دهب تلبو - على تخوم وآدي سكلي

– من أين تأتي أطيار الرهو؟
سألتُ أبي ذات أمسية، ونحن نعود منهكين بطريق وآدي سكلي* بين مزارع السندس، وزهور الخريف البرية، حمارنا التعب كان كسولاً، وحقوداً أيضاً، فما أن تمر من وراءه إلا أهداك رفسة، لطالما لعنه أبي، وقال سجعاً يؤكد على رداءة الحمار الأشقر.
– الأطيار تهوى الماء والخضرة لذلك تأتي مع الخريف
أجاب أبي، لأباغته ثانية
– هل هي تذهب للسماء؟
– لا احد يستطيع ان يذهب للسماء يا بني
– كيف لا أحد يستطيع؟ فقد رأيت طيور السمبر تغيب في السماء
قلتُ مقاطعاً
– يا بني أطيار الرهو والسمبر وعصافير البحاري وأبوانضباح جميعها تأتي من البحر في أقصى الصعيد
– وعصافير ود امبريص أيضاً؟
تساءلتُ فرِحاً
– أي بُني، الكل يقضي شهور الصيف هناك
– أريد أن أذهب إلى الصعيد، حتى أنصب أفخاخي، فإن الاموليفة** التي في بيت حبوبة “حُرة” أصبحت لا تجذب العصافير كالتي في السافنا بجوار شركة سُوني، سيكون صيداً ثميناً يا أبي، وسنشوي العصافير على الطشادة.
– ولكن البحر ليس كالسافنا، يحتاج منا مسيرة شهور لنصله، وقتها ستكون الطيور قد هجرته، وتكون رحلتنا عبثاً. لا تتعجل يا بني، فإن في الجنة ما نشتهي من لحوم الطير، الحمار التعس هذا قتلنا بتسكعه، أضربه.
ضربته بكل ما أوتيت من جهد، ولكن دون جدوى، أخذ أبي العصا، وتولى الأمر، بينما ضاع بصري في زحام الطريق. الجميع يعودون بخطى متعجلة إلى قلب المدينة، رعاة الماعز يتقاذفون بكرات القرع المر بفرح، دون أن تسقط جوالين زيوت السيارات التي يتخذونها سقاية عن أكتافهم، معلقة في عصى القنا، تتأرجح مع مطاردتهم الصاخبة، نساء يحملن حزم من قش الابصابع والدفرة على رؤسهن، لإطعام انعامهن، وأُخر يهرولن وراء حُمرهن المسرعات محملات بحطب الطهي، رجال يمتطون احصنة دون سروج، أغنام تتقافز بين شجيرات السدر والخروب تطلب وريقات غضة، أبقار تمشي مهرولة شوقاً لعلوق الأمباز، كهول ذوي أسمال يحملون أباريق بأغطية من عيدان الكِتِر ويسيرون مسبحين الله بأصوات مسموعة، عندما ألقا أحدهم السلام على أبي، تذكرت قصة الخضر التي سمعتها من الواعظ في ساحة سوق القصب، فصحت سائلاً،
– هل يأتيك الخضر في المنام يا أبي؟ فقد قال الواعظ أن الخضر يأتي في المنام للكبار.
– دع عنك الثرثرة، وأصمت. سأحدثك عن كل شيء عندما نصل.
– أبي لِمَ لا تكون واعظاً؟
– قلت لك اصمت، فقد فاتني فضل ذكر عصر الجمعة.
قال غاضباً.
– فضل! هل هو فضل النجار؟ وكيف فعل ذلك؟ فلم أره يمر، هل كان يمتطي جواداً؟ فقد رأيت أحدهم يتجاوزنا سريعاً بجوادٍ، لابد من أن يكون هو، ولكن ليس لفضل مزرعة، أبي هل الريح حصان الشيطان؟
ولما لم يجبني صمتُ متخيلاً أبي يوعظ الناس في ساحة سوق جبرونة، وانا أقف بجواره مرتدياً جلباباً أخضر، به مثلث أحمر في جيبه، أنتظر دوري في إلقاء قصيدة في مدح المصطفى، تقول في مطلعها:
جونا رجال من برقو
مثل السيل جو يندلقوا
متين نتشاقوا نمرقوا
نمشوا للرسول في شرقو
أحبُ مدح الرسول، وحلقات الوعظ، مكبرات الصوت، رائحة الأدوية العشبية، عبود دقيق الدخن المنشط للذاكرة، أحجبة الإخفاء، والسيف والسكين، ومسابح نوى اللالوب ذات الألف حبة، الواعظ يعرف كل اسرار العالم وأسرار الآخرة، قصص الأنبياء، قصة ابليس، السامري، وكرامات الأولياء، يعرف مكان الجنة، يصاحبه نبي الله الخضر في سفره، ويبارك له في زاده وذريته، أنا الآن مبارك من نبي الله الخضر!، الوعظ في سوح أسواق المدينة أفضل من العمل في المزارع، تذكر الناس بالله، فيعطونك نقود لقاء ذلك، ومن ثم تبيعهم الأحجبة والأدوية العشبية، تمدح المصطفى، فتنال أعلى مقامات الجنان، لكن برغم ذلك يصر أبي على الزراعة!. الحمار الكسول يجر عربة الكارو ببطء، أبي يضربه بحنق، لكنه يتلوى مع الضربات ولا يسرع، أبي يزمجر، ويسب دون جدوى، ثم يستغفر الله ويدعو على الحمار، ولكن الحمار لا يسرع.
– خبال هذا الأشقر، سأبيعه غداً إن لم أضطر لقتله قبل هذا الغروب
صرخ أبي.
جميعهم يمرون بنا ملقين علينا السلام، ونظرات شامته، راعي صغير قال ساخراً: “من الأفضل أن تقلوه على ظهوركم، هو وعربته، بدلاً من المبيت في الطريقً. عندها سألت أبي:
– هل تدخل الحُمر معنا الجنة؟
– هذه الجحيم لا يكفي لعقابها.
قال غاضباً، ومن ثم أستدرك
– ألم أقل لك أبقى صامتاً؟!، أسكت وإلا ضربتك بدلاً من هذا النزق
سكتُ، كاظماً غيظي، الذي انفجر بعد دقائق على هيئة صراخٍ، أفزع جميع المتسابقين في طريق المدينة وقت الغروب.
________________
*سكلي: وادي بمدينة نيالا.
**الأموليفة: هى المكان الذى يسكب فيه حبوب الذرة أو الدخن لتوليف الطيور لاصطيادها بالشبكة أو الشرك.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى