مزمل الباقر - حينما يكون الحزن شاسعاً وموغلاً.. بعض من ذكرياتي مع أبي

اصابع أبي:

أمي ذهبت لإعداد العشاء وكانت الكهرباء مقطوعة وكنت طفلاً مزعجاً يحاول أبي أن يجعلني يقظاً يعمد إلى تحريك اصابعه في بطني وعلى جنبي فأظل اضحك وحينما يعيني الضحك، أصرخ: ياخيييي ... فيبادرني أبي ضاحكاً: يا ود ... انا اخوك!! .. وأظل اضحك معه. ويعود من جديد يحرك اصابعه في بطني وعلى جنبي فأضحك مجدداً وحينما يعيني الضحك مرة أخرى، أصرخ: يا أخييييي ... فيبادرني أبي ضاحكاً: يا ود .. أنا خالك!! ونضحك معنا .. وتمر أمي بجانبنا فتسمعني أقول لأبي يا أخييي .. فتزجرني بحزم: يا ود .. عيب .... ما تقول لأبوك يا أخي.

في سنين المدرسة الابتدائية يعمد أبي إلى آله معدنية لها شكل المقص ومن أسفلها مصفى، اراقبه وانا طفل وهو يضع الليمون في وسط المقص ويضغط بأصابع يمناها عليها فيسيل عصير الليمون تاركاً البذور على المصفى. ولا يتركني أذهب للمدرسة حتى أكمل كل ما في الوعاء من عصير الليمون في هذه الاثناء كنت ألمح أمي وهي تضع ساندوتشي الفطور في حقيبتي المدرسية.

حينما تصيبني حمى الملاريا اعمد إلى سكب الماء على اللحاف حيث موضع رأسي ولا يجد النوم لي طريقاً ويراني ابي اتقلب فيقترب مني ويمرر اصابعه في شعر رأسي فأجدني بعد هنينة في سبات عميق.. عادة يمارسها ابي كلما اصابتني حمى الملاريا مذ كنت طفلاً وحتى اقتربت من العقد الثالث.

أصابع أبي اليسرى تمسك بأصابع اليمني كلما هممنا بعبور الشارع المسفلت في أي مكان مذ كنت طفلاً وحتى وانا شاب في سنين الجامعة مما سبب لي الحرج من نظرات السابلة والمركبات، كانت نظراتهم توحي لي بأن: بالله الزول دا بعد العمر دا كلو . أبوهو بقطعو شارع الزلط. حينما صار أبي يعاني من خشونة في الركبة ويسير بتمهل لم اجرؤ على الإمساك بيده ونحنا نجتاز الشوارع المسفلتة حينما كنا في زيارة عائلية، لم ارد ان اشعره بأننا نتبادل الأدوار.


أنا وأبي والذكريات اليمنية:

حينما كنت في سن المدرسة كان أبي في اليمن يعمل بالتدريس ويعود إلينا في كل إجازة ممسكاً بأصابعه الهدايا والألعاب التي نحددها له - انا وأخوتي - ويناولنا الحلوى والمكسرات كذلك .

وحينما اقترب موعد عودة أبي لليمن مجدداً ذهبت معه للسوق فهو بصدد شراء حقيبة اكبر، مررنا بمطعم لعمي بسوق الجلود بسوق امدرمان ( سوق امدرمان بداخله اسواق مصغرة مثل سوق الجلود، سوق النسوان، سوق الصاغة .. الخ الخ. وهذه الاسواق المصغرة عبارة عن عدد من الحوانيت المتخصصة في بضاعة ما أو خدمة ما ). أصر عمي على ان ندخل للمطعم ونتناول وجبه سمك، بعد أن أكلنا تركت ابي يتجاذب اطراف الحديث مع عمي وفي يمناه كوب الشاي المنعنع.. لمحته يجاور المحل: أحد الباعة يعرض بضاعته أمام الحانوت المجاور للمطعم ، كانت بضاعته: من التسالي بأنواعه المختلفة ( تسالي حب البطيخ، تسالي حب القرع وتسالي الجرم (بضم الجيم)، عدت لأبي وسألته عملة معدنية لأبتاع تسالي الجرم فأدخل يده في جيبه وناولني. حينما خرجنا من المطعم في طريقنا لحانوت الحقائب تركت ابي يجادل صاحب المحل في السعر وذهبت لكشك جرائد مجاور، ثم عدت لأبي بعد لحظات وكان قد فرغ من امر الحقيبة فطلبت منه ان يرافقني لكشك الجرائد وهنا اشرت على مجلتي سمير وميكي وإحدى كتب الاطفال لمحمد عطية الابراشي فسأل صاحب الكشك عن سعر كل تلك الحصيلة وادخل يده في جيبه وانطلقت معه أحمل كنزي مسروراً.

في سنة 1987م وصلنا لمنزل صديق لأبي هو استاذ صديق النويري كان بيته في صنعاء مكثنا لديه لأيام حتى يتسنى لوزارة التربية والتعليم اليمينة ( لا اذكر إن كان هذا اسم الوزارة ام هي وزارة التربية والتوجيه) المهم في الأمر أن ايامنا في صنعاء انقطعت بعد إعلام ابي بأنه ستوجه لأعمال مدينة صعدة وبالتحديد قرية (آل السربي).

لا اذكر الآن تفاصيل الطريق من مدينة صعدة لقرية آل السربي، غير أني اذكر جيداً ذلك اليمني الذي اعترض طريق سيارتنا ، فلما توقفت المركبة سألنا إن كان سودانيين فأجاب أبي بنعم، فأمهلنا دقائق وعاد إلينا يحمل وعائين كبيرين إحداهما إمتلأ بالتفاح والآخر اكتنز بعناقيد العنب وألح علينا أن نقبل هديته. ثم حيانا وإنصرف. وشكره ابي كثيراً وودعه. فلما ابتعدنا من مزرعته إلتفت إلى ابي الذي كانت مبتسماً فسألته متعجباً : لماذا فعل اليمني ذلك رغم انه لا يعرفنا؟. فأجابني من فوره: إن اليمانيين يحبون السودانيين كثيراً ويكنون لهم كل التقدير.

التحقت بمدرسة آل السربي الإبتدائية وهي مدرسة مختلطة يقوم ابي بتدريس كل الفصول فيها ، كنت في السنة الرابعة اتلقى التعليم على يدي أبي بالمنهج اليمني وحينما نعود للبيت الذي يجاور المدرسة كان ابي يدرسني بعد الغداء وحتى موعد صلاة المغرب مواد المنهج السوداني لنفس السنة. لا زلت اذكر جيداً كيف عاني أبي كثيراً حتى انجح في حل مسائل الكسور الطبيعية والكسور العشرية بطريقة صحيحة.

ذكريات الترحال الداخلي:

من عادات أبي في السفر أن يصر على ان تجلس جميعاً متجاورين بقربه داخل البص ولابد أن يبتاع لنا من إحد الباعة المتجولين اشياء نأكلها من شاكلة (البسكويت والعجوه والترمس والكابكبيه والفول السوداني والتسالي).

قرر أبي في إحدى السنوات أنا يلبي رغبة صديقه وشقيقه صديق العاقب، وهو أنا تقضي إجازتنا المدرسية معه في مدينة القضارف حيث يسكن في إحدى البيوت الحجرية التي شيدها الروس بالقرب من صوامع الغلال لتصبح سكنناً للمهندسين الزراعيين، وكانت الاجواء الخريفية مدعاة لخروجي وأخوتي في الحقول نطارد اسراب طيور الجنة والجرذان والجراد، وكان ابي يضحك كثيراً حينما نعود ونحكي له مغامراتنا الطفولية هناك.

سافرت معه مرات لوحدي، ومن بين تلك الاسفار ديار أهلنا في قرية ( رميلات ود العاقب ) فعرفني على احفاد ( ابناء عمومتي) وابناء جدي العاقب ( اعمامي) حيث سكن جد أبي ارضاً جرداء خالية من البشر والشجر على بعد اميال من مدينة العلم (حنتوب) فجاورته الأعراب فصار الجميع هنا أهلي، وكثيراً ما قلت لأبي ضاحكاً: انت جدي العاقب دا قايل روحو سيدنا ابراهيم ولا شنو، هسي العرب السكنو جمبو ديل ما زي ناس ( بني جرهم) ؟. فيضحك ابي كثيراً ولا يعقب. وعدت من تلك الرحلة بورقتي فلسكاب تحوي شجرة عائلتنا حتى سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه، وتباهيت بين اقراني بأن جدتي الكبرى هي السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام.

