خالد أحمد بابكر - زهور الليلاك: بين عبد الله الطيب وعجب الفيا

حازت قصيدة «الأرض الخراب The Waste Land» للشاعر الإنجليزي الأمريكي (ت. س اليوت 1881-1965م) شهرة واسعة لم تنلها أية قصيدة أخرى في القرن العشرين، ونُسج على منوالها شعر كثير. وتأثر بها الشعراء العرب المحدثون كغيرهم من الشعراء، واستلهمها كثيرون من جيل رواد القصيدة الحديثة كالسيّاب وأدونيس وصلاح عبد الصبور ومحمد عبد الحي. وقد عُربت القصيدة أكثر من مرة، واختلف المترجمون العرب في ترجمة عنوانها. فقد ترجمه د. لويس عوض بـ «الأرض الخراب»، وتبعه في ذلك جماعة مجلة «شعر» كأدونيس ويوسف الخال. وترجمه الناقد الكبير الدكتور إحسان عباس بـ «الأرض اليباب»، وتبعه في ذلك الدكتور عبد الواحد لؤلؤة وآخرون. أما الأديب السوداني عبد الله الطيب المجذوب، فقد اختار «الأرض القفر».
واتفق سائر النقاد على أن اليوت قصد بالأرض الخراب، العالم عشية الحرب العالمية الأولى، وقد عمته حالة من الخراب والدمار المادي والمعنوي والخواء الفكري والروحي. ولعل اليوت مهموم - كما يتضح من قراءة القصيدة - بالخراب المعنوي أكثر من اهتمامه بالخراب المادي لأن الخراب المعنوي هو الذي يقود إلى الخراب المادي. وكلمة الخراب، تشير إلى الدمار المادي كما تشير في الوقت نفسه إلى الدمار المعنوي. لذلك فهي الأقدر والأكثر دلالة على فكرة القصيدة إذ إنها تشير إلى المعنيين: المادي والمعنوي. هذا بالإضافة إلى أن كلمة الخراب تستعمل في العربية للدلالة على المستويين، المادي والمعنوي، فنحن نقول مثلاً - خراب الذمم - ونقصد به الفساد الأخلاقي وهو معنى معنوي. أما في المستوى المادي فقد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى:« يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين»، سورة الحشر الآية (10).
انتهى البروفسير الأديب العالِم عبد الله الطيب المجذوب رحمه الله في بحثه « الفتنة بإليوت خطر على الأدب العربي – مجلة الدوحة – فبراير، مارس، أبريل 1982م» إلى أن أصل كلمة (الليلاك) فارسي. وهي اسم لزهرة معروفة وردت في قصيدة «الأرض الخراب» لاليوت. وذكر أن زهور الليلاك شرقية، وعاب على اليوت ذكرها واعتبر ذلك اختلاساً منه. يقول:« في معجم لاروس الفرنسي أن أصل (الليلاك) من بلاد الشرق الأوسط وأنه يزرع من أجل نواويره البيض والبنفسجيات، وذكر لاروس أنه من أسرة ( Oleceesأولياسيه) التي منها الياسمين والزيتون.ويظهر أن هذه الكلمة الفرنسية (Olecees أولياسيه) نفسها قد حُرفت من الفارسية (جل ياس) تنطقها كالجيم المصرية بين الكاف والقاف وتكتب بالكاف المعقودة (كل ياس). وأضاف بقوله:« وذكر اليوت هذه الزهرة الشرقية والإسلامية المعدن في سياقه الذي يقرنها فيه بالذكرى والجنس عجب.. إذ أشبه بأساليب لغته وحضارته لو قد ذكرالورد، وكان من ضروب نواوير أوربا وبريطانيا وأمريكا. أم ليت شعري هل فرَّ من رومانتيكية الورد وما بمجراه؟».
وقد رأى الباحث والناقد الأكاديمي والقانوني عبد المنعم عجب الفيا في دراسته « الأرض الخراب والشعر العربي» التي عارض فيها دراسة الأديب عبد الله الطيب أنه:« لا يرى أن عبد الله الطيب كان بحاجة إلى كل ذلك الاستطراد المطول في البحث والتقصي عن أصل كلمة ليلاك. وكون أن أصلها فارسي أو عربي لا يهم طالما أن اللغات تأخذ من بعضها البعض، وطالما أن الشاعر كان يتحدث عن زهرة حقيقية عاينها وأحبها وامتزجت بأجمل ذكرياته». وأشار إلى أن زهرة الليلاك معروفة في أوربا، وارتبط ذكرها بذكر الربيع إرتباطاً وثيقاً. وأن كلمة ليلاك قديمة في الإنجليزية وذلك بحسب ما أورده أديبنا عبد الله الطيب نفسه حين نقل عن برنارد بروغنزي – أحد نقّاد اليوت – الذي قال في بحثه:« إن الليلاك كان كثيراً في سياجات هارفارد النباتية».
افتتح اليوت قصيدته «الأرض الخراب The Waste Land» بالتغني بالربيع وهو أول شهر أبريل. وأول تلك المظاهر التي تثير وحشة الشاعر هي زهور الليلاك. يقول اليوت:
April is the cruelest month, breeding
Lilacs out of the dead land, mixing
Memory and desire, stirring
Dull roots with spring rain.
أبريل أقسى الشهور منبتاً
الليلاك من الأرض الموات
مازجاً الذكرى بالرغبة، محركاً
خامل الجذور بأمطار الربيع
يرى البروفيسور عبد الله الطيب أن اليوت أخذ قوله في الاستهلال (أبريل أقسى الشهور، مُنبتاً الليلاك) من قول لبيد في المعلّقة. يقول:« تأمل الشبه في السياق والصياغة بين قول لبيد (فعلا فروع الأيقهان) بعد ذكره مطر الربيع وبين قول اليوت (منبتاً زهور الليلاك) بعد نعته مطر الربيع الذي أبريل رمز له. أي فعلت أغصان الليلك، كما علت فروع الأيقهان». ويمضي إلى القول:« أخذ اليوت مزجه الذكرى Memory بالشهوة Desire من قول لبيد»:
فعلا فروع الأيقهان وأطفلت
بالجهلتين ظبـاؤها ونعامها
وقد رأى أن الظباء والنعام جاءت في مكان الحبيبة والظبية تشبه بالحبيبة. ههنا – كما يقول – مجال للذكريات واتصال معنى ولادة الظباء أطفالها وأفراخ النعام بالشهوة غير خاف.
يتسآءل الأستاذ عجب الفيا عن كيف يضطر الشاعر الأوربي لأن يختلس النظر إلى ذكر الربيع وأزهاره من شاعر عربي جاهلي؟ فللربيع مكانة معروفة في أروبا فهو فصل تدفق الحياة وانطلاقها. والغريب – كما يراه – أن يؤكد البروفيسور عبد الله الطيب ذلك في قوله في هذا السياق:« وأبريل بحبوحة أشهر الربيع فذكره يدل عليه» ثم يورد القول الإنجليزي المعروف الجاري مجرى المثل - على حد تعبيره:
March winds, April showers, Bring fourth May flowers.
في بحث الأستاذ عجب الفيا كثير من الدلائل والشواهد التي تؤكد على أن استهلال القصائد بذكر الربيع ووصف أزهاره وأمطاره، كان أمراً مألوفاً في الشعر الإنجليزي والأوربي عموماً. وأن اليوت حين بدأ قصيدته بذكر الربيع إنما كان يصدر – بالإضافة لتجربته الذاتية – عن ثروة هائلة من القصائد التي تمجد الربيع وتتغنى به. أقول إن اليوت هو القائل:« أكتب وفي عظامي كل شعراء العالم».
مايزال بعض النقاد يعقدون المقارنات بين اليوت وعدد من الشعراء القدامى والمحدثين. فكثيراً ما تجرى المقارنة بين استهلاله لقصيدته «الأرض الخراب» وافتتاحية «حكايات كنتربري» لجوفري تشوسر (1340-1400):
When that April with his showers sweet
The drought of March has pierced to the root
هناك أيضاً شبه بين استهلال قصيدة اليوت وافتتاحية الشاعر الأمريكي (والت ويتمان 1819-1892م) لقصيدته «ذكريات الرئيس لنكولن»، حيث يقول:
When lilacs last in the dooryard bloomed,
And the great star early drooped in the western sky in the night
I mourned, and yet shall mourn with ever-returning spring
كذلك يقارن النقاد بين افتتاحية اليوت – وإحدى القصائد للشاعر الإنجليزي (روبرت بروك 1887-1915م) الذي مات في الحرب العالمية الأولى:
Just now the lilacs is in bloom
All before my little room
Here am I, sweating, sick and hot
يقول عجب الفيا إن الربيع حلّ على الشاعر (روبرت بروك) وهو في ألمانيا محموماً يتصبب عرقاً، فتذكر حلول الربيع في الريف الإنجليزي حيث زهور الليلاك تملأ ساحة غرفته. وسبق لاليوت أن استلهم افتتاحية (روبرت بروك) هذه لإحدى قصائده الباكرة والتي تُعرف بـ (A Portrait of a Lady صورة سيدة) يقول في مطلعها:
Now that lilacs are in bloom
She has a bowl of lilacs in her room
And twists one in her finger while she talks
لاحظ التطابق الكبير بين الصورة التي رسمها الشاعر لهذه السيدة وهي تقف منتشية أمام غرفتها ممسكة بزهرة الليلاك بين أصابعها تلوح بها أثاء الحديث. وبين صورة صديقه وهو مقبل نحو ملوحاً بغصن الليلاك وسط حدائق لوكسمبورغ. كذلك يستشهد معظم شُراح اليوت بما أورده هو نفسه في مقالة كان نشرها بمجلة (The Criterion) عدد أبريل في العام 1934م يستذكر فيها بعض أيامه بباريس بقوله:
I am willing to admit that my own retrospect is touched by a sentimental sunset, the memory of a friend coming across the Luxembourg gardens in the late afternoon waving a branch of lilacs, a friend who was later (so far as I could find out) to be mixed with the mud of Gallipoli.
ومعنى حديثه بتصرف، يقول: « لابد أن أقر بأن أعمق ذكرياتي تعود إلى عصر ذلك اليوم حيث الغروب المثير بحدائق لكسمبورج وصورة أحد أصدقائي مقبلاً نحوي ملوحاً بغصن من زهور الليلاك. ذلك الصديق الذي عرفت فيما بعد أن جسده قد امتزج بوحل غاليبولي».
ويحدثنا عجب الفيا نقلاً عما أورده البروفيسور الأمريكي (جيمس ميلر) في كتابه «T.S. Eliot's Personal Waste Land» أن ذلك الصديق هو الشاب الفرنسي جان فردينال الذي كان يزامل اليوت أيام الدراسة بالسربون حيث كان يدرس الطب ويقرض الشعر. وقد ربطته بإليوت علاقة صداقة حميمة جداً. ولما نشبت الحرب العالمية الأولي سنة 1914م عاد إليوت إلى إنجلترا وإلتحق جان فردينال بخدمة القوات الفرنسية. وشارك في الإنزال البحري الذي قامت به قوات الحلفاء في 24 أبريل 1915م للإستيلاء على غاليبولي التركية على خليج الدردنيل. إلا أن الحلفاء فشلوا في الإستيلاء على غاليبولي. وكان فردينال بين آلاف الضحايا من الجنود الفرنسيين والإنجليز والأستراليين الذين إمتزجت دماؤهم بمياه الدردنيل.
وكان اليوت قد أهدى أولى قصائده الناجحة وهي «أغنية العاشق الفريد ج. بروفروك» إلى صديقه (جان فردينال)، وجاء في الإهداء: « إلى جان فردينال (1888-1915م) مات في الدردنيل».. وأضاف اليوت إلى الإهداء عبارة نقلها من الشاعر الإيطالي (دانتي) أوردها كما هي. والعبارة بالإنجليزية تقول:
Now can you understand the quantity of love that warms me towards you, so that I forget our vanity, and treat the shadows like the solid thing.
« كلما تأملت غرور دنيانا رأيت أن ظل الحياة شئ زائل ومن هذا تستطيع أن تفهم مبلغ الحب الذي يشدني إليك».
يخلص عجب الفيا إلى أن اليوت: أخذ ينظر من خلال قصيدته إلى العالم عشية الحرب العظمي، وقد تحول (العالم) في عينيه إلى خراب مثله مثل الأرض الخراب التي تتحدث عنها الأساطير. فيصبح هاجسه الشعري كيفية تجديد هذا الخراب.
ينبغي أن نؤكد ههنا أن أول ناقد عربي أشار لاليوت ونوّه به وباسمه في النقد العربي الحديث هو الناقد السوداني معاوية محمد نور. وقد أثبت ذلك الشاعر والباحث المدقق د. محمد عبد الحي محمود في بحثه القيّم « معاوية محمد نور ونقد الرومانتيكيين العرب في الثلاثينيات» وقصد منه التنويه إلى ريادة الأديب معاوية نور في التعريف باليوت في العالم العربي. وذهب عبد الحي رحمه الله إلى أن معاوية نور هو أول من ذكر اسم اليوت في اللغة العربية ووظف نظرياته النقدية لنقد الشعراء الرومانتيكيين العرب أمثال محمود طه المهندس وإبراهيم ناجي. وكتب عبد الحي بحثه الثاني تحت عنوان « ت. س اليوت والقاريء العربي في الأربعينيات» خصصه للحديث عن مقالة الدكتور لويس عوض – خريج كيمبردج – التي يعتبرها أول محاولة حقيقية في التعريف باليوت بعد معاوية نور. وقد نُشرت مقالة لويس عوض في عام 1946م بمجلة «الكاتب المصري» على عهد رئيس تحريرها طه حسين، وجرى نشرها لاحقاً في كتابه « في الأدب الإنجليزي الحديث». ويصف عبد الحي مقالة لويس عوض بأنها :« كُتبت بروح تبشيرية منحتها قدرة لمست وتراً مشدوداً في وجدان جيل من الشعراء الشبان الذين كانوا يبحثون عن أنغام جديدة تعيد للشعر حيويته، بعد أن أحسوا أن أنغام الرومانتيكية قد وهنت ولم تقوَ على حمل تجارب العصر».



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى