقد الرهيفة ان شاء الله ما تتلتق) مثل سوداني، يضرب لمن يقطع آخر حبال الصبر، ويقتحم المهالك دون أن ينظر إلى عواقب فعله.
- تكورك: تصيح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى