الفاتح إبراهيم أحمد - معاوية وبليك/ العبقري والشهرة..

هل الشهرة ضرورية للعبقري؟
يجيب الشاعر الإنجليزي وليم بليك على هذا السؤال قائلاً:
"ان الشهرة ليست ضرورية لصاحب العبقرية لان الإنسان يعيش وحيداً ويموت وحيداً فلا ينبغي ان ينسى وحدته الأساسية ويعيش في وهم علاقاته الاجتماعية".
وإجابة بليك تنبع من سيرته الذاتية وحياته الشخصية وتعكس الظروف التي واجهها في موطنه.. فبالرغم من أن بليك من اكبر شعراء الإنكليز فأنه عاش مغموراً ولم يعترف له بالنبوغ حتى من بعض أصدقائه.. بل اعتبره البعض مجنوناً ولم يكترث بليك وواصل إنتاجه الشعري وقال في إحدى قصائده انه يمتلك كل ما يحتاج إليه في حياته.

عدد بليك ما يملكه وهو الغبطة العقلية والصحة العقلية وأصدقاء العقل وزوجة تحبه ويحبها. قال أنه بذلك يملك كل ما يريد في الحياة بالرغم من أنه لا يملك شيئاً من ثروات الجسد.

ولا ينبغي ان يؤخذ ما حدث لوليم بليك برمته حتى يطبق على غيره من الأدباء لأن بليك كان محظوظاً بوقوف زوجته إلى جانبه تلك الفتاة التي عرفت برزانتها ونبلها غمرته بحنانها ولم تكف عن تشجيعه والاعتراف له بالنبوغ. فقد كان دورها رائعاً بحق في حفظ التوازن النفسي لهذا الشاعر الذي صار من أكبر شعراء الإنجليز. فالعبقري يحتاج إلى من يقف بجانبه يدعمه ، ويشجعه، والا فأن التجاهل وعدم الاعتراف له بالنبوغ يصيبه بالعقم والانزواء والجنون وهذا بعض ما حدث للأديب السوداني معاوية محمد نور الذي عاش مغموراً ومات مغمور أو ما يزال حتى الآن مجهولاً من القراء بالرغم من كتاباته المتنوعة الجريئة في الصحف المصرية في الثلاثينات.

والكتابة عن هذا الأديب العبقري تعيقها ندرة المعلومات عن سيرة حياته الغامضة. تخرج معاوية في كلية غردون بالخرطوم ثم ذهب إلى مصر ليكمل تعليمه فلم يستطع غير أنه أكمله في جامعة بيروت الأمريكية بدعم من عائلته في السودان وبعد فترة قضاها في مصر رجع إلى السودان وأثر في نفسه ما لقيه من ظروف صعبة بسبب مواقفه الوطنية إبان الاستعمار الإنجليزي.

لاحت العبقرية في شخصية معاوية في وقت مبكر جداً من عمره وخلال الفترة التي قضاها في مصر. بعد عودته من بيروت أتصل بالأوساط الأدبية في مصر وغمر الصحف المصرية بكتاباته في السياسة الأسبوعية (1927-1933) وفي المقتطف والبلاغ وفي جريدة الجهاد (1934-1937) كما عمل محرراً في جريدة "الاجيبشيان غازيت) التي تصدر باللغة الإنجليزية. وتناول معاوية في كتاباته نقد الشعر والقصة والنثر.

وكانت لمعاوية صلة صداقة قوية بالعقاد الذي رثاه بقصيدة نشرت فيما بعد في ديوان العقاد " أعاصير مغرب" وقد ارسلها لتلقى في تأبينه بالخرطوم يقول فيها:

اجل هذه ذكرى الشهيد معاوية
فيالك من ذكرى على النفس باقية
بكائي عليه من فؤاد مفجع
ومن مقالة ما شوهدت قط بالكية
تبينت فيه الخلد يوم رأيته
و ما بان لي أن المنية آتية
و ما بان لي أنى أطالع سيرة
خواتيمها من بدئها جد دانية

نهضة أدبية
وأذا تتبعنا نماذج من مقالات معاوية النقدية تجد انه تلمس الطريق الصحيح لإرساء نهضة أدبية متكاملة في تلك الأيام الباكرة من تاريخنا الأدبي الحديث وذلك بالرغم من قصر حياته والاضطراب الذي عاش فيه .. يقول في إحدى مقالاته عام 1929:
" ليس الأدب هو الشعر فحسب، و ما أظن كائنا من كان يقول بذلك.. وإنما الشعر فرع من فروع الأدب. فهناك الرواية، وهناك القصة القصيرة، والدراما.. وهناك البحوث الفكرية والأدبية ذات الصبغة الاجتماعية والفلسفية التقدمية.

وقد وجد معاوية ثورة عنيفة على مسألة حصر الأدب في نطاق ضيق من الإنتاج الأدبي وعول على ضرورة التنويع وولوج كل جوانب الإنتاج الأدبي كالرواية والقصة والمسرح..
ونعى معاوية في مقالاته على زعماء النهضة في ذلك الوقت حصر إنتاجهم في المقالات الأدبية فقط. يقول:
" ويحزنني أن أقول إن زعماء نهضتنا إلى الآن لم يحاولوا الرواية ولم ينتجوا فيها شيئاً يذكر. ويتلخص عمل كتابنا الناثرين في عدة مقالات نقدية وصفية تنشر بالصحف السيارة ثم تجمع في كتاب وتقدم للجمهور. وأعجب من هذا إذا أردت إن تعرف شيئا عن فلسفتهم الأدبية أو الفكرية الأساسية كما هو الحال عند كبار الكتاب".

ومن ليس له فكرة أساسية يصدر عنها فمين به الا يعد من زعماء النهضة. ويمضي معاوية نور يوضح مفاهيمه حول أسس النهضة المطلوبة:
" نحن نطلب منهم مقاييس أدبية مبتكرة ونظرة خاصة للحياة والآداب. والآن أنظر معي إلى مؤلفات الأستاذ سلامة موسى والدكتور هيكل والدكتور طه حسين وأحزابهم فهل ترى في جميع كتاباتهم شيئاً مثل هذه الفكرة الأساسية؟ فـ " أوقات الفراغ" للأستاذ هيكل ما هو آلا مجموعة مقالات وليس فيه أي فكرة أساسية".

ويتساءل معاوية في مقالة " ما الذي عمله الدكتور طه حسين إلى الآن؟
أعترف بأنه حينما يحلل القصص الفرنسية وينقدها يلذ للقارئ كثيراً أو يدل على قوة نقدية رائعة ولكن هل هذا كل ما نطلبه من زعيم نهضة؟
وقد يقول قائل أن الدكتور طه حسين مؤرخ آداب وناقد وليس بأديب فمالك تطلب منه ذلك؟
فأقول : أين هي مقاييسه المبتكرة في نقد الآداب وكتابة تاريخها؟
فأننا نعلم إن كبار مؤرخي الأدب لهم فلسفة خاصة بهم أمثال "تيـن" وسانت بيف وهالام فأين الدكتور طه من هؤلاء وأين هي تأليفه؟
" حديث الأربعاء" وما هو الا حديث عن الشعراء ليس فيه فكرة أساسية."
الشعر الجاهلي" نعم فيه فكرة أساسية ولكنها منقولة من المستشرقين أمثال "نواكرة" الألماني ونيكسون الإنجليزي " فلسفة ابن خلدون" هو الآخر ليس فيه فكرة أساسية وانما تحليل فقط وتطبيق لنظرية "تين" في دراسة الرجال فهل مثل هذا الاحتكار لأراء علماء الغرب يجدر بزعماء النهضة؟

وكتاب سلامة موسى
" حرية الفكر وأبطالها في التاريخ" الذي كتب عنه بعض النقاد فأسماه كتاب السنة وما إلى ذلك من مثل هذا الهراء المحصن، مأخوذ من كتاب تحرير الإنسانية للأستاذ "فان لون" وتاريخ الحركة الفكرية لمؤلفه "ج ب بري" فأي فضل له سوى فضل الترجمة والنشر؟

هذا نموذج من مقالات معاوية النقدية التي أوردها هنا للدلالة على ثقافته الواسعة وثقته في نفسه المتطلعة لمكان لها في الأوساط الأدبية في ذلك الزمان ويظهر ذلك جلياً في تصدية لقضايا أساسية في الأدب ونقده حتى لكبار الكتاب والأدباء والشعراء.

ذكـي جـداً... لا يصـلح
وقد كتب معاوية أيضا سلسلة مقالات في أوائل الثلاثينيات في مجلة "الرسالة" بعنوان "
أصدقائي الشعراء هذا لا يؤدي" نقد فيها إبراهيم ناجي وعلي محمود طه المهندس..

كما نقد أبو شادي في ديوان "الشفق الباكي" في "السياسة الاسبوعية" عام 1930 قال فيه:
"لا يمكننا ان نعرض له في شئ من الجد إلا حينما يكون للشاعر شعر وموضوعات شعرية"

وقد حفلت مقالات معاوية بمختلف المواضيع، إذ كتب في الاجتماع والسياسة كما كتب في الثقافة العامة وكتب سلسلة مقالات كانت عبارة عن خواطر يومية ، وكتب مجموعة من الاقاصيص المليئة بالصور السودانية..

وقد لاقى معاوية من الصعاب وضنك العيش من خلال حياته القصيرة بسبب موقفه الوطني ونبوغه الذي ضاقت به البيئة السودانية في ذلك الوقت.

يقول الأستاذ مختار عجوبة في كتابه " القصة القصيرة في السودان"
ومعاوية الذي طارده الأنجليز وحرموه الاستقرار في السودان وخذله أبناء وطنه ولم يتيحوا له فرصة النمو في داخل بلاده، بل إنهم كانوا يتجاهلون ادبه وصدقه.

لقد كانوا دونه طراً فحسدوه فعاش غريباً كطائر يغرد يحمل وطنه بين جناحيه ومع نبضات قلبه باحثاً "عن سودانه".. وما ذنب معاوية إذا كان ذكياً حتى يكتب عنه احد الحكام الأنجليز بأنه"ذكي جداً لا يصلح".

وقد كان معاوية في ذلك الوقت يكتب مقالات مسلسلة بعنوان
" سوداني يبحث عن سودانه"كما كتب في السياسة الأسبوعية مقالاً تحت عنوان
"أحاسيس الحياة في الخرطوم: خواطر وذكريات محزونة".
وتعكس هذه المقالات مدى ارتباطه الوجداني بالوطن وهو ما زال فى جامعة بيروت في ذلك الوقت.
لقد تركت الظروف الصعبة المريرة التي واجهها أثارها عل صحته النفسية والجسدية خاصة بعد موت أبيه فقد واجه اليتم والفقر وأسلم الروح وهو في ريعان شبابه في حوالي الثلاثين من عمره. مات معاوية قبل أن يكمل مشوار العبقرية الذي بدأه بكل هذا التوهج والجرأة.
وهكذا قضى ذلك الأديب. حاربه الاستعمار وصرعه الفقر واليتم والمرض ولم يجد ما وجده " بليك" شاعر الإنجليز لينقذه من الجنون ويعيد إليه التوازن النفسي.


الفاتح إبراهيم أحمد



أعلى