سايمون أبرام - الجرذان اللحيمة والقنافذ الشحيمة.. قصة قصيرة

عندما استيقظت الجدة ذات صباح جميل ، اشتهت أن تملأ أحشاءها بلحم بري مشوي ، رفعت منخريها الواسعتين إلى الأعلى قليلاً ثم سحبت إلى رئتيها جرعات متتالية متعجلة من الهواء الطازج ، أن ثمة رائحة ذكية لشواء تعبث بمكامن رغبتها اشارة من الطبيعة للإجهاز على لحم بري، ولكن لم يكُ الأمر بهذا اليسر إذ لا توجد بحوزتهم الآن أية لحوم برية طازجة أو حتى مجففة لتشبع شهوة الجدة.. كانت الشمس تكشف عن وجه باسم ، والأرض الطينية اللينة تنفث جزيئات الماء وهي تصعد إلى السماء بفعل حرارة شمس اليوم اللطيفة، لم تزل آثار الغيوم التي انهمرت ليلة أمس تتحاوم في الفضاء وهي تتلاشى هاربة من بسمة الشمس الماكرة الخبيثة، وهاهي ذا الماشية من البقر والماعز والخراف تصطف في صف طويل في دربها إلى المراعي المتاخمة للقرية، والغلمان الرعاة يصرخون بها وهم يركضون هنا وهناك لتأخرهم في الخروج على غير العادة ..
ارتأت الجدة اشباع رغبتها ، حدثت نفسها قائلة " لابد من الخروج إلى حقول الذرة".. لم تك الجدة مرغمة على الخروج في حقيقة الأمر ، كان بإمكانها اطلاق أوامرها للغلمان الرعاة فيجلبون لها كل ما تشتهي مما لذ وطاب من اللحوم طيورا كانت أم أسماكا أو حتى حيوانات برية ، ولكن يبدو أن طقس اليوم الجميل هذا يحرض على الخروج بالفعل حتى للعجائز .." يا أبان " نادت الجدة على حفيدها ابن ابنها ، ثم استطردت بعد أن جاءها الصبي :" سنخرج أنا وأنت إلى المزارع القريبة بعد قليل" قالت له هذا الكلام وانصرفت تجمع عدتها من جرة ماء صغيرة وشراك الجرذان والقنافذ، بعض الحبال وآلات حادة لا مناص منها.. كاد الصبي الصغير يطير فرحاً ، بل كاد يهتف بصوت عال من فرط بهجته إذ أن الخروج إلى الحقول وبصفة شرعية كهذه يعد فرصة ، وسياحة استكشافية لا يجوز تجاوزها، بل حدَّث نفسه قائلاً :" لذا أحب جدتي" وأضاف أيضاً بصوت شبه مسموع ما معناه :" المفاجآت الرائعة تأتي من الجدة " .. كان "أبان" حفيد الجدة هذا صبياً ذكياً وقوياً ، لا يخرج إلى المراعي مع الغلمان الرعاة لصغر سنه أو بالأحرى لأنه لم يبلغ ذاك السن الذي يسمح له بذلك ، لذا كان يقتصر جولاته داخل القرية مع أقرانه يلعبون تحت الأشجار الظليلة في الفناء، غير أن ذلك لم يثنه عن التسلل إلى الحقول القريبة أحياناً ، وكان لا يستجيب عند مناداته إلا بعد أن يتأكد أنه قريب للمنادي لكيلا يفتضح أمر ابتعاده.. تحرك الركب بل الجدة وحفيدها "أبان" ، يسيران جنباً إلى جنب في درب رائع جميل، تحفه بجانبيه أعشاب خضراء وأزهار متوجة بالطل الذي ابتدأ ينسحب منها رويدا رويدا بينما الطيور الطنانة الرشيقة ترتشف الرحيق البارد .. تمنى "أبان" وهو يتأمل طائرًا طناناً ذا ألوان مزركشة الإمساك به، حتى إن عاد إلى القرية، يربط برجله خيطاً طويلاً ليتباهى به بين أقرانه، فأخذته سرحة على حين غرة ، زلت رجله في حفرة لم يتنبه لها، استفاق منها عندما سحبته الجدة من يده بشدة قائلة :" انتبه يا هذا".. عاتب الصبي الصغير نفسه سراً أن تصرفه بدون لياقة قد ينسف له أشياء بل أحلاماً، لذا آثر الإنتباه على طول الدرب.
كانت الجدة حدباء قليلاً ، تسير بخطوات منتظمة دقيقة وهي تميل على عصاها حيث تصدر وقع أرجلها الثلاث على الأرض ما يمكن أن يسلي من ايقاع ثابت لولا النشاز الصادر عن الصبي "أبان" ..ها هما قد بلغا الحقول تخلصت الجدة من جعبتها بمساعدة الحفيد، ومن ثم أمرته بفتحها واخراج العدة..شرعت أصابع الجدة شبه الخشبية في اعداد الشراك ونصبها، وهي تملي الصبي كل خطوة تقوم بها على مر الوقت بغية تعليمه.. "عليك أن تضع الشراك عند مداخل جحور الجرذان مباشرة يا حفيدي أو في دروبها، فالجرذان هنا لا تحتاج إلى طُعم، ولكنها تقع في الشراك لغفلتها أو لحبها الكثير للهو وهي كائنات تمتاز بالذكاء ، ولك ألا تنس أن لحومها أشهى من الدجاج ، أما القنافذ فهي كائنات خجولة، لا تحبذ الضوء، ولا تتحرك إلا لماماً ، لذا عليك بوضع طُعم لها من اللحوم ذوات الروائح النفاذة تحت الأعشاب الكثيفة حيث تقيم، ما يحرضها على الخروج على مضض لتقع في الشراك، فيكون صيدك وفيراً ببركة أجدادنا، أما لحومها يا حفيدي العزيز، فهي الأشهى على الإطلاق، وجلودها المليئة بالأشواك، تبخر بها المساكن، لأن لها روائح طاردة للأرواح الشريرة ".. لم يك " أبان" يولي شرح الجدة كل تركيزه رغم استيعابه لكل ما قالت وفعلت ، بل كان يسترق النظر ويرهف السمع هنا وهناك ، حتى صادفت ناظرتاه حيواناً صغيراً غريب الشكل، كان يتغير لونه بين الفينة والأخرى أينما حل ، وبينما هو يراقبه ملياً لاحظت الجدة ذلك ، وقبل أن يسألها الصبي قالت: " إن هذا الحيوان لهو الحرباء، فلا تكن في حياتك كالحرباء فهو يتلون ولا يبقى على لون واحد ثابت ، أما نحن البشر ، يجب علينا الثبات على لوننا الذي خُلِقنا، جسداً وسلوكاً "..
في طريق عودتهما كانت الجدة وحفيدها " أبان" ينوءان من ثقل الصيد الوفير، عندما تقابلا بامرأة حامل في شهورها الأخيرة ، وهي عائدة من المزارع بحثاً عن بعض الأعشاب الطبية، تحننت الجدة عليها فمنحتها بعضاً من صيدهما وهي تقول :" خذي يابنتي هذه الجرذان الأربعة وهذا القنفذ الشحيم، إن لحمها أخف على معدة الحوامل من غيرها" .. لا يمكنك وصف درجة سعادتها وهي تشكر الجدة على عطيتها الثمينة، ثم أرادت أن تساعدهما على حمل بعضاً من الصيد إلا أن الجدة العجوز امتنعت بشدة قائلة :" إنت تحملين أكثر منا ، يكفي ما في بطنك"..
انطلق دخان الشواء في الأرجاء والجدة تنتظر حصتها من اللحم الطازج ، أما "أبان" الحفيد القوي الذكي، صار يروي لأصحابه قصة رحلتهما للصيد والتي لم تخل من المبالغة أحياناً كثيرة كقوله أنه استطاع –لوحده- أن ينبري بعصا غليظة لقنفذ كاد يهرب لولا تدخله العاجل.. أما أصدقاءه فقد كانوا يستمعون له بآذانهم وعيونهم وأفواههم ، جاعلين منه بطلا من أبطال القرية.. لم تمر سوى عشر دقائق قضتها "والدة أبان" عند جارتها لأمر كانت تقضيه عندما عادت لتجد قطط الجيران وهي على جرذان العجوز اللحيمة وقنافذها الشحيمة.


سايمون أبرام / جنوب السودان
أعلى