ياسين طه حافظ - صناعة الإيهام..

خطأ أن يتوقع القارئ من الكاتب ما يتوقعه مراجعُ عيادةٍ من طبيبه ، إنه يعرف كل شيء عن الموضوع.

فالراوي عالم أبعاد ومؤرخ أحداث، لا مقرر مصائر، وكذلك من يرجو علاجاً لعلةٍ من طبيب وتساؤلاته عن شتى ما يمر به، والطبيب مثله فيها فأن تعداه فلصحة الجسم العامة ولايملك بعد هذا إلا نزراً من هذا العلم و تلك الجراحة. هذا جانب يجعل كلا من الأثنين، الروائي والطبيب، بشراً سوياً له ما يعرفه وما يجهله.

لكن ثمة إيهاماً متعمداً! يصطنعه الكاتب ليفرض جو غموض أو سرية أو لإثارة تطلع أو ليريح قارئة، بما هو غير واضح أو وراء ستار.

لنا في الأدب الحديث نماذج غريبة ذات أثر غرائبي على قراء هذا الأدب . ويبدو لي أن وراء الايهامات التي يصنعها الكاتب، سواء للتشويق أو لإحكام العقدة في القصص البوليسي، أو لإضفاء جو غائم أسطوري أو مسحة غيبية..,وراءها حاجة تقنية حديثة، ذات انتماء مخيلاتي تصل بالأساطير والتقاليد الموروثة وقصص الغيب والمعجزات. هي ليست مقطوعة الصلة بهذه انتماءً أو وظيفة فنية ايحائية.

اتذكر الآن في دراسة لـــ ت. س. إليوت إنه كان في كل أدبه يستحضر تلك الطاقات الغائبة في الأساطير والتقاليد والقصائد، حتى الموغل في القدم منها. أعماله تسعى الى انتزاع الايحائية، وهي في رأيه التي ترسم ذات الفرد وهي وراء تفكيره ورؤاه وإنها في عقل الفرد بهيئة نمط من أنماط اللاوعي الجمعي. معنى هذا الكلام إننا، و شخوص الروايات والملاحم والقصائد، نتشارك كلنا في الحكمة الروحية والأساطير البعيدة نفسها. شخصياً، لا استبعد أن اللجوء الى الطبيعة هو لجوء لعالم تلك الأساطير وللعالم الفطري الأول. وإن لهذا اللجوء صلة بما يراه إليوت. فهل نعزو لذلك عزلة الرهبان والمتصوفة بعيداً عن العالم الحاضر قريباً من العوالم الأسطورية التي ذكرناها؟ هذا لايتقاطع وبعدهم أو هروبهم من دولهم وسيئات أزمنتهم. المسائل متصلة وهي في النتيجة تؤدي الى حصيلة واحدة غائمة مقنعة أو منقذة.إن حشود الرموز والإشارات والعوالم المستغلقة أو التعالي عن اليوميات والرداءات في مجتمعات لم تجد يوتوبيا ولا تحقق لها حلم وظلت تدور في أفلاكها الطينية وما فوقها من ضجيج...، إنما هو عيش مع تلك العوالم الأسطورية والطاقات والرؤى البعيدة. المتصوفة عندنا وفي العالم، وفي أزمنة شتى، ظلوا يستنهضون، ويستدعون تلك الطاقات والعوالم. وسواء كانوا متصوفة أو رجال دين وحكمة أو شعراء كباراً أو متأملين، هم حملة ذلك الإرث ومنهم يستمد الكتّاب المحدثون، حتى في أحدث الأعمال الروائية، تلك الايهامات التي تصنع أجواء روايتهم.

نحن نجد هذه في روايات القرن التاسع عشر مثلاً ونجده في الغرائبية الجديدة وروايات امريكا اللاتينية ونجده في الرواية الانجليزية الحديثة، بل هو ما فارق تاريخ الانجليز الأدبي فحتى الآن الأبطال يهيمون وحتى الآن يُجنَوّن وحتى الآن يهربون للاديرة والملاجيء أو للمخدرات أي للعوالم الغائمة ذات الممرات السرية. هي، أي الأسطورية والرؤى تقبع خلف اللافتات ومانشيتات الصحف وأخبار الطيران والانقلابات وأخبار المجاعة والتصفيات السياسية والعقدية. و هو هذا الارتباك الناشئ من صراع " الأسطوري الملحمي" مع " الواقعي" ومن قسوة الشروط المادية والانضباط أو التقنين الفكري . بورخس واضح الانتماء لهذا في قصصه وأشعاره. و وليم بتلر ييتس كان يعيش الأساطير والتقاليد الايرلندية القديمة عيشاً يومياً ومعها دخل ستوكلهولم يتسلم نوبل! وحين عقبت الملكة بأن له خلق وسلوك امراء. فلذلك دلالة وإشارة واضحة لانتمائه الأسطوري. وقبل أن انتهى من كلامي في هذا الموضوع الواسع، لابد من أن أقول أيضاً إن البوهيمية، تبدو حركة انفلات من الواقع المعقد الجديد الى العوالم القديمة، الى عوالم الانسان الطبيعي، بكل حريته ومتاهته لعلهم يلحقون أو يقتربون من الأسطوري الذي تحدثناعنه و الذي نعيش أو تشارك حياتنا أجواؤه.. ويبدو أن امتيازنا الاخلاقي، وإن المتسامين منا والمحمودة سِيَرهم ويثنى عليهم، إنما لمدى ما يحملون من نبالة وطهر ومن شعرية العوالم البعيدة وهو يجوبون عصرنا الملغوم بالجرائم وتعاسات الناس.


أعلى