وأرافقه في سفر آخر وانا خلف مقود سيارتي – قبل أن ابيعها – فيطلب مني بين الفينة والأخرى أن لا اسرع وأن لا اتشاغل بالتحدث عبر موبايلي.


أنا وابي .. والمسكن الجديد :

حينما انتقلنا من مدينة امدرمان لمدينة الخرطوم بحري قبل ما يربو على السنوات الاربع، كان يتوجب علينا ان نصلح من شأن البيت قبل ان تنتقل إليه أمي واخواتي الثلاث، فكان على ابي في الشهور الاولى لرحيلنا ان يمارس هوايته القديمة التي اجادها في سنوات الاغتراب بين اليمن والسعودية وهي ان يتفنن في إعداد الوجبات وحاول جاهداً ان يجعلني اتعلم الطبخ ومرد ذلك أنه اشار إلي بأنني قد اضطر للطبخ بعد زواجي حينما تكون زوجتي مريضة أو في شهور حملها الأخيرة أو في شهور ولادتها الأولى. فكنت اجيبه باسماً: الله كريم، كدي لما اعرس، لو اضطريت بخلي امي تطبخ لينا!!.

ولأننا لم ننقطع عن البيت الكبير بأمدرمان فكنت كثير التردد عليه، فيطلب مني أن اخبره بالتلفون إذا كنت ارغب في قضاء ليلتي بالحي الأمدرماني.
وحينما قررت أنا اصطحب أخي محمد لقاعة الصداقة بالخرطوم لنشاهد مسرحية ( النظام يريد ) لفرقة الاصدقاء المسرحية، طلب مني أن لا انفعل واتحدث في السياسة فالقاعة لن تخلو من أفراد الأمن والمخبرين.


أبي .. والوشائج الثقافية:

اكتشفت حب أبي للرسم باكراً حينما وجدت ان لديه عدداً من ريشات الرسم وأوعية دائرية الشكل لمعالجة الألوان، واكتشفت انه يعشق القراءة كعادة اساتذة ذلك الزمن فجميل بن معمر ( جميل بثينة) لا يجد غضاضة في ان يجاور كتاب رياض الصالحين للإمام النووي. ولمحت حزن أبي عميقاً على رحيل شاعر الشعب محجوب شريف فأبي يعرفه بحكم أن كلاهما يعمل بالتدريس وكان ابي يعلم بمدارس مصطفى بشير على مقربة من بيت شاعرنا وكان كثيراً ما تجاذب اطراف الحديث مع ابي.


أمي بمصر وأبي بالسودان:

وحينما قرر الطبيب المعالج لأمي أن تسافر لمصر لتلقي العلاج من مرض السرطان الخبيث، كان أبي يطلب مني كل صباح أن اهاتف امي حتى يطمئن على صحتها ويتركنا نتحدث معها في البداية قبل أن ياخذ هاتفي النقال لإحدى الغرف ويطول حديثه مع أمي. وكنت ألمح القلق في عينيه كلما اقترب موعد جرعة أمي ولا يهدأ له بال حتى يحادثها قبل أن يذكرنا بأن لا نهاتفها بعد الجرعة مباشرةً لأنها ستكون منهكة.



أبي ... إلى جوار الله:

صبيحة الأحد السادس من شهر يوليو لهذا العام – والذي يوافق الثامن من شهر رمضان – أيقظني أبي كعادته كل صباح لأصلي معه صلاة الصبح جماعة، وكان يوم الاحد هو اليوم الخامس مذ قرر الطبيب المعالج لأبي ان يصلي جالساً نظراً لشخونة المت بركبته اليمنى، فأميته في الصلاة وبعد الصلاة أشار إلي بأن اسقي الاشجار التي زرعناها خارج البيت وبعد ذلك لابد من أن اواصل سقيا النبتات التي زرعتها أمي في أوعية الزبادي والطحينة الفارغة. اخبرته انني سأفعل وانصرفت للعودة للنوم، غير أني استيقظت بعد اكثر من ساعة على صوت الباب وهو يحاول إغلاقه، فقمت لأعاونه في قفل الباب وذهب دون ان يودعني وكانت تلك المرة الأولى التي يذهب فيها ابي دون ان يودعني وكان تلك المرة الأخيرة التي القاها فيها وهو على قيد الحياة.

استقبلت نسيبة اختي الصغرى مكالمة من هاتف ابي وكان المتحدث شخصاً آخر يطلب منها ان تحضر في الحال لمستشفى الخرطوم بحري التعليمي وتحديداً لقسم الحوادث والاصابات، ايقظتني نهى اختي الكبرى لتخبرني بما جرى فتناولت هاتفني واتصلت على هاتف ابي، اخبرني محدثني بذات الطلب ان احضر سريعاً لمجمع الاصابات والحوادث قلت له: ((كويس حأجيكم هسع، بس الحصل شنو؟))، اجابني: (( العربية اتقلبت)). وانهى المحادثة.

في الطريق إلى المستشفى تتضارب الافكار برأسي وتلعثمت الآيات في خلدي وانا احاول جاهدني ان ادفع الأفكار السوداء من جمجمتي، دعوت الله كثيراً أن يلطف بأبي وبنا. ثم تناولت هاتفني واتصلت على أخي محمد الذي كان يقضي ليلته بالبيت الكبير بأمدرمان، طلبت منه ان يوافيني في التو واللحظة في مستشفى الخرطوم بحري، وذكرت له مجمع الحوادث والأصابات، سأليني منزعجاً عن السبب فأطمأنته وانا غير مطمئن.

وجدت محمد ينتظرني امام بوابة المستشفى، دخلت بعد لأي، ولكني لم اتمكن من الدخول على قسم الحوادث والاصابات في حين نجح محمد في ذلك عبر إحدى اصدقائه، وانتظر ان يوافيني محمد بالخبر بعد ان فشلت في إقناع رجال الشرطة في أن يجعلني ادخل كي أطمئن، قلت له: ( أنا بس داير اشوف ابوي، لا قدر الله لو حصل ليهو كسر، داير اطمن بس، والله العظيم أشوفو واطلع طوالي وما حأقعد معاهو).

عاد محمد بعد دقائق بدت لي كالسنوات، وهاتفني كي اوافيه بالقرب من البوابة، كان وجه محمد يحكي كل ألم الدنيا كل عضلة فيه كانت ترتجف يغالب نوبة بكاءٍ طارئةً، قلت في نفسي: ( إن شاء الله ما يكون كسر في ضلوع ابوي!!). وانتظرت ان يسمعني محمد بمكان الكسر، ولكنه اشار إلي بأنه يتجوب علينا ان نذهب لمشرحة امدرمان بمستشفى امدرمان التعليمي، سألته منزعجاً وبصوت عالي: (( ليييييي نمشي المشرحة؟ )). اخبرني بأنه قرأ اسم ابي وشخص آخر في عداد المتوفين بينما حوى تفاوت كسور ستة أشخاص آخرين، سألته مرة أخرى وانا اغالب ادمعي: (( قريت الاسم رباعي: الباقر محمد أحمد العاقب؟. اتأكد يا محمد؟ )). هز رأسه في حزن، مادت بي الارض ووجدتني خارج المستشفى أقعي ومحمد يمسكني ويطلب مني وسط دموعه ونحيبه ان اقف مجدداً ويطلب مني ان استغفر الله.

بمشرحة امدرمان قبل ان ينتصف النهار وقفنا انا ومحمد كي نتعرف على أبينا وهو مسجاً وقد اغمض عيناه وابتسم كما الحالم في نومه تماماً، وقفنا انا ومحمد لننظر لأبينا للمرة الأخيرة .. وقفنا انا ومحمد لننظر يتمنا ولنستقبل عبارة: ( دا ود المرحوم .. شيل معاهو الفاتحة! )... وقفنا انا ومحمد بالقرب من جسد ابينا ، وكأننا ورقتي شجر تتساقط من علٍ وتعبث بها الريح فتحملها كما تشاء وتتركها حيث تشاء... وقفنا انا ومحمد اليتيمن ننظر ابانا في رقدته الأخيرة ولا نجرؤ على لمسه او هزه برفق كي يستيقظ ... وقفنا انا ومحمد في أول صباح يتمنا والخواء يملأ تجاويف جمجمتينا قبل أن ننوح كما تنوح النساء حينما يفقدن احبابهن.




مزمل الباقر
امدرمان في 14 يوليو 2014م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى