أحمد الخميسي - عبد الرحمن الخميسي.. والدي

أكتب عن والدي، الشاعر، المتعدد المواهب، عبد الرحمن الخميسي. وما أصعب أن تدفع حضورك إلى رحيل، وأن تستدعي رحيلا إلى حضورك. أكتب وأنا أعلم أننا عندما نكتب عن الآخرين إنما نكتب بدرجة ما عن أنفسنا، فما بالك إن كنا نتكلم عن أحباء أحلامنا من نومهم ونظراتنا من عيونهم؟. إلى ذلك المعنى أشار الكاتب البرتغالي العظيم ساراماجو في روايته " كتاب الخط والرسم " بقوله: "من يرسم يرسم نفسه". ولكي لا أرسم محبتي لوالدي متخيلاً أنني أرسم صورته، أستدعي هنا كلمات الآخرين، لأنحّي نظرتي ومشاعري الشخصية قدر الإمكان.

ولا أجد للبداية أدقّ من كلمات أحمد هاشم الشريف وهو يوجز قصة حياة والدي بقوله: "قصة الخميسي هي قصة العاصفة التي هبت من الريف المصري أيام القصر والاحتلال.. وعبقرية الخميسي هى عبقرية الفلاح المصري التي نضجت على نار الحرمان والمعاناة، جاء الخميسي من قريته إلى القاهرة ليضرم النار في الأدب الرسمي ومعلقات المديح في الحكام وليعلن على الملأ أن حسن ونعيمة أهم من روميو وجوليت وكان الأدب الشعبي وقتها محتقرا، وكانت الكتابة حكراً على أصحاب الأقلام الذهبية من أبناء الباشوات وحملة الدكتوراه، لكن الخميسي القادم من القرية دون أن يكمل تعليمه كسر هذه القاعدة، ومن لا شيء أصبح شيئاً عظيماً، ومن الفقر واليتم والتشرد والضياع اعتلى عرش الأدب وترك لنا بعد رحيله الصوت الرخيم وأخذ الحنجرة الذهبية، ترك الأوراق واحتفظ بالقلم اللاهب المداد الذى كان يشيع الدفء في الأكواخ ويضرم النار في القصور" (1)

هذه هي بالدقة الخطوط الرئيسية لحياة والدي الذي شد رحاله من قريته بالمنصورة إلى القاهرة عام 1936، وهو شاب ريفي معدم بدون مؤهل علمي، ولا مال، ولا سند، ولا معارف، وليس بحقيبته عند هبوطه بمحطة قطار مصر سوى قصائده في مواجهة عاصمة ضخمة لا يعرف فيها أحداً أو شيئاً. ويصف الخميسي في مذكرات لم يتمَّها لحظة انتقاله للقاهرة قائلاً:

"أنا في القاهرة بلا أهل ولا دار.. ولا أملك شيئاً غير إرادة الحياة.. ليس في جيبي مليم. ولكن قلبي غنيٌّ بالأحلام. لم تكن لي أسرة ذات جاه، بل لم يكن لي قريب يستطيع أن يعاونني، وقد أنفقت ليلتي نائماً على أريكة في حديقة عامة. وحين أيقظني الصباح، توجهت إلى دار الكتب، وتناولت إفطاري وأنا سائر على قدمي، وكان ذلك الإفطار بعض حبات من الحمص بقيت في جيبي من الأمس. وكانت بعض المجلات الأدبية كالرسالة والثقافة تنشر لي قصائد مطولة من الشعر أرسلها إليها من بعيد. كان أًصحاب تلك المجلات والمشرفون عليها، لم يشاهدوا وجهي حتى ذلك الحين. وصلت إلى دار الكتب بميدان باب الخلق، وكان الأستاذ أحمد رامي يعمل في الدار رئيساً لقسم الفهارس الأفرنجية.. وقد تصادف أن تعرفت به في بوفيه الدار، ولم يكن لي عمل رسمي ولا أهل، أستطيع بواسطته أن أستخرج من الدار ترخيصاً باستعارة الكتب، فكنت أتردّد عليها كل يوم للمطالعة، حتى توثقت العلاقة بيني وبين الأستاذ أحمد رامي فساعدني على استعارة الكتب.. والتقيت بمجموعة من الشباب في مقهى من مقاهي باب الخلق، واحترفنا كتابة الأغاني للغير عدة سنين حتى نستطيع أن نحصل على القوت الضرورى ليتوافر بعد ذلك أن نطالع وأن نثقف عقولنا. في عام 1938، قدمني إلى المستمعين من محطة الإذاعة الأستاذ محمد فتحي، فأخذت أذيع قصائد شعري، وأقوم بتأليف التمثيليات وإخراجها. وكان عمري في ذلك الحين لا يتجاوز الثامنة عشرة.. ثم التقيت بأستاذي المرحوم خليل مطران الذي منحني من تعاليمه ورعايته ما هيأ لي الفرصة، ثم استفدت بمصاحبتي لسلامة موسى وإبراهيم ناجي، وكانوا يبذلون لي من التشجيع ما يشد عزمي.. في وقت لم تكن تساندني فيه عائلة قادرة، ولا يؤزرني رزق موصول، ولا يحميني سقف ممدود". يشعر الخميسي بوحشته ووحدته بلا حماية أودعم في مواجهة المدينة، فينبري للعالم الجديد بقصيدة أقرب إلى صرخة التمرد وقبول التحدي هي "ثورة" عام 1939:

"ماذا تريد الزعزع النكـبـاء = من راسخ أكتافه شمـــَّـــــاء؟
تتكسّر الأحداث تحت يمينـــه = وتميد من صرخاته الغبـــراء..
ويدكُّ بالإيمان كلَّ كريهــــــة = وتــمـلُّ مـن أوصـالـه الأدواء
ويبيتُ ينـفـثُ قلبَه في شدوه = فـلـذا تهيم بصوغها الشعراء
سأردّهـا مـدحـورةً مـجنـونـةً = تعوي.. فتعول حولها الأجواء
البابُ تـقـرعُه رياحُ مـلـمَّـــةٍ = ماذا تريد الزّعزعُ الـنـكـبــاء؟! (2)

في الأربعينات، في السنوات الأولى من وجوده في القاهرة، اشتغل الخميسي مدرساً، وعاملاً في محل بقالة، ومصحّحاً في مطبعة، ومحصِّل بطاقات في ترام، وجابَ الريف مع فرقة "أحمد المسيري" الشعبية يرتجل لها النصوص ويمثل فيها ويؤلف لها الأغنيات ويلحنها، وما بين ضياع وضياع كانت كراسي مقاهي المدينة وأرائك الحدائق العامة فيها ملاذه وسريره، يضع رأسه في الليل على خشبها الخشن يسأل النجوم والنسيم الساري والصمت عما ينتظره في غده: "ماذا تريد الزعزع النكباء؟". الخميسي الذي تشرّب من الريف ملاحمه وحكايات البطولة الشعبية، ارتوى من أوجاع أزقّة القاهرة، فتشبّعت روحه بطابع ديمقراطي وإنساني أورق تعاطفاً حاراً في كل إبداعه مع المنكسرين والضائعين الساهدين، فكتب فيما بعد نشيده ونشيدهم:

قيثارتي غنت شبابي حاسيــاً أتراحَــهْ
وضياع أيامي الظوامي عشتها لفّاحـهْ
والليل أشربه بلا كنَفٍ يمدُّ جنـاحـــــه
وتفجّر البركان بين جوانحي وجراحه
وتمرّد الأحزان تغدو للحزين سلاحــه
واليأس يمنح للعزيمة قوةً منّـــاحــــه
والبحر حين غدوت في أنوائه ملاّحـه
قارعتُه: وديانَه، وجبالَه، وبطاحَــه
وصخوره ذاقت دمي لكن عشقت كفاحه
غنيت يوم الناس أحلام الغد الفواحــــه! (3)

في تلك السنوات وجد الخميسي عملاً في استديو مصر، وهناك التقى بالمطربة الشهيرة أسمهان وكانت تصور فيلماً من أفلامها، ولفت نظرها بهيئته ونظراته، واستوقفته النجمة الصداحة، وتعلّق بها، وعندما ماتت بكاها بلوعة عام 44 في قصيدة بجريدة البلاغ جاء فيها:

"لا تسيروا بها سراعاً إلى القبر.. ولكن منكّـسـيـنَ بـطاءَ
إن في كل خطـوة نحـو مـثـواهـا.. احتراقاً لأضلعي وانطفاءَ
طـُويتْ عـبـقـريةٌ وتوارت بـعـدمـا أفــرغـت قواها غـنــــاءَ
عمرُها بيننا التماعٌ سريعٌ.. وسـعَ الأرضَ كـلَّها والـسـمـاءَ..
ما تـقـاسُ الحيـاة بالـطول لكن بامتلاء الشعور منها امـتلاءَ
آه يا أسمهان، راحت لياليك وكانت على الزمان وِضــــــاءَ
كل باقٍ يصير ذكرى.. ولكن أنت ذكرى تصير دوما بقاءَ"! (4)

وقد سألته ذات مرة فيما بعد عن تلك القصيدة فقال إنه كان مغرماً بأسمهان، وإنه كان يلتقيها، وكان مفتوناً بها، ولم يزد. لا أدري، ربما كان في القصة شيءٌ مؤلمٌ لا يريد أن ينكأه.

ولم يكن الخميسي مجرد شاعر قادم من الريف، بل كان على حدّ قول موسى صبرى: "شخصية جذابة فريدة.. ويصح القول إن الخميسي كان نموذجاً لا يتكرر"(5)، وكان كما يصفه الكاتب المعروف كامل زهيري: "كان الخميسي راوية جذاباً وممتعاً، تمتلأ أحاديثه بأحداث حياته الصاخبة وبالمفارقات والطرائف. وكان له حضورٌ مذهل لو جلس إليه ملوك الكلام ارتضوا أن ينزعوا تيجانهم من فوق رؤوسهم ليضعوها في صمت قرب أرجلهم، لأنهم لا يملكون سوى الإنصات إليه" (6). أما الساخر العظيم محمود السعدني فيرسم صورة حية ناطقة به قائلاً: "أول مرة رأيت فيها الخميسي كانت في الأربعينات حين حضر إلى قهوة عبد الله ذات مساء وقضى السهرة في ركن أنور المعداوي وأشاع جواً من البهجة والمرح وعزَمَ الشلّةَ كلَّها على العشاء، ومنح جرسون القهوة مبلغاً كبيراً من المال ودسَّ في يد الولد الذي قام بتلميع حذائه جنيهاً كاملاً، المهم أنه غادر المقهى في ساعة متأخرة من الليل وقد وهب السعادة للجميع.. حديثاً وطعاماً وهباتٍ.. وكان نموذجاً للفنان الذي رسمته في خيالي: شديد الزهوّ، شديد البساطة، عظيم الكرم، دائم الفلس، يمشي دائماً في الطريق يتبعه أكثر من شخص يلازمونه كظله.." (7).

وفي اعتقادي أن الصورة الشخصية لوالدي بالغة الأهمية، لأن ما قدّمه وما تركه من فنون الشعر والقصة والموسيقى والمسرح والأفلام كان جزءاً من حياته، كان قمّة جبل الجليد، أما الجبل فكان تحت السطح غير مرئي، كان حياته بحدِّ ذاتها وشخصيته وطريقته في مواجهة الحياة التي شكلت ومازالت تشكل إبداعاً خاصاً، فقد كانت أيامه هي الحبر الذي كتب به وكانت حياته هي الدفتر الكبير الذي خطّ فيه كل شيء، مرّةً بنجاح ومرّةً بإخفاق، مرّةً شعراً، ومرّةً نثراً، مرّةً ممثلاً عظيماً في فيلم الأرض مع محمود المليجي، ومرّةً مخرجاً لمسرحيات، وكان كل ما يفعله في الفن لَبَناتٍ صغيرة يبني بها صرحَ حياة نادرة لإنسانٍ شديد التفاؤل، ذي حضور مبهج، يغمر مَن حوله بالدّفء والأمل، ويكتب في السادسة والعشرين في قصيدته "انطلاق":

الليلُ.. كم أوقَـفـْتـُهُ مُترنِّحًا = والنايُ كم صَيرَّتـُهُ سَـكْرانا
والنورُ.. كم أذهلتُه فتقدَّمتْ = منه بشائـرُ تغـمـرُ الأكـوانا
والزَّهرُ، كم أرقصتُهُ فتفتَّحَتْ = أكمامُه.. وتضوَّعَتْ بستانا!

التفاؤل بقدرة الإنسان على أن يذهل النور كان مقترناً عند والدي بسِمَةٍ نفسيةٍ أخرى عميقة هي العطف على البشر والأشياء القوي منها والمنكسر. من هنا اكتسب شهرته "القديس" حين أخرج ذات ليلة شتوية باردة في القاهرة كل ما في جيبه من نقود ومنحها لسائق حنطور عجوز كان يركب معه، وفسّر ما فعله بقوله: "كان الرجل يبدو شديد البؤس وحتى رقبة حصانه كانت نحيفة بشكل يدعو للأسى!".

في السنوات الصعبة الأولى بالقاهرة أخذ الخميسي يرسّخ مكانته كأحد الشعراء البارزين في كوكبة ضمّت إبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل وعلى محمود طه ممن أقاموا المدرسة الرومانسية في الشعر العربي. وكتب حينذاك واحدة من أجمل قصائده وهي "في الليل" التي توقّف عندها صلاح عبد الصبور في حديث للبرنامج الثقافي بالإذاعة قائلاً "عندما ينجلي غبار اللحظة الراهنة سيتوقّف الشعر طويلاً أمام قصيدة في الليل"، وهي نموذج للطابع الرومانسي لتلك المدرسة الشعرية العظيمة، وفيها يقول:

"وحرامٌ على الغرامِ ضياعي

وحلالٌ في ظِــلـــِّهِ تَـغـْرِيــدِي

وحرامٌ على العذابِ اجْتياحي

وأنا ما بلغْـتُ عُمرَ الورودِ!

وحرامٌ على العيون اللواتي

حيَّرتْني، في بُعْدها تشريدي

وحرامٌ على الهوى يا حبيبي

أن يُحيلَ السعيـدَ غيرَ سعيـدِ

وحرامٌ على الليالي طَـوافـي

حول أهوالِها الْغضابِ السودِ

وأنا ما خُـلـِقـْتُ إلاَّ لأشـــدو

فى ركابٍ من الجمالِ فَريــدِ

أيّها الليلُ.. في فؤاديَ لـيـلٌ

زاخرُ الموجِ ليس بالمحدودِ"

في سنوات الشقاء تلك كتب الخميسي قصته "النوم" التي توقف عندها د. علي الراعي مطولاً في مقاله "الخميسي الإنسان والفنان"، وفيها يفتّش شخص متشرد عن مكان للنوم فلا يجد سوى عربة يد فيفترشها، وهنا يفزع صبي كان يرقد على نفس العربة ثم يطمئن الصبي حين يعلم أن القادم بائس مثله فيقول له: "نام.. نام يا سيدي.. العربة واسعة.. لازم تعمل هيصة علشان ييجي العسكري يطردنا؟". ويعتبر د. على الراعي قصة النوم "أحسن قصص الخميسي وأكثرها إنسانية"، ومع ذلك يقدر د. على الراعي أن: "أغلب القصص السياسية لدي الخميسي دعاية غير عميقة لقضايا ومشكلات يبدو أنها سكنت عقل الخميسي دون قلبه" (8)، والسبب في الطابع السياسي لعدد كبير من قصص الخميسي أن تلك السنوات كانت مخاض ثورة تدقُّ الأبواب حتى بالكفاح المسلح في القناة في بلد اعتصر خيراته الانجليز والملك والباشوات. وقد ساعد الخميسي على خوض غمار تلك المعركة الوطنية العامة التحاقه بجريدة المصري الوفدية صوت الحركة الوطنية حينذاك، ويسترجع الخميسي تلك اللحظة قائلا: "كان عليَّ، في مرحلة الصدام بالسلاح الأبيض عام 1951 ضد الملكية وقوات الاحتلال الانجليزي في القناة، أن أبحث عن أسلوب جديد لتعبئة الجماهير، ولم تكن القصيدة تكفي كسلاح، كان لابدّ من سلاح جديد"، وبدأ الخميسي يكتب زاوية يومية سياسية تحت عنوان "من الأعماق"، وشرعت مجموعاته القصصية في الظهور: "قمصان الدم"، "صيحات الشعب"، "لن نموت"، "دماء لاتجف"، و"رياح النيران" وكتابه "المكافحون" الذي ضمَّنه سيَراً لحياة عدد من المفكرين والمناضلين الكبار كالأفغاني وعمر مكرم وغيرهما. وفي تلك الفترة أعاد صياغة "ألف ليلة وليلة" بعنوان "ألف ليله وليلة الجديدة" برؤية مغايرة. وعلى صفحات جريدة المصري قدّم الخميسي للقراء يوسف إدريس للمرة الأولى، ثم عاد بعد أكثر من عشرين عاماً ليقدمه ثانية إلى قراء جريدة الجمهورية في مارس 1962 بقوله: "وبيننا اليوم مؤلِّفٌ لامعٌ هو الدكتور يوسف إدريس، أذكر أنني كنت أول من رحّب بإنتاجه الفني، وأفرد له مجالاً في جريدة المصري، بل لقد نشب خلاف عنيف بيني وبين أحد المسئولين في الجريدة حين نشرت ليوسف إدريس أولى أقاصيصه، فقد كان ذلك المسئول يرى أنه لا ينبغي للجريدة أن تنشر قصصاً لأسماء غير معروفة، وكنت على عكس رأيه، وصمّمت على موقفي وجعلت أنشر قصص إدريس في المكان المخصص لكتاباتي.. كنت أتوارى ليتقدم يوسف إدريس" (9). وعندما توفي الخميسي في أبريل 1987 نعاه يوسف إدريس في الأهرام بقوله: "كان الخميسي قوياً عملاقاً مقاتلاً إلى ألف عام، وكان فمه مفتوحاً على آخره، مستعداً لابتلاع الحياة كلها بكل ما فيها من طعام وشراب وجمال، ابتلعته الغربة وإلى أربعة أركان الكرة الأرضية مضى يتسلّمه ركنٌ ليرفضه ركن، وهو قويٌّ مقاتل وطني عنيد، هذا الشاعر.. المخترع.. الموسيقي.. الذي قهر من قهرنا جميعاً". (10)

التفاؤل والتعاطف مع الآخرين كان مرتبطا بخاصية أخرى، أعتقد أنها تلازم كل فنان كبير، وأعني بها مقاومةَ الواقع بالخيال، نفيَ القبح بجمال موهوم، ونفيَ الفقر بثروة متخيلة، ونفيَ القيود بحرية متصورة. فيما بعد كتب يقول: "سري.. أني أخلق من أحلامي دنيا أخرى". وقد أتاحت لي الظروف أن أكتشف مبكراً هذا السر، الفني والإنساني، وأنا صبيٌّ في السابعة، عندما ذهبت لزيارته في المعتقل مع أمي عام 1955، لم أعد أذكر في أي مبنى ولا أين، أذكر فقط الرحلة الطويلة المرهقة، وشوقي الطفولي لمصافحة والدي، وجلوسي أنا وأمي في انتظار رؤيته على دكّة خشبية بغرفة مأمور السجن، ثم دخوله من الباب ومعصمُ يده مربوطٌ بقيد حديدي إلى يد شاويش. وما أن رآني حتى ضحك بقوة ورفع لأعلى يده بيد الشاويش يخاطبني ليبعث جرأة في نفسي: "إنظر!" (وأومأ برأسه ناحية الشاويش) "لقد قمت بسجن هذا الرجل لأنه شقي!". جلس بجواري على الدكّة مبتسماً يحيطني بحنان يسري دون أن تراه كالعطر. وأخذ يمعن النظر فيَّ يستوثق إن كانت حكايته قد انطوت عليّ أم لا، وأسعفتني طفولتي على قلّة سنواتها فابتسمت له بدوري لأوحي له أنني صدّقت أنه حرٌّ وأن الشاويش العجوز في ردائه الرسمي هو المحبوس! كان هذا سره الذي يخلق به دنيا أخرى، دنيا يصبح الواقع فيها معكوساً، ويغدو هو حراً والدولة معتقلة!

من ابتسامته، ومن ابتسامتي، المشبعتين بالحب وبالمكر الحاني برزت في رأسي لأول مرة في حياتي فكرة أولى القصص التي خطّطتُ لكتابتها وإن كنت لم أفعل ذلك حتى الآن، فقط تخيّرت منذ ذلك الوقت لها اسمها "ابتسامتان"!

ويشير رجاء النقاش إلى أن العطفَ على البشر وشدَّ أزْرهم كان سمةً نفسية أصيلة عند والدي فيقول: "كان أول أديب كبير عرفته عندما جئت إلى القاهرة من قريتي أواخر سنة 1951 هو الشاعر والروائي والمفكر الإنسان عبدالرحمن الخميسي.. وكان مكتب الخميسي بيتاً روحياً لي، ودائماً كنت أجد هذا المكتب ممتلئاً بنماذج مختلفة من البشر، أدباء ومطربين وملحنين وسياسيين وذوي حاجة.. فقد كان الخميسي دائما مفتوح القلب والمكتب، وكان لديه شعور قوى ودائم بالرغبة في خدمة الناس وإدخال السعادة على قلوبهم، ولم يكن الخميسي من الأثرياء، ولكنه كان من الأقوياء.. وكان دائما يتحرك بطبيعة نفسية واحدة قوية ومتفجرة، كان إنساناً مفتوح القلب إلى أقصى حدّ، يميل مزاجه إلى المرح الغامر، يحب الحياة بل ويقدّسها، وفيه شيء من شخصية “عبدالله النديم”، ذلك الإنسان العجيب الذى كنت تزرعه في أي مكان فينمو ويزدهر" (11). ويضيف النقاش في المقال ذاته إن الخميسي لم يقدّم فقط يوسف إدريس بل وقدم أيضا على صفحات المصري فتحي غانم وآخرين، كما قدّم للسينما عدداً كبيراً من نجوم منهم شمس البارودي، ورشوان توفيق، وحسين الشربيني وغيرهم، وفي مقدمة أولئك جميعاً لؤلؤة الشاشة سعاد حسني، ولم يكن مجرد مكتشف لها، لكنه قاتل من أجل ظهورها حين رفض الموسيقار الكبير عبد الوهاب إنتاج الفيلم بممثلين مجهولين هما سعاد حسني ومحرّم فؤاد، فتشبّث الخميسي برأيه، إلى أن توسّط المخرج هنري بركات لدى عبد الوهاب وبدّد مخاوفه من احتمال فشل الفيلم.

وعلى مدى أكثر من عشر سنوات (1940–1950) تشكّلت المرحلة الأولى الأكثر صخباً وثراءً في حياة الخميسي، والتي أصبح في نهايتها كاتباً وشاعراً وقاصّاً وصحفياً وإذاعياً شهيراً بعد أن قدمه للإذاعة محمد فتحي وأخذ يبث عبرها قصائده وبرامجه التي كان يؤلفها ويخرجها. وقد أشار د. السيد أبو النجا في كتابه "ذكريات صحفية" إلى أن جريدة المصري أجرت استفتاءً في تلك السنوات تحت إشرافه الشخصي تبين منه أن الخميسي كان أكثر الكتاب الصحفيين شهرة حينذاك.

ومع بزوغ ثورة 23 يوليو ومضيها في إنجاز أهم أهداف الشعب المصري الوطنية والقومية تبدأ في تاريخ مصر وفي تاريخ والدي الشخصي والفني مرحلة جديدة ثانية مختلفة. وقد قامت المصادفة بدورها في لقاء غريب قبل الثورة بين والدي وجمال عبد الناصر، سرد تفاصيله الأستاذ محمد حسنين هيكل في سلسلته "تجربة حياة" لقناة الجزيرة قائلاً: "في هذا الوقت أنا كنت ساكن في بيت رقم 14 شارع شجرة الدر في شقة صغيرة ثلاثة حجرات، وقال لي عبد الناصر - أنا رحت مرة أزور الأستاذ أحمد أبو الفتح في جريدة المصري، انتظرته في حجرة فيها الأستاذ عبد الرحمن الخميسي، والأستاذ الخميسي كان يصلح فيما يبدو بروفة قصة، وجمال عبد الناصر كان يحاول يسأله على حاجة، فيردّد الخميسي عبارة كان واقف عندها في القصة: "هذه ليست ساقي ولكنها ساق رجل آخر". جمال عبد الناصر فِضِلْ حافظ الجملة. جمال عبدالناصر يقول له: "هو الأستاذ أحمد أبو الفتح يعني سيتأخر ولا حاجة؟"، فالأستاذ الخميسي يرد: انتظر. هذه ليست ساقي ولكنها ساق رجل آخر. وفضل جمال عبد الناصر حافظ العبارة دي، وسألني: من هو الخميسي هذا؟ " (12).

هذا ما قصه الأستاذ هيكل منوّها بذاكرة عبد الناصر الفولاذية ودهشته من استغراق الخميسي في كتابة رواية كانت تنشر في المصري بعنوان" الساق اليمنى" استغراقاً بلغ عدم الاعتناء بضيف في حجرته، فما بالك وأن الضيف هو عبد الناصر شخصيا؟!. وما لبثت الثورة أن تفجرت بعد شهور قليلة، وعقد عبد الناصر اجتماعاً في جريدة المصري مع كبار كتابها، وكان من بينهم والدي، ولم يهمل عبد الناصر الواقعة فقال للخميسي: ألا تذكرني؟ جئتك منذ شهور هنا؟. فضحك الخميسي قائلاً: وأنا كنت أعرف منين أنك ح تبقى زعيم ثورة؟!. وضاعف من طبيعة العلاقة المعقدة بين الثورة ووالدي أنه كان قد نشر مقالاً في مجلة الكاتب التي ترأس تحريرها طه حسين بعنوان "ما الذي يريده الشعب" دعا فيه إلى عودة الحياة الديمقراطية ورجوع الجيش إلى الثكنات. ثم اتضح موقف والدي بقوة حين أخذت الثورة في التضييق على حرية التعبير، ولم يجد الخميسي حيلة يعبر بها عن رأيه الحقيقي سوى كتابة مقال ظاهره مديح في الثورة وباطنه سخرية من الطابع العسكري للحكم إذ اختتم مقاله في جريدة المصري بعبارة غريبة هي "يا مهلبية يا!". وكانت العبارة مطلع أغنية شعبية رائجة لشكوكو حينذاك!. وبعد أيام ثلاثة وجد في مكتبه ضابطا يسأله عن المقال. فقال له: ماله؟. فأجابه الضابط: مقال عن الثورة ينتهي بعبارة " يامهلبية يا"؟! فأوضح الخميسي له: "هذه غلطة مطبعية! فقد قفزت العبارة بالخطأ من صفحة برنامج أغاني الإذاعة إلى نهاية المقال!".

وفي 24 يونيو 1953، وكان والدي جالساً في محل الأمريكين الشهير بشارع سليمان باشا فوجىء بضباط من البوليس السياسي يتقدمون إليه ويفتشون حقيبته حيث ضبطوا فيها منشوراً بعنوان "عد إلى بلادك يافوستر دالاس"، ومنشوراً آخر من ثلاث ورقات بعنوان "الاستعمار في مصر" ووفقاً لملفات المباحث العامة التي نشرها المحامي عادل أمين فقد طالب الخميسي بإلغاء الأحكام العرفية وعاد إلى توضيح موقفه ذاته مرة أخرى لوكيل النيابة بقوله إنه "لا يرى أية دواعٍ لإقامة الحكم العسكري".

ووارت القضبان والدي معتقلاً لنحو ثلاث سنوات، في تلك السنوات كنا نعيش في بيت جدي وجدتي في شارع فيصل (كان حينذاك ترعة طويلة نسبح فيها)، ولم تكن تصلنا من أبي سوى خطاباته وحكاياته الضاحكة، فقد زارنا ذات يوم أحد أصدقائه ممن كانوا معه في السجن، وحكى لنا أنه كان مع والدي في زنزانة وحدهما حين أدخلوا إليهما فلاحاً بسيطاً ألقى عليهما السلام وجلس مهموماً. فسأله والدي عن جريمته التي قادته إلى السجن؟ فحكى الفلاح بتردّد أنه – بصراحة يعني - زحزح الحديد الذي يعلّم حدود أرضه لمسافة قليلة نحو أرض جاره. فما كان من والدي إلا أن هتف فيه: يانهار أبيض! ماذا جرى في هذه البلد؟ أمن أجل زحزحة حديدة يعاقبونك بالإعدام؟!. فبهت الفلاح متسائلاً: أي إعدام يا أفندي؟. فأجابه والدي: ألا تعلم أن هذه زنزانة المحكوم عليهم بالإعدام؟ بالأمس فقط كان عددنا عشرين شخصاً والآن لم يبق سواي أنا وزميلي! فكاد الفلاح البسيط أن ينهار من الذعر حتى لحقه والدي منفجراً بالضحك: يا رجل كنت أمزح معك!. من داخل السجن أيضا جاءتنا خطاباته، مازلت أحتفظ بواحد منها، يحذّر أمي فيه من أن تتركنا – نحن أولاده – نستسلم للخوف والحزن ويقول لها: "الخوف والحزن ألدّ أعداء الروح الإنسانية، فلا تدعي الأولاد يحزنون أو يخافون شيئاً". في سنوات الطفولة تلك كان أبي دخان خيالات وحكايات وكلمات يتصاعد في روحي ويملؤها بصورة كاتب يدافع عن قضية، هكذا عرفت أبي قبل أن أراه، وقبل أن أضع كفي الصغيرة في كفه الكبيرة.

خرج أبي إلى الحرية عام 1956، ولكنه وجد مصر أخرى غير التي عرفها، بدون أحزاب، بدون هامش للمعارضة. وبدأت مرحلة أخرى ثانية في حياة ذلك الفلاح الذي جاء من القرية ذات يوم ليواجه المدينة، مرحلة كان عليه فيها أن يجد طريقة أخرى للتعبير عن نفسه. ومازلت أذكر بوضوح ليلة عودته إلينا وكيف جلس أمامنا على سطح منزل جدي في ضوء مصباح خفيف وقد وضع ساقاً على ساق يتحدث بثقة وتفاؤل عن خططه للمستقبل وهو ينفث دخان سيجارته في نسيم الليل المنير. كلا، لم تسلبه التجربة روحه ولا عشقه للحياة.

سرعان ما التحق أبي صحفياً بجريدة الجمهورية وأخذ يكتب فيها، وبدا لوهلة كأن حياتنا سوف تنتظم، لكنها كانت لمعة استقرار على سطح من نار وقلق، فسرعان ما فصلته السلطة في أبريل 1958، ثم تلا ذلك فصل مجموعة من كتاب الجريدة في 1964 كان على رأسهم طه حسين الذي كتب في يوليو 1964 يعقب على ذلك الإجراء بمرارة: "لقد استغنوا عن خدماتي ضمن عدد من المحررين"! وأدرك الخميسي الطابع المعقّد لعلاقته بالثورة، وأن عليه أن يشقّ لنفسه طريقاً آخر بعيداً عن الصحافة، وفي السنوات ما بين 1958 حتى وفاة الزعيم عبد الناصر، تبعثرت جهود والدي في كل اتجاه، فأنشأ فرقة مسرحية "غرضها رفعة شأن المسرح العربي"، وأخذ يؤلف ويمثل ويخرج لها. واتجه إلى السينما، وأخرج أول أفلامه "الجزاء" عام 1965، وأعدّ مجموعة من الأوبريتات الغنائية منها "الأرملة الطروب" من تعريبه، و "مهر العروسة" و "الزفة" من تأليفه، وصار يكتب للإذاعة تمثيلياته "حسن ونعيمة" التي تحولت لفيلم، و "البهلوان المدهش" وغيرها، وأقام شركة خاصة به للانتاج السينمائي، بل وسجّل عدة مقطوعات موسيقية من تأليفه منها "لومومبا"، و"شارع الهرم" وغيرها، بل وشارك بالتمثيل في فيلم "الأرض" ليوسف شاهين بدور مرموق، وخلال ذلك تراجع اهتمامه بالشعر والقصة. وكان والدي بكل ذلك النشاط المتنوع، والمشتّت، يحاول أن يتجاوز موضوع فصله من جريدة الجمهورية، ويثبت للحياة، وللجميع، ولنفسه أيضا، أنه قادر – مهما أغلقوا الأبواب أمامه - على فتح نوافذ وأبواب أخرى، وأذكر أن عمّنا الساخر العظيم محمود السعدني أهداه كتاباً من كتبه في تلك الفترة، فكتب إليه: "إلى الخميسي الذي يشبه الكرة، كلما ضربوها لأسفل قفزت لأعلى". هذا ما كان يفعله في تلك السنوات التي لم يشغل فيها أي منصب رسمي، وعلى العكس كان يهرب من تلك المناصب، وقد كتب صلاح عيسى في مقال له عن لقاء وزير الداخلية الأسبق شعرواي جمعة بوالدي، وحينذاك ظهر ما يسمى بالتنظيم الطليعي الذي أنشأه الاتحاد الاشتراكي لكن سرّاً! وطلب شعرواي جمعة من والدي أن ينضم إلى الطليعي، ولم يكن من الخميسي إلا أن ضحك قائلاً له إنه ثرثار ولا يصون الأسرار فإذا انضم إلى التنظيم الطليعي لا يضمن ألا تفلت منه كلمة تؤدي لاعتقال أعضاء التنظيم! وضحك شعرواي وفهم الاعتذار.

في سنوات مابعد الثورة كنا نعيش كما يقال على فيض الكريم، فمرة يتوفر لدينا المال وعشر مرات لا نجد مليماً لندفع حتى إيجار المسكن فينفتح علينا أو أمامنا باب الاقتراض، وكان شعار والدي الأثير في تلك الأوقات: "حتى الدول تقترض من بعضها البعض، فما بالك بإنسان بسيط مثلي؟!". وأذكر أنني دخلت إلى حجرة مكتبه ذات صباح فوجدته جالساً وأمامه على المكتب كرة أرضية صغيرة تلفّ وهو سارح يتابع دورانها بعينيه، فسألته مازحاً: "هل تدرس الجغرافيا من جديد؟". فقال مبتسماً: "لا يا إبني لكني أفتش في الكرة الأرضية عن بلد لم أقترض منه!". والغريب أننا – نحن أبناءه – وكنا نأكل في الأيام الاعتيادية ما يتوفر من طعام مألوف، كنا نرقص معاً فرحاً وسروراً في حجراتنا المغلقة إذا تنامى لعلمنا أن والدي قد أفلس! وسبّب ذلك أنه كان لديه صديق "كبابجي" في ميدان التحرير فإذا ضاقت به الحال اتصل به فيرسل إلينا "كبابا وكفتة وسلاطة"، وبلغ بنا الأمر حد أن أختي الصغيرة كانت ترفع يديها للسماء قبل أن تنام وتدعو الله أن يجعل والدنا مفلساً لنأكل "كباب"، إلى أن ضبطتها أمي ونهتها عن ذلك! وبالرغم من أحوالنا المادية المتقلبة تلك فإن بيت الخميسي لم يختلف كثيراً - بعد عشرين عاماً - عن صورة ذلك البيت أواخر عام 1951 كما رسمها له رجاء النقاش، كان البيت دوما ممتلئاً بنماذج مختلفة من البشر بدءاً من نجوم السينما مثل أحمد مظهر ومحمود المليجي وعبد الحليم حافظ، مروراً بنجوم صاعدين حينذاك مثل عادل إمام، وكتّابٍ كبار مثل الأستاذ محمد عودة ومحمود السعدني ويوسف إدريس، ورجال سياسة، انتهاء بأدباء وممثلين ومطربين وذوي حاجة، كان من بينهم موسيقى عجوز يسعى أبي لشقّ طريق له في الإذاعة، فكان الرجل يأتي كل ليلة تقريباً ويتعشّى معنا، وبينما كان والدي مشغولاً بتقديمه للصحفيين والإشادة بقدراته كان الرجل منهمكاً بتركيز وببسمة طيبة في سرقة الملاعق والشوك مرسلاً في الجو نظرة آسية لموسيقى ظلمت موهبته. ولاحظ أبي ما يحدث ولزم الصمت إلى أن ضج منه ذات مرة أحد أقاربنا فصاح فيه: يا أستاذ عصام اترك الشوك الآن، الأستاذ الخميسي يتحدث عن ألحانك! دعك من الشوك!

وكان ذلك الخليط الدائم التواجد في بيتنا من نجوم وأصحاب حاجات ومحتالين ومفكرين وفنانين تعبيراً عن تلك الخلطة الغريبة الفكرية والإنسانية والفنية التي تشكّلت منها حياة والدي أو التي شكلتها حياته.

وبوفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر مرّ والدي بمرحلة ثالثة وأخيرة هي مرحلة الهجرة. وشدّ رحاله وغادر مصر ضمن ما عرف بموجة "هجرة الطيور" التي شملت محمود العالم وأحمد حجازي وأمير اسكندر وأحمد عباس صالح وعدداً من كبار كتاب مصر هاجروا بعد وصول السادات للحكم. ولم يبق للخميسي سوى الاغتراب، ما بين روما وباريس وموسكو وبيروت وطرابلس وبغداد، وحينها كتب:

"أسافر في الزمان وغربتي عجب

ومصر في قلبي حرائق..

وما بيدي أطفىء من لهيبي..

فكم علق لي حبي مشانق! "،

ثم كتب ثانية:

"كسروا يراعي، لكني حفرت على

جدارن مصر أناشيدي بأظفاري

دمي هنالك مكتوب، وإن طمسوا

حروفه أجَّ في الظلماء كالنار

وحيث هم صلبونا كلما بزغت شمس

رأي الناس فيها لون أشعاري!"

وقد علق الشاعر الكبير أحمد حجازي على تلك الأبيات بقوله: "عبدالرحمن الخميسي في هذه الأبيات لا يرى الحرية إلا على أنها نشيد محفور، والنشيد المحفور في أبيات الخميسي ليس مجرد شعر، وليس مجرد لغة، وإنما هو دمه المكتوب. الشعر هو ذاته وحياته، وهو الروح التي لا يحيا بها وحده، وإنما تحيا بها مصر كلها" (13)

وعلى مدى معرفتي بوالدي، وعلى كثرة ما كتب، لم أر له أبداً مكتباً يجلس إليه، أو حجرة خاصة به، كان العالم كله بداخله: مكتبه وأوراقه وإلهامه، معرضاً طيلة الوقت لضوء خاص من الخيالات، وكانت له طبيعة الطائر القلق الذي يعي أن موته في بقائه على الغصن! ولم يكن يطيق أن يشبه يوم يوماً آخر، ولا أن تشبه لحظة لحظة أخرى، ومازلت أذكر أنني استيقظت ذات صباح فرأيته يمرّ في الردهة متّجها إلى الحمّام، وكانت هناك مرآة معلقة في الردهة، فتوقف أمامها برهة ينظر إلى وجهه ثم صاح : يارب غير لي وجهي بقى، هو هو أراه منذ خمسين عاما!.

ولعل حياته العجيبة الرحبة التي اتسعت لكل شيء هي التي دفعته لأن يقول العبارة التي ذكرها أحمد بهاء الدين حين كتب ينعيه في الأهرام قائلاً: "دهشت عندما قرأت في نعي الخميسي أنه توفي عن سبعة وستين عاماً فقط. كنت أشعر أن عمره مائة سنة، لا لشيخوخته، فقد كان أكثر من عرفتُ شباباً ونشاطاً وحركة، ولكن لكثرة ما أنتج وكثرة ما عاش وكثرة ما دخل السجن وكثرة ما سافر في أنحاء الدنيا وكثرة ما ترك من أبناءٍ وبنات. وكنت أقرأ له صفحة أسبوعية كاملة في جريدة المصري وأنا مازلت طالباً، فلابد أنه بدأ الكتابة في سن مبكرة، ومازلت أحفظ له كلمات قالها لي في مكتبي بمجلة "صباح الخير" سجلتها ولم يكتبها ولم تعلق بذهنه: "عشت أدافع عن قيثارتي.. فلم أعزف ألحاني"! والكلمة تصف حالنا جميعاً: "كل فنان أو عالم يقضى أغلب وقته في مواجهة الشرور والأشرار، بدلاً من الانصراف إلى إنتاجه وإبداعه.. وهي كلمة تصف محنة جيل بأكمله" (14).

وفي أبريل 1987 رحل والدي، وهو يوصيني أن أدفنه في المنصورة بلده، وأن أغرس له بجوار مدفنه شجرة لأنه واثق تماما أنه سيعود عصفورا وحينئذ سيكون بحاجة إلى غصن ليطلق من فوقه أغنياته. وقد فعلنا.

حين أكون في المنصورة وأتوقّف أمام مدفنه، فإنني أطلق بصري في مسبح الهواء، ويخيّل إلى أنني أرى ذلك العصفور يرفّ في الأجواء، ملوناً نزقاً متمرداً محباً للحياة وللبشر، يفتح صدره مرسلاً أغانيه، وها أنا أقف صامتاً تحت جناحيك أنصت إلى شدوك الحر، العذب، العميق:

"وأطير حتى أستحيل غمامةً

وأرِفُّ طيرًا شاديًا لهفانا..

وأحب هذا السهل مُنْبَسِطًا، كما

أهوى الجبالَ، وأعشق الوديانا

وأقاسم الليلَ الحزين شجونَـهُ،

وأساجل الفجرَ الجميلَ.. حنانا" (15)

ويظل صوتك المغرد في ضميري.


هوامش:

1- أحمد هاشم الشريف – مجلة صباح الخير – 16 أبريل 1987
2- الخميسي – ديوان أشواق إنسان – القاهرة 1958
3- الخميسي - ديوان اشواق إنسان -1958
4- الخميسي - جريدة البلاغ – الأحد 23 يوليو 1944
5- موسى صبري – مجلة آخر ساعة – 15 أبريل 1978
6- كامل زهيري – جريدة الجمهورية – 4 أبريل 1987
7- محمود السعدني – مجلة صباح الخير – أبريل 1987
8- د. على الراعي - عبد الرحمن الخميسي الكلمة والموقف – دار الوحدة – بيروت 1975
9- الخميسي - جريدة الجمهورية – مارس 1962
10- يوسف إدريس - الأهرام – 20 أبريل 1987
11- رجاء النقاش – العربي الناصري – 23 مارس 2008
12- محمد حسنين هيكل – تجربة حياة - قناة الجزيرة 26 يناير 2006
13- أحمد حجازي – المصري اليوم – 9 أبريل 2008
14- أحمد بهاء الدين – يوميات – الأهرام 4 أبريل 1987
15- الخميسي – ديوان دموع ونيران – القاهرة 1962

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